الطريق الى الاسلام كن أول من يقيّم
أسعد الله أوقاتكم أستاذي وسراة الوراق الكرام،
لقد عادت بي تعليقاتكم سنة الى الوراء ، حين تهت في الصحاري وعلمت معنى الظمأ، وعشت أجمل المغامرات وأروعها بين وديان من الأسطر وكثبان من الفقرات ، وما بين يدي هو كتاب "الطريق الى مكة" ، ترجمة "عفيف البعلبكي" ،وقد ارتأى أن يغير عنوانه إلى " الطريق إلى الاسلام"...وكان أول عهد لي به في يوم من أيام الشتاء الباردة ، في مكتبة أبي ، إذ أنه يمتلك الطبعة الرابعة للكتاب (بيروت آذار 1976) ، وأما المقدمة فهي لـ"عبد الوهاب عزام" فاسمحوا لي أن أقوم بنشرها في ملفكم سيدي.
المقدمة:
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
-1-
سمعت وأنا في باكستان، أن صديقنا محمد أسد، يكتب في أمريكا كتابا يعرف فيه الإسلام و يبين كيف عرف هو هذا الدين وكيف أعجب به حتى دخل فيه.
أملت في هذا الكتاب خيرا كثيرا، بما عرفت كاتبه وصاحبته، وتبينتُ علمه بالإسلام ،وحبه له وغيرته عليه.
ولبثت أرتقب حتى حمل إلي البريد نسخة منه أهداها إلي المؤلف فإذا هو مكتوب بالانجليزية واسمه "الطريق إلى مكة" .فسارعت إلى قراءة عناوينه، وتصفح صوره، مرتقبا أن أفرغ له فأستوعبه قراءة.
وتوالت أشغال فلم يتح لي الفراغ حتى عرض لي سفر إلى بلوخستان.فحملت الكتاب واتخذته سميرا حين آوي إلى فراشي خاليا إلى نفسي، مستريحا من شواغل تصحبني أطراف النهار وزلفا من الليل.
-2-
قرأت المقدمة، وهي جديرة بعناية كل قارئ لتريه أين نحن من ظنون أهل الغرب، وماذا ورثه الفكر الغربي من الحروب الصليبية .
ثم شرعت في الفصل الأول ، فصل "الظمأ والتيه في صحراء النفود". فهالتني الأحداث وراعني البيان حتى شاركت الكاتب فيما عرض له من تيه وظمأ ،وخوف ورجاء ثلاث ليال،وهو في صحبة الآكام الصامتة وخداع الصحراء الهائلة وكأني كنت بجانبه حين خرا مغشيا عليه، وبركت ناقته معه كلالا وإعياء،وحين وقعت يداه على المسدس فهم أن يخلص من هذه الميتة البطيئة الطويلة فإذا هاتف من الإيمان يقرأ له الآية: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)) ولم يلبث قليلا حتى نهضت ناقته تنشق رائح الماء من بعد ، وإذا رجلان يحملان قربة ماء.
وصحبتُه مستمتعا مشوقا، مرتاعا أحيانا، في مسيره في بوادي الحجاز وتعريسه على موقد النار وزيد يهيئ القهوة والطعام، وهو يقص من سيرته، أو يفكر في ماضيه. وصابرته طويلا حين نزل بعد الغروب في بئر ليبترد، وعنت له وهو في البئر أفكار طوفت به ملكوت السماوات والأرض. انتظرته طويلا وأنا متعجب ضاحك. واستمعت إليه وهو يحدث زيدا وغيره بسيرته الأولى، نشأته ونظراته في الأديان وسفره إلى بلاد العرب ليراسل بعض الصحف ، وإعجابه بالعرب إعجابا يزيد على مر الأيام، ويقوى كلما زادت معرفته بهم، ومخالطته إياهم . حتى فكر فيما وراء عيشتهم الراضية،وأخلاقهم الكريمة من دين، فشرع يتعرف الإسلام شيئا فشيئا، ويطيل التفكير فيه وفي المسلمين.
وصحبته في مخاطرته سائرا من فلسطين إلى سورية، وفي دمشق ومصر ، وفي أسفاره في إيران وأفغانستان وفيه المعجب من ألوان المعيشة، وصنوف الناس ، فيها المخيف من الحادثات، والمضحك من الصور في قصص معجب، وبيان مطرب.
واستمعت إليه وهو يحدث عن الملك عبد العزيز رحمه الله وعن آل سعود وعيشه معهم، وصحبته إياهم، وسكونه إليهم، وثنائه عليهم ،وثقتهم به ،وتعويلهم عليه.
ولا أنسى رحيله إلى عمر المختار ولقائه في الظلام في غيلة من أحراج برقة، وكيف عبر إليه البحر الأحمر والنيل والصحارى، وكيف بلغه رسالة السيد أحمد السنوني رحمه الله، وكيف عاد عنه برسالة سطورها الغم والحزن، وفيها الجهاد المصمم ولقاء الموت دون مدد من سلاح ودواء.
سـلاحـهم عزيمة الجهاد |
وقـوتهم ما سلبوا iiالأعادي |
يصابرون الأكبد iiالصوادي |
ويأكلون الجوع في البوادي |
قـد يئسوا يأسا من iiالأمداد |
إلا ثبات القلب في iiالجلاد |
ونـصـرة الرحمان iiللعباد |
وما زلت مع أسد في بادية الحجاز وهو يحل ويرحل، ويقص من سيرته ويحدث عن سفره ومخاطرته في بلاد الإسلام ، ويبين كيف آثر الإسلام فرضيه دينا، ودخل في أخوة المسلمين. ويصف العرب في باديتهم حتى وافيت معه عرفات فاستمع إليه يقول بعد الإفاضة من الموقف العظيم:
((ها نحن أولاء نمضي عجلين، طائرين من سهل يخيّل إلي أنا نطير مع الرياح مستسلمين لغبطة لا حد لها ولا نهاية. والريح عصف في أذني صيحة الفرح: لن تعود بعد غريبا ، لن تعود ، لن تعود.
إخواني عن اليمين وإخواني عن الشمال، ليس بينهم من أعرفه وليس فيهم من غريب، فنحن في الجذل المصطخب ، في هذا السباق، جسد واحد يسير إلى غاية واحدة.
فسيح أمامنا العالم، وفي قلوبنا جذوة من النار التي وقدت في قلوب أصحاب رسول الله.
أجل يعلم إخواني الذين عن يميني ، وإخواني الذين عن شمالي، أنهم قصروا عما كان يرجى منهم، وأن قلوبهم، على مر العصور، قد تضاءلت، لكنهم لا يزالون على العهد سينجزون الوعد ، سننجزه.
وحاد واحد في هذا الجمع المتدفق، عن شعار القبيلة إلى شعار الإيمان صائحا: نحن إخوان من يشري نفسه في سبيل الله.
وتلاه آخر يصيح : الله أكبر.
اجتمعت فرق القبائل على هذا الشعار الواحد، ليسوا، هم الآن بداة نجديين يتفاخرون بعصبيات القبائل، بل هم أناس يوقنون أن لله أمورا في الغيب تنتظرهم.
في غابة من أرجل الإبل المتسابقة، وبين خفوق مئات من الرايات ترتفع أصواتهم إلى جؤار ظافر: الله أكبر.
تفيض في موجات عاتية فوق رؤوس آلاف الركبان الراكضين ، فوق السهل الفسيح، إلى أقاصي الأرض : الله أكبر.
فيم يخفى الحنين بعد أو يتضاءل ؟ لقد لقي يقظته، لقي إشراق الظفر يكاد سناه يعشي الأبصار. في هذا الظفر يوفض السائر ، يوفض بكل ما وهبه الله ، والإيفاض غبطة ، والحرية معرفته ، وعالمه فلك لا حدود له .
وحولي رائحة الإبل ووجيبها ونخيرها، وصياح الركبان ، وقعقعة البنادق المعلقة في الرحال، والعجاج ، والوجوه الناضرة الولهة . وفي قلبي سكون فجائي بهيج .
التفتتُ ورائي فأرى الأمواج ، وانتفاض لآلاف الركبان بيض الثياب، ووراءهم القنطرة التي عبرتها ، فأما آخرها فقريب خلفي ، وأما أولها فقد غاب في ضباب المسافات البعيدة))
ولما فرغت من قراءة الكتاب كتبت على صفحته الأخيرة :
فرغت من قراءته والساعة عشر وخمسون دقيقة من ليلة الأربعاء 12 ربيع الأول 1374 هـ ،9 تشرين الثاني 1954 م في دار السفارة المصرية "كراتشي".
أحسن كل الإحسان محمد أسد جزاه الله عن الإسلام والعرب خير الجزاء .
-3-
إن كتاب أسد ليفيض على قارئه في كل فصل ،حبًا للعرب ، و إكبارا لأخلاقهم ، وإعجابا بالإسلام وقدرا لعقائده و شرائعه وسننه وآدابه .
ولا يتهم محمد أسد بعصبية للعرب والمسلمين . فما نشأ عربيا ولا مسلما ، و فكره الحر، و نفسه التي تكبر الأخلاق أنى وجدتها ، وتقوّم الفضائل حيث ما شهدتها . وببصره الثاقب ، يجوز الظواهر إلى البواطن ، والصور إلى الحقائق ،و يقوم الإنسان بإنسانيته لا بثروته ، وبفضائله لا بصناعاته ،و بأصغريه قلبه ولسانه لا بأبهته و سلطانه.
إنها استجابة نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، وإعجاب قلب كبير بالفطرة السليمة ، وإدراك عقل منير للحق والخير والجمال يتجلى في أناس صادقين مختصين ،و إن بدوا في ثياب الفقراء و عدة الضعفاء.
|