حظوظ الكتب في الذيوع هل للكتب حظوظ كحظوظ بني البشر؛ فيذيع صيتها أو يعلو صوتها بين أقرانها من الكتب التي تقبع كابية الحس على أرفف المكتبات تترقب في حذر مشوب باللهفة أن تمتد يد إليها تقلب صفحاتها فتمد هي الأخرى يدا تغرف من معينها العذب وتسقيه ما يطلبه من العلم والمعرفة. نعم ، إن للكتب حظوظا بل حظوة عند بعض الناس. ومن هذه الكتب المحظوظة كتابان في العروض ، هما : كتاب "أهدى سبيل إلى علمي الخليل" للمرحوم الأستاذ محمود مصطفى ، وكتاب "ميزان الذهب في صناعة شعر العرب" للمرحوم السيد أحمد الهاشمي فقد سار هذان الكتابان، منذ تأليفهما في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، سيرورة مظفرة بحيث بلغت طبعات كل منها عدة عشرات المرات ، إن لم يفلت من هذا العد ما طبع مغافلة من صاحب الكتاب. ولأن الحظ لا يفرق بين أجناس الكتب كما لا يفرق بين أجناس البشر؛ فتجده يخبط خبط عشواء.. من تصبه يذع وينتشر، ومن تخطئه يُهمَل ويُنسى ، ومما أخطأته يد الحظ كتابان في العروض كذلك وهما : كتاب "العروض والقوافي" للمرحوم الشيخ عبد الفتاح بدوي ، وكتاب " إحياء العروض" للعالم والمجمعي المرحوم عز الدين التنوخي، وهؤلاء العلماء الأربعة نشأوا وتربوا جميعا في أكناف الأزهر الشريف، فانظر كيف تحكمت يد الحظ في مصائر كتبهم فأذاعت ذكر بعضها وأخملت ذكر البعض الآخر. كانت المرة الأولى التي سمعت فيها باسم كتاب "العروض والقوافي" للشيخ بدوي من مقال بمجلة الأزهر نشر عام 1960م كتبه الشيخ علي العماري ردا على الدكتور عبد الله درويش الذي نشر بالمجلة نفسها مقالا عنوانه "المصطلحات العروضية" يتهمه فيه بسطوه على بعض الأفكار التي وردت في كتاب الشيخ بدوي ، وهي أفكار قال إنها جديدة وربما لم تصل للدكتور درويش مباشرة ، لحداثة سنه إذ ذاك ، وإنما نقلها عن أستاذه الدكتور إبراهيم أنيس الذي رجح اطلاعه عليه وأظهر استفادته من كتابه ( الأمر الذي أنكره أنيس بناء على إفادة درويش ). والظاهر أن الكتاب طبع طبعة واحدة وزع أغلبها على طلاب الشيخ بدوي بالأزهر، وقد ذكر العماري أنه يحتفظ بنسخة من الكتاب وأنه يعلم آخر لديه نسخة منه. والمهم عندي بالنسبة لهذا الكتاب ، أنه مع ندرة وجوده ، يبدو لي أكثر جدوى من ذلك الكم الهائل من النسخ الكربونية لمؤلف الخليل. والكتاب الثاني الذي ساعدني الحظ في التعرف عليه عبر تعريف وضعه شيخنا الأستاذ زهير ظاظا على صفحات الوراق، وقد تلطف وزودني ( ومعي قراء المنتدى ) ببعض ما ورد في هذا الكتاب الذي لم يعرف له نسخة إلا نسخة وحيدة بالمجمع الثقافي، ومن هذه النتف التي أوردها الأستاذ زهير عرفت أن صاحبه يتبع مدرسة الجوهري صاحب معجم الصحاح وذلك في كتابه الذي ظل مفقودا لعدة قرون حتى اهتدى إليه وعرف به محققه الدكتور محمد العلمي، وأعني كتاب عروض الورقة. ولنعد الآن للكتابين المحظوظين لنعلم كيف آلت يد الحظ لتعمل على انتشارهما وإسعاد ناشريهما ومعهما فريق من الأساتذة الأكاديميين الذين أسبغوا عليهما من بريق ألقابهم اللمعان . هنا تتدخل نظرية المؤامرة لتكشف عن نوايا الناشرين الجدد ، وهم لا شك جشعون ، فقد لاحت لهم فرصة بلوغ عمر الكتاب خمسين سنة عرفوا بعدها أن الورثة لا يحق لهم المطالبة بحقوق الطبع ، ثم لما لم يكونوا ينوون الاستمرار في طبعه على النحو الذي أراده صاحبه أو ورثته، بحثوا عن اسم يسبقه حرف الدال ليحتل على الغلاف مكانة لا تقل عن مكانة مؤلفه، وكل ما زاده ( الدالي) حركة إعراب على كلمة هنا أو هناك تتيح له الزعم بأنه عمل على ضبط الكتاب بالشكل ، وغير ذلك من شكليات العمل التحقيقي وقشوره الخلابة. هكذا إذن استطاع ناشر " أهدى سبيل" أن يغري الأستاذ الدكتور حسني عبد الجليل يوسف ليثبت قبل اسمه على الغلاف قوله : " شرحه وضبطه وسهل طرائقه". والدكتور حسني هذا لم يكفه تسهيل الطريق إلى هذا الكتاب وإنما امتد ( بولدوزره ) ليسهل الطريق الذي بدا غير ممهد عبر عقود من الزمان إلى كتاب "ميزان الذهب" .. لا ، بل وذهب بعيدا ، أي عبر القرون ليسهل كتاب الكافي في العروض والقوافي ، وكان مؤلفه التبريزي قد وضعه للمبتدئين من طلاب المدرسة النظامية ببغداد والمتوسطين منهم ، فكأن صاحبنا (الميسر) أراد بعمله هذا أن يجعله في متناول أطفال الحضانة. والغريب في أمر الدكتور حسني أن له كتابا من جزئين في العروض، ولو كان عاش في زمن تأليف الشيخين كتابيهما لأفادا منه وجعلا كتابه هذا من ضمن مراجعهما أو حتى مصادرهما. ولم يقف الأمر عند هذا الأستاذ الدكتور وحده ، فقد رأى الناشرون أن ( الموضة ) في النشر أن تجلب على الغلاف ( دالا) ليروج الكتاب ، فرأينا ناشرا آخر يجيء بالاستاذ الدكتور والمحقق المعروف لكثير من كتب التراث الدكتور محمد التونجي ليضع اسمه على "ميزان الذهب". وقد رأيت بعضا ممن وضعوا أسماءهم على هذين الكتابين بغية ترويجهما ليسوا من ذوي الدال ولكنهم معروفون للمهتمين بكتب التراث شرحا وتحقيقا نحو نعيم زرزور في شرحه لكتاب أهدى سبيل وكذلك الأمر للأستاذ أنس بديوي الذي قال الناشر عن عمله في تحقيق " ميزان الذهب" : " وبالنظر إلى أهمية الكتاب فقد اعتنى أنس بديوي بتحقيقه فاهتم بضبط الكتاب ضبطا تاما وصحح ما فيه من أخطاء إملائية ونحوية ولغوية ( !!! ) كما اعتنى بتشكيل بعض المفردات المشكِلة وكذلك تشكيل الأبيات الشعرية تشكيلا تاما ووضع علامات الترقيم وخرّج الآيات القرآنية وشرح المفردات الغريبة ووضع ترجمة كاملة لحياة المؤلف". وربما لم يجد الناشر دكتورا يوافقه على تأجير لقبه ليقبع على غلاف كتاب لا يخصه، فاضطر أن يضع اسمه هو بدلا منه كما فعل عمر الطباع الذي بدا لي أنه ناشر لا محقق وقد كنت رأيت اسمه يتصدر أغلفة كثير من الكتب التراثية، فشاء أن يزيد عليها "أهدى سبيل". أليس غير هؤلاء من يستحق أن نقف أمامه وقفة احترام وتقدير ؛ بلى ، إنه الشيخ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي الذي اكتفى بوضع تصدير لأهدى سبيل في طبعته الثالثة عشر ولم يشأ أن يجعل اسمه مشاركا لصاحبه في الظهور على الغلاف. إن التحقيق عمل عظيم الجدوى ، وهو ضروري لكي يجعل الكتاب التراثي متاحا لقارئه الحالي وأن يخدمه بأن ينشره كما أراد له صاحبه أن يكون في الأصل. والملاحظ أن تراثنا العلمي باق في أقبية السراديب يتطلع إلى من ينفض عنه غبار القرون ويطلعنا عليه في ثوب علمي قشيب ، غير أن ما يبدو لي أن أهل التحقيق يبحثون عن السهولة في العمل وترى بعضهم يتناول الكتاب المحقق فيحققه مرة ثانية بزعم أنه وجد كلمة في إحدى النسخ أغفلها أحد الناسخين وأنه لا بد لذلك من أن يعيد نشر الكتاب محققا من جديد ، هذا وتراثنا الذي لم يحقق بعد يلوح كجبل الجليد، معظمه في الماء وليس إلا قمتة طافية. لكم أتمنى أن أحصل على نسخة من كتابي بدوي والتنوخي .. لا لأنشرهما بعد تحقيقهما، بل لأفيد منهما فأنا أعلم أنهما لن يروجا في ظل سوق الكساد العظيم. وأنا ، يعلم الله ، لا أنوي التقليل من شأني الميزان وأهدى سبيل وأن كنت لا أرى فيهما مزية تفوق سائر الكتب التي وضعت منذ ابتدع الخليل عروضه ، أو كما قال أبو قيس عز الدين التنوخي في مقدمة إحيائه: " واطلعت على جل ما ألفه المتأخرون ، فألفيت وجوه الشبه قوية بين الطريقتين ، المتقدمة والمتأخرة ، ما خلا تداريب الشعر التي تزيد في الكتب الحديثة على القديمة، وبها وحدها لا تكون حديثة". |