رُوي أن أبا العتاهية عندما خرج عن قواعد العروض، ونظم على أوزان لا توافق ما استنبطه الخليل، في قصيدته التي يقول فيها:
للمنون دائرا تٌ يدرن صرفها
فتراها تنتقينا واحداً فواحدا
قيل له : هذا ليس من أوزان العروض ? قال : أنا أكبر من العروض.
والتحليل العروضي لهذين البيتين يقرر أنهما من الرمل المجزوء، دخل الكف في تفاعيل الحشو(فاعلاتُ)، وجاءت عروض البيت الأول محذوفة(فاعلا) وعروض البيت الثاني صحيحة(فاعلاتن)، وجاء الضرب محذوفًا في البيتين(فاعلا). أما قافية البيتين فجاءت مختلفة فقافية الأول مكونة من الفاء رويًّا والهاء وصلاً والألف خروجًا. وقافية البيت الثاني مكونة من الدال رويًّا والألف وصلاً، فواضح مدى الاضطراب والقلق في البيتين، ولصدر البيت الثاني رواية تجعله مكسورًا عروضيًّا، وهي(هنَّ ينتقيننا) أو(ثم ينتقيننا).
ورغم تلك الخلخلة الإيقاعية والإبداعية البارزة في النص إلا أن هذه المقولة التراثية شاعت وذاعت في ديوان النقد الأدبي، كرر قولها الشاعر العباسي مسلم بن الوليد حين قال أبياته التي منها:
يا أيها المعمود قد شفك الصدود
فقيل له: هذا ليس بين أوزاننا!!!
وهي مقولة تحمل إيحاءات عدة، يُفهم منها -مثلاً-سخرية من العروض والعروضيين كسخريةالفرزدق من النحو والنحويين حيث وقف له أحد علماء النحو الموالي (عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي) وهو في مربد البصرة معترضاً على رفعة كلمة (مجلف)ـ للضرورة الشعرية ـ التي حقها النصب في قوله :
( وعض الزمان يآبن مروان لم يدع من المال إلا مستحتاً أو مجلف)
فيرد الفرزدق عليه قائلاً : رفعتها على ما يسوؤك وينوؤك، ثم إنه هجاه ومولاه أسلم بقوله :
فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال عبد الله: لقد أخطأت ثانية بنصبك كلمة (مواليا) ومكانها الرفع ، فرد الشاعر علية :علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا .
كما يفهم منها أيضًا أن شهادة ميلاد أكبر من العروض بمئات السنين!!!
كما يفهم منها أيضًا أن الحوار حول ايقاع الشعر العربي قديم جدًّا.
كما يفهم أيضًا أن الشعر لا يحيا بلا قيود.
فهل يفهم منها شيء آخر؟!!!
د/صبري أبوحسين