أضواء على معتقداتنا ورواسخ أفكارنا تحدي للذات واستفزاز لمسلمات العقل على رسلك أيها القارئ.. فإني أشهد أن هذا القرآن الكريم هو كلام الله ووحيه المنزل على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصحف المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته المتحدى بإعجازه. وبعد هذه الشهادة التي لا بد منها في مثل هذا المقام , ومع عقل كالعقل العربي في تقديسه للرأي القديم , وتألهه في هيكله وجموده على خطته حتى يبلى الهيكل وتبيد الخطة. وجب الاقرار أولا...أن الحضارة العربية بعد الإسلام قامت على اليقين الديني الصارم, وعلى رغم قلة هذه اليقينيات الدينية في مذهب الإسلام فإن صناع هذه الحضارة من فقهاء ومفسرين ومتكلمة ومتصوفة وأرباب الأدب وأصحاب السلطان, قد وسعوا دائرة اليقين الصارم في الملة ونزعوا بها نزعة من العنت وصنعوا من الرأي الأول والمقال البكر في فنون الدين حجرا وصخرا قائما ينطحون به مخترعات العقول ومبتدعات الأفكار. صارت إذا الفكرة الوليدة المهتزة بفضولها , الملآى بسؤالاتها , كالطائر الغض حبيس قفصه يقلب عينيه الذاهلتين في عيدانه فهذا عودُ "قاله فلان الحجة", وهذا عودُ "رواه فلان الجبل الثقة", وهذا عودُ "أجمعت عليه الأمة", وهذا عودُ" جرى به العمل", وهذا عودُ "سيف السلطان", وهذا التقليد...وهلم جرا من أعواد تحيط به من كل جانب فتتهوله أسمائها, وتروعه كثرتها, فينقلب المسكين كسيرا مهيض الجناح ويثب وثبة على العود الممدود على جانبي القفص فهو وقتئذ في منطق القفص وأشيائه على صراط مستقيم. ولو كانت لهذا الطائر الغرير روح الفيلسوف الشاعر لتناول عودا منها وانشغل به حتى أكله بمنقاره فأنفذ من ثغرته نفسه فأعتقها وانطلق في جو السماء الفسيح يسبح فيه ماشاء وأين شاء. إن سبب جمود الرأي الديني عند المسلمين هو اقتفاؤه تلك الطريقة الهندسية المتشابهة التي عرفوها بالسلفية وهي طريقة لا تمت إلى الحياة والعمق والحركة بسبب. إننا نستفز في أنفسنا ودواخلنا هذا الروح الثائر المتجدد لا لنفهم الناس أننا ذووا جراءة على الدين واقتحام لأقداسه, ولكن نفعل ذلك لتفهم ما وراء عقائده وشرائعه من حقائق ثابتة, ومواد متغيرة , ولإدراك ما الذي لآفاقه الروحية من عمق وسعة وضياء. ثم لفك ما بالأنفس من عقد الخوف والتأثم من إعمال أداة العقل في النص المبين والتعامل معه مباشرة دون حائل حاجب . وجماع المعنى هنا أن نقول: هم عقول ونحن عقول, وحسن الفهم وتمام العبقرية وكمال الاستنباط كما أوجده الواجد في الأول ممكن أن يوجده في الآخر أكمل وأمتن, وقل مثل ذلك في المعاني القلبية من إيمان وتقوى وربانية. تحت هذا الموضوع وفي هذا المنحى سوف نتناول كلما سنحت الفرصة عودا من تلك الأعواد ونفعل ما لم يفعله الطائر الغرير, ثم نستفز العقل استفزازا يجعل له أزيزا كأزيز المرجل , وسنتحدى فيه مشاعرنا ورواسخ معتقداتنا لا لإسقاطها واغتيالها , ولكن لنكون مثال المرء الذي إذا آمن لم يؤمن تقليدا , ولكن عن يقين كأنه عيان , وإذا اعتقد بأمر أجازه بعقله قبل الجنان . وهذا لمن تأمله أدعى لليقين والرسوخ والاطمئنان. |