البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : محمد أسد: يهوديا ومسلما    كن أول من يقيّم
 زهير 
5 - نوفمبر - 2007
عثرت على ترجمة موسعة للمرحوم محمد أسد في كتاب (عقد الجوهر في علماء الربع الأول من القرن الخامس عشر) تأليف د. يوسف المرعشلي  * (ص 2024) وسأكتفي هنا بذكر موجز الترجمة :
المفكر الإسلامي الكبير محمد أسد (1318هـ 1412هـ) ولد بإقليم غاليسيا في بولندا في شهر تموز (يوليو) عام 1900م وكان الإقليم تابعا للأمبراطورية النمساوية.
كان أبواه يهوديين، وكان اسمه ليوبولد فايس.
وبدأ يتدرب ليصبح كاهنا مثل جده، إلا أن روحه القلقة جعلته يهرب ليلتحق بالجيش.
اشتغل بعد تخرجه من الجامعة في فيينا بالصحافة.
سافر إلى القدس بدعوة من خاله، حيث تعرف على الحركة الصهيونية ورفضها.
أعلن إعتناقه للإسلام عام 1926م في الجزيرة العربية أثناء صحبته للملك عبد العزيز مؤسس المملكة العربية السعودية، وكان من أخلص خلصائه، وقد سجل قصة إسلامه في أشهر كتبه وأثمنها (الطريق إلى مكة) الذي صدر لأول مرة بتقديم المرحوم عبد الوهاب عزام سفير مصر في باكستان.
تسلل في مطلع الثلاثينيات إلى ليبيا أثناء ثورة عمر المختار وخاض معه الجهاد ضد المستعمر الإيطالي.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند بدعوة من الشاعر محمد إقبال، فأقنعه بوضع عصا الترحال، فكان له دور كبير في تأسيس باكستان، واعتقله الإنكليز مدة لكونه يحمل الجنسية النمساوية المعادية. ومات أبواه في معسكر الاعتقلات النازية في الوقت نفسه الذي كان يكابد هو الاعتقال في سجون الحلفاء.
وفي تلك المدة ألف كتابه الشهير (الإسلام على مفترق الطرق) ونشره لأول مرة عام 1936م  ثم أصبح مدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية في باكستان بعد قيام دولة باكستان، فمندوبها الدائم في الأمم المتحدة حتى عام 1952 وفي تلك المدة ألف كتابه (مبادئ الدولة في الإسلام) عام 1947م وبعد استقالته من منصبه عام 1952 تفرغ لمشروع حياته الأكبر (ترجمة القرآن) والذي أصدره عام 1980
واضطر أخيرا للهجرة من بلاد الإسلام ليحافظ على استقلال رأيه فأقام منذ أوائل الثمانينات في طنجة فالبرتغال فأسبانيا.  حتى وافاه الأجل المحتوم  وهو يعد الجزء الثاني من مذكراته (عودة القلب إلى وطنه) وكانت وفاته يوم الخميس 20 شباط (فبراير) 1992م الموافق يوم  17 شعبان 1412هـ ودفن في مقابر المسلمين في غرناطة.
 رفض إسرائيل وحاربها حتى آخر أيامه. وتزوج ثلاث مرات، وكان قد اعتنق الإسلام بصحبة زوجته الأولى (أليزا) لكنها ما لبثت أن ماتت فتزوج بامرأة عربية رزق منها بابنه الوحيد (الدكتور طلال: الذي يعمل مدرسا في إحدى الجامعات الأمريكية) ثم انفصل عنها ** وتزوج في نيويورك زوجته الثالثة (بولا حميدة).
.
 ومما كتب عنه (صيحة مسلم قادم من الغرب) لمصطفى حلمي، الإسكندرية دار الدعوة، و(أيام حزينة: النمساوي المسلم محمد أسد) مقالة نشرت في مجلة العربية (س 17 ع 186 رجب 1413هـ) بقلم المرحوم عبد العزيز الرفاعي.
____________________
* العلامة اللبناني المؤرخ القدير يوسف بن عبد الرحمن بن فؤاد بن محمد توفيق الحسيني المرعشلي: أستاذ الحديث والفقه في كلية الشريعة بجامعة بيروت الإسلامية  وقد جعل كتابه هذا ذيلا لكتابه الضخم (نشر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر) وهو من مواليد بيروت عام 1372 هـ الموافق عام 1953م من أسرة حجازية الأصل، قدم (محمد توفيق) جد أبيه إلى بيروت مع الحملة التي قادها جمال باشا السفاح إلى لبنان وسوريا فعينه قاضيا في المحكمة الشرعية.
** تبين لنا لاحقا خطأ هذه المعلومة، انظر تعليقا لاحقا بعنوان " حول زوجات محمد أسد "
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
بعض مؤلفات محمد أسد.    كن أول من يقيّم
 
 * الإسلام على مفترق الطرق / محمد أسد ؛ ترجمة عمر فروخ . - بيروت : دار العلم للملايين, 1984 . - 119 ص.
* الطريق إلى مكة / محمد أسد ؛ تقديم صالح بن عبد الرحمن الحصين . - الرياض : مكتبة الملك عبد العزيز العامة, 2004 . - 498 ص.
* الطريق إلى الإسلام / محمد أسد ؛ نقله إلى العربية عفيف البعلبكي ؛ [مقدمة عبد الوهاب عزام] . - بيروت : دار العلم للملايين, 1981 . - 407 ص.
* منهاج الإسلام في الحكم / محمد أسد ؛ نقله إلى العربية منصور محمد ماضي . - بيروت : دار العلم للملايين, 1983 . - 192 ص.
* ميكانيكا المعرفة / أسد محمد . - دمشق : دار الينابيع, 2003 . - 136 ص.
 
  جزاك الله خيرا أستاذي زهبر، معلومات قيمة استفدت منها كثيرا.
 
*سعيد
10 - نوفمبر - 2007
وله مؤلفات أخرى     كن أول من يقيّم
 
هذا الرجل له مؤلفات أخرى منشورة بالإنجليزية لم تترجم بعد ، وأهمها تأملاته في آيات القرآن الكريم .
ولو كنت أحسن الإنجليزية لنقلت إليكم أسماءها .
*منصور مهران
10 - نوفمبر - 2007
مؤلفات محمد أسد بالإنكليزيّة    كن أول من يقيّم
 
هذه هي أسماء مؤلفات محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) بالإنكليزية:
 
- Road to Mecca الطريق إلى مكة.
- The Message of the Qur'an رسالة القرآن.
- Translation and Commentary on the Sahih Bukhari ترجمة وتفسير لصحيح بخاري.
- This Law of Ours شريعتنا هذه.
- Islam at the Crossroads الإسلام على مفترق الطرق.
 
أرجو منك أخي الحبيب زهير أن تمهلني بعض الوقت فأتفرغ لإضافة معلومات جديدة حول ترجمة محمد أسد، فيها فائدة.
أحمد إيبش
*أحمد
11 - نوفمبر - 2007
محمد أسد في دمشق عام 1923    كن أول من يقيّم
 
بين يدي كتاب في "الطريق إلى مكة" للمرحوم محمد أسد، ترجمة د رفعت السيد علي، منشورات مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض، 1424هـ  تفاجأت جدا بالمعلومات التي يزخر بها الكتاب، وودت لو أنه منشور في أحد المواقع ليطلع عليه أصدقاؤنا ، ويشتمل أيضا على صور طريفة ونادرة لأهم الشخصيات التي التقاها أو اتصلت به، ومنها طبعا صورة زوجته العربية منيرة وابنه (طلال) (ص  94) ولا أدري هل تصرف المترجم بحذف أسماء من التقاهم المؤلف  في دمشق، أم أن المؤلف أعفى نفسه من ذكر أسماء أصدقائه في دمشق التي تكبد أصعب المشاق لزيارتها عام 1923م بجواز سفر مزور، ثم زارها أيضا بعد عام مبعوثا من قبل جريدة (فرانكفوتر ذيتونج) التي كان يعمل مراسلا لها وأصدرت الجريدة في غيابه نص رحلته بعنوان (رحلة غير حالمة إلى أرض الأحلام).
ولم يكن قد اعتنق الإسلام في ذلك التاريخ،.. وقد اخترت هذه المقتطفات من كلامه عن زيارته الأولى لدمشق، ولا أدري هل الأستاذ أحمد إيبش يعرف البيت الذي سيرد ذكره في النص  قال ص191 (ذهبت مع صديقي ومضيفي إلى الجامع الأموي يوم الجمعة... الأعمدة الرخامية التي تعلوها قبة عظيمة كانت تلمع تحت ضوء الشمس الساقط من النوافذ ... اصطف مئات المصلين في صفوف طويلة منتظمة خلف الإمام، ركعوا سجدوا، مسوا الأرض بجباههم ثم نهضوا من جديد، كلهم في توحد مثل الجنود ... أدركت في تلك اللحظة مدى قرب الله منهم وقربهم منه ،بدا لي أن صلاتهم لا تنفصل عن حياتهم اليومية بل كانت جزءا منها، ولا تعينهم على نسيان الحياة بل تعمقها أكثر  ...
(ص194: دعاني صديقي ذات مساء لمصاحبته إلى الاحتفال في منزل أحد أصدقائه الأثرياء من أهل دمشق بمناسبة مولد ابن له.. سرنا عبر شوارع متعرجة في المدينة القديمة، كانت حارات ضيقة، حتى إن الشرفات توشك أن تتلامس توقف صديقي في النهاية أمام باب لا يتميز من غيره من الأبواب، كان الباب في منتصف سور من الطين المكسو بالجص، ودق بقبضته الباب المغلق، فتح الباب وأصدر صريرا، وجدنا أمامنا رجلا طاعنا في السن يرحب بنا بفم خلا من الأسنان (أهلا أهلا وسهلا) مضينا عبر ردهة قصية دارت بنا مرتين بزاوية قائمة أفضت بنا في النهاية إلى فناء ذلك المنزل الذي لا يشي مظهره الخارجي بأكثر من سور طيني مدهون بالجص.. كان الفناء واسعا ومكشوفا، أرضه مصممة وكانها رقعة شطرنج، هائلة الاتساع بمربعات من الرخام الأبيض والأسود، وفي المنطقة المنخفضة كان هناك حوض نافورة (بحرة) من الحجر ثماني الأضلاع، من منتصفها يخرج ماء النافورة موسوسا رقراقا. وفي مربعات بين رخام الأرضية نمت أشجار الليمون والدفلى تنشر أريج أزهارها عبر الفناء بأجمعه إلى داخل المنزل. أما جدران المنزل التي تحيط بالفناء فقد غطتها من الأرض حتى قمتها نقوش من الرخام دقيقة الصنعة رقيقة الجمال، في أشكال هندسية عربية متداخلة لا يقطعها إلا نوافذ الغرف التي تطل على الفناء ويؤطرها رخام عريض محزم بأشكال بديعة الصنعة.. وعلى أحد جوانب الفناء كان هناك فراغ على ارتفاع ثلاث أقدام من الأرض ترتقي إليه بدرج عريض من الرخام، وعلى جوانب هذا الفراغ (ويسمى ليوان) صنعت أرائك مقصبة، بينما فرشت أرضه بأبسطة ثمينة. كانت جدران الليوان مغطاة بمرايا ضخمة، يصل ارتفاعها إلى خمس عشرة قدما.. وكان الفناء بأشجاره ورخامه وازياء ضيوفه المجتمعين حول النافورة تضاعف كله خلال مرايا الليوان، وحين تنظر إلى المرايا التي تقابلها ينعكس المشهد مئات المرات بلا نهاية ... مساء يشبه الحلم يتألق تحت سماء المساء ... ص 195 أجلسني صاحب الدار إلى يمينه على الأريكة ودار خادم حافي القدمين بأقداح صغيرة من القهوة مصفوفة على صينية من نحاس ...واختلط الدخان المتصاعد من النراجيل برائحة ماء الورد بالليوان، وارتفع في موجات تجاه الفوانيس الزجاجية التي كانت تضاء واحدا بعد الآخر على امتداد الجدران وبين الخضرة الدكناء للأشجار .. كان جمع الضيوف وكلهم رجال في أزياء متنباينة... رجال في قفاطين من الحرير الدمشقي أو الصيني الخالص بلون العاج، عليها جبة من الصوف بألوان خفيفة متداخلة، وعمامات ذات حواف مذهبة، تحكم وضع الطربوش على الرأس، وبعضهم بملابس أوربية إلا أنهم كانوا يجلسون متربعين على الأرائك، وبعض زعماء البدو بشكله المعتاد: عيون سوداء تلمع ببريق يشي بالعظمة، ولحى صغيرة جول وجوه نحيلة دكناء... ملابسهم الجديدة تصدر حفيفا مع كل حركة، ويحملون جميعا سيوفا في أغماد فضية. كان جميع الضيوف مسترخين في دعة واطمئنان عميق. أرستقراطية حقيقية. كان يحيط بالجميع جو طيب، طقس جاف وصاف يحيط بهم ببساطة ولا يقتحمهم، بدوا مثل أصدقاء متباعدين، مثل مارين بمكان: حياتهم الحرة الخالية تنتظرهم في مكان آخر غير هذا. 
ودخلت فتاة راقصة من أحد الأبواب، صعدت الدرج حتى الليوان، كانت في مقتبل شبابها، ولا تتجاوز العشرين من عمرها، ذات جمال طاغ، ترتدي سروالا فضفاضا من الحرير الشفاف، وله ثنيات، وزوج من الأخفاف الذهبية بقدميها، وصدرية موشاة بما يشبه اللؤلؤ، ولا تستر جسمها، كانت تتحرك بإحساس من العظمة يحسه من اعتاد أن يكون موضع إعجاب، سرت همسات الاستحسان والسرور بين الرجال عند رؤيتهم فتاة تنبض بالحيوية والشباب، وبشرتها المشدودة في لون العاج. رقصت بمصاحبة ضابط إيقاع دخل في إثرها رقصة تقليدية تموج بالإيماءات البدنية الموحية، وهو رقص يلقى إقبالا في الشرق، رقص يثير كوامن الرغبات، همس صديقي وهو ينظر باتجاهها "ما أجملك، ما أروعك" ثم ضرب بكفه على ركبتي بخفة وقال: "أليست كالكف الحانية على الجرح" وكما ظهرت بسرعة اختفت بسرعة، لم يتبق منها إلا بريق خافت في أعين الرجال، واحتل مكانها على البساط في الليوان أربعة موسيقيين، بعضهم من أفضل العازفين في سورية كما أخبرني أحد الضيوف. كان يحمل واحد منهم عودا طويل العنق، وآخر كان يحمل طبلة، والثالث يحمل آلة القانون الوترية، وكان الرابع يحمل طبلة نحاسية مصرية.
بدأوا في شد الأوتار ونقر الطبول برقة، كل واحد منهم على آلته دون توافق،
كل منهم يضبط آلته وإيقاعها قبل أن يبدأ العزف في إيقاع متناغم...جر صاحب القانون أصابعه على الأوتار؛ أما حامل الطبلة النحاسية فقد كان ينقر عليها بأصابعه ويتوقف برهة ثم يعاود النقر؛ وعازف العود راح يجرب أوتاره كأنه شارد الذهن في تتابع سريع. نغمات أوتار بدت كأنها تتوافق بالمصادفة مع إيقاع الطبلة ثم نغمات القانون.. وقبل أن تعي تماما ما يحدث يبدأ اللحن الجماعي يربط العازفين الأربعة معا في لحن متناغم واحد ؛ لحن ! لا أستطيع أن أقول لحن ؟ فقد بدا لي أنني أستمع إلى أداء موسيقي بقدر ما أشاهد حدثا مثيرا... فعدا النغمات الصادرة عن الآلات الوترية نما إيقاع جديد يرتفع في دوامات حادة، ثم فجأة يهبط ويتخافت مثل إيقاع ارتفاع أداة معدنية وانخفاضها... أسرع ثم أبطأ ، أرق ثم أشد ؛ ثم في هدوء ودوام تنويعات لا نهائية... نغم يشي بالدوام ... صوت يرتجف في خمول ينمو ، ثم ينتشر بقوة، فيقتحم العقل، ثم فجأة وبعد أن يصل إلى قمة عالية من التناغم ينتهي ويسود صمت... أحسست أني وقعت في هوى تلك الموسيقى... شدتني النغمات التي كانت أحادية؛ وإيقاعها يستدعي إلى ذهني رتابة وقوع الظواهر الأبدية وتكرارها في هذا الوجود، وتدق أبواب المشاعر الدفينة، وتستل منها خطوة بعد خطوة كل ما يموج داخلها دون أن نعيه ... تعري أمامنا أشياء كانت داخلنا على الدوام، وتجعلها واضحة حميمة، وحارة صادقة تدفع قلبك إلى الخفقان.
لقد اعتدت بالطبع الموسيقى الغربية التي تتدفق فيها كل انفعالات المؤدي في أداء فردي يعكس على المستمع حالته المزاجية، إلا أن تلك الموسيقى العربية تبدو كأنها تتدفق من مستوى ما في اللاوعي، من توتر واحد إلا أنه ليس إلا توتر يمثل مشاعر شخصية لدى كل مستمع على حدة...
بعد ثوان من الصمت تدفقت إيقاعات الطبلة النحاسية من جديد، ثم تبعتها كل الآلات معا ... نغمات راقصة رقيقة، لحن أنثوي أرق من سابقه.. وراح المغنون يضبطون أصواتهم في إيقاع واحد، يحتضن كل صوت الآخر بدفء ونعومة، ثم كأنها اتحدت معا في دفقة واحدة، زادت بهجة وابتهاجا... كانت الأصوات يلاحق بعضها بعضا، ويتدفق بعضها حول بعض، في موجات ناعمة، تتصادم في البداية مرة بعد أخرى مع إيقاع الطبلة النحاسية الذي يبدو كحاجز تتصادم عنده الأصوات... تصاعدت فغلبت ذلك الحاجز وقهرته وسيرته طبقا لإيقاعها وجرته إلى إيقاع عام حلزوني متصاعد. أما الطبلة النحاسية التي قاومت في البداية فسرعان ما سقطت فريسة للطرب العام المتصاعد من الأصوات المنشدة التي اتحدت في نشوة بعضها مع بعض، وفقد لحن البداية المتماوج رقته النسائية وراح يعدو بعنف متزايد، أسرع، وأعلى وأكثر حدة، إلى غضب بارد من عاطفة واعية تخلصت من كل الكوابح، وتحولت إلى تصاعد متسق إلى قمم غير مرئية من القوة والامتلاك.... ومن تدفق النغمات الدائرة بعضها حول بعض انبثق تناوب عظيم من اتساق النغمات... اندفاع عجلات مندفعة من ديمومة إلى ديمومة، دون قياس ولا حدود ولا هدف، مبهورة النفس، كالسير مقيد على حد سكين، عبر حاضر المرء الأبدي إلى وعي بالحرية والقوة فوق كل فكر. وفجأة في منتصف تدفق حميم توقف مباغت وصمت مطلق، قاس ، أمين، ونقي... استعاد المستمعون أنفاسهم مثل خشخشة أوراق الشجر وهمسات تسري: (الله الله) كانوا مثل أطفال حكماء عقلاء، يلعبون ألعابا طالما حفظوها عن ظهر قلب إلا انها ما زالت تغريهم بلعبها، كان كل من بالفناء يبتسم في سرور وبهجة.

*زهير
11 - نوفمبر - 2007
محمد أسد في طرابلس الشام صيف 1924    كن أول من يقيّم
 
في بدايات صيف 1924 انطلقت من القاهرة في جولة طويلة خططت لها أن تدوم عامين، مررت بمناطق عريقة في تقاليدها، تركت تأثيرا واضحا في تفكيري. زرت بعدها شرق الأردن مرة أخرى، وقضيت بعض الأيام مع الأمير عبد الله مستمتعا بأصالة الطبيعة البدوية التي لم تكن قد تأثرت بعد بأنماط الحياة الغربية، وحصلت على تأشيرة فرنسية بجهود جريدة "فرانكفوتر ذيتونج" ودخلت سورية مرة أخرى. جاءت دمشق ومضت، واحتضنتني الحياة الشرقية في بيروت بعض الوقت، ومنها توجهت إلى مدينة طرابلس التي كانت تتبع سورية في ذلك الوقت. كانت مدينة خارج نطاق الأحداث، وتحيا حياة سعيدة هادئة أقرب إلى النعاس. كانت القوارب الشراعية البسيطة ترسو في الميناء المفتوح، وأشرعتها اللاتينية تتماوج وتئن من وهن، وأبناء المدينة يقضون أوقاتهم بالجلوس على مقاعد منخفضة أمام المقاهي في مواجهة الميناء، يتناولون في استراخاء أقداح القهوة ذات الرائحة النفاذة، ويدخنون الأراجيل في الأمسيات تحت أشعة الشمس في وقت الأصيل، لا تجد في أنحائها إلا الهدوء والسلام والرضا مع توفر الرزق. حتى المتسولون بدوا كأنهم يستمتعون في أوقات المغيب، كأنهم يقولون في سريرتهم: ما اجمل أن تكون شحاذا في طرابلس (الطريق إلى مكة: ترجمة د رفعت السيد علي: نشرة  مكتبة الملك عبد العزيز: ص 281)
*زهير
11 - نوفمبر - 2007
محمد أسد في حلب عام 1924    كن أول من يقيّم
 
هذا النص متصل تماما بالنص السابق المتعلق بزيارته طرابلس، قال (ص 281): (وصلت إلى مدينة حلب. ذكرتني شوارعها ومبانيها بمدينة القدس: مبان حجرية قديمة كأنها نبتت من الأرض، ذات ممرات مظلمة مسقوفة، وميادين هادئة صامتة، ونوافذ منحوتة. أما قلب حلب فقد كان يختلف تماما عن القدس، فالجو السائد في القدس يسوده صراع التيارات الدولية، وكانت تلك الصراعات مثل التقلص العضلي المؤلم الشديد التعقيد، يعكس هو الأخير تعقيدات المواقف الدولية، وولدت المعتقدات الدينية المتباينة سحابة من سموم الكراهية على ساكنيها.
أما حلب فعلى الرغم من أنها كانت خليطا من البدو العرب والشرقيين، مع مسحة تركية لقربها منها فقد كانت متآلفة وهادئة وصافية، والمنازل الحجرية بشرفاتها الخشبية تبدو حية حتى في صمتها.
كان سوقها القديم يتميز بالصناعات اليدوية الشرقية الدقيقة، وأحواشها ذات العقود الحجرية المملوءة بصنوف البضائع وتنافس مرح بين تجارها الخالين من أنواع الحسد والضغينة: الكل متمهل، ارتخاء وراحة تحتضن حتى الغريب وتجعله يتمنى أن تكون حياته كلها بتلك الراحة والاسترخاء؛ عتاصر كثيرة تجتمع في حلب تتدفق معا لتؤلف لحنا قويا رائعا.
توجهت بالسيارة من حلب إلى مدينة دير الزور وهي مدينة صغيرة بأقصى شمال سورية، ونويت ان أتوجه منها إلى بغداد عبر طريق التجارة القديم المجاور لنهر الفرات.
*زهير
11 - نوفمبر - 2007
محمد أسد في دير الزور عام 1924م    كن أول من يقيّم
 
كان الشارع التجاري يمتد من بداية مدينة دير الزور حتى نهايتها، وكان يعد شكلا غير رسمي من أشكال التقسيم، يفصل بين الجزء الحضري السوري وبين القسم البدوي. ومع أن المدينة بأجمعها كانت أقرب إلى الطابع البدوي في أحد المحلات الحديثة كانت توجد البطاقات التذكارية بطباعة بدائية، وفيما يليه تجد بعض البدو واقفين يتناقشون في أحوال سقوط الأمطار على الصحراء، وعن النزاع الذي نشب ين قبيلة بشر "عنزة" السورية وقبائل "شمر" العراقية: وراح أحدهم يحكي عن الغارة التي شنها زعيم بدو نجد "فيصل الدويش" على جنوب العراق، كما ورد على لسانهم اسم رجل الجزيرة العربية العظيم عبد العزيز آل سعود.
كانت المتاجر تعرض بنادق قديمة ذات مواسير طويلة ومقابض مزينة بالفضة ذات طراز قديم لم يعد أحد يشتريها الآن، لأن البنادق الحديثة الآلية أصبحت أكثر فعالية.. ومحلات أخرى تعرض أزياء رسمية مستعملة من أرجاء القارات الثلاث، ورجال جمال من نجد، وإطارات سيارات ماركة "جوديير" ومصابيح عواصف من "لايبزج" وعباءات بدوية منسوجة من الصوف. لم تبد البضائع الغربية دخيلة بين الأنواع والأصناف الأخرى، كانت فوائدها العملية تعطيها شرعية وجودها.
كان البدو بوعيهم العملي يعتادون بسرعة تلك السلع الجديدة وكأنها من إبداعهم، لم اكن أدرك تماما حتى ذلك الوقت ما يمك أن تسببه "الحداثة" الغربية لأولئك الناس البسطاء الأميين
*زهير
11 - نوفمبر - 2007
حول زوجات محمد أسد    كن أول من يقيّم
 
يبدو أن هناك خطأ في الترجمة التي نقلتها عن المرعشلي، حول تطليق زوجة محمد أسد أم طلال، لأنني قرأت في الموقع http://www.alsakher.com/vb2/showthread.php?t=86869 نبذة مهمة عن حياة محمد أسد، وفيها ما يفهم منه أنه تزوج أربع مرات وليس ثلاثا، وأنقل هنا ما يتعلق بزوجاته في المقال، ويلاحظ فارق السن بينه وبين زوجته الأولى تماما كفارق السن بين النبي (ص) وأم المؤمنين خديجة (ر):
في برلين قابل إليساElsa ، رسامة أرستوقراطية موهوبة، أرمل في الأربعين، لديها طفل في السادسة، من زواج سابق. لم يوهن غياب محمد أسد عن أوروبا مدة عامين من حبه لهذه السيدة التي تكبره بخمسة عشر عامًا. وكانت كلما ترددت في الزواج منه ازداد هو تشبثًا بها. لم يبالغ حين قال إنه لا يتصور حياته دونها، لقد كانت تشاركه قراءة القرآن، حتى قبل أن يعلن هو نفسه الإسلام، وكانت تبدي خلال مناقشاتها مدى تأثرها بتعاليم القرآن الأخلاقية وتوجيهاته العملية.
راح يستغرق في قراءة القرآن الكريم، ويتأمل التعاسة تعلو وجوه القوم، برغم الرواج الاقتصادي نسبيًا آنذاك.
بعد زواجه منها، وبعد تمتعه بوظيفة مرموقة، ومركز أدبي ومرتب كبير ومستقبل واعد، لم يكن في الظاهر ثمة سبب يدعوه لمغادرة أوروبا. وفي يوم عيد الغطاس كان الشاب وزوجته يستقلان مترو الأنفاق، و ظلا يرقبان الوجوه التي لم يبد عليها البشر قط، برغم أن اليوم عيد، وبرغم مظاهر الأبهة البادية في ملابسهم و هندامهم. رجع إلى البيت، لمح مصحفًا مفتوحًا على سورة فسرت له حالة الشقاء التي ظهرت بوضوح على وجوه القوم، إنها سورة التكاثر. تحدث إلى إليسا فوافقته على ما أبدى من ملاحظات تربط بين السورة القرآنية وبين حال الشقاء التي لمساها في راكبي المترو.
نطق محمد أسد بالشهادتين هناك في أوروبا، أو في برلين تحديدًا في عام 1926م. ولما كانت الكلمة اليونانية «ليو» ـ المقطع الأول من ليوبولد ـ تعني «الأسد»، فقد اختار له أحد المسلمين المهاجرين هنالك اسم «محمد أسد». أسلم الرجل، وبعد أسبوعين أشهرت إليسا إسلامها، وصار طفلها يسمى أحمد.
أرسل محمد إلى والده خطابًا يخبره بإسلامه، فلم يتلق رده. فأتبعه بثان شرح فيه أن الإسلام لا يقطعه عن البر بوالديه، لكن الرد هذه المرة جاء من أخته التي قالت إنهم اعتبروه في عداد الأموات. لكن الله خفف عن الشاب المهتدي كل عناء عندما بادرت إليسا إلى إعلان إسلامها بعد أسبوعين.
بعد عشرين عامًا قضاها في الباكستان ذهب أسد إلى نيويورك سنة 1952م وزيرًا مفوضًا للباكستان في الأمم المتحدة. وهناك التقى السيدة التي تحولت من الكاثوليكية إلى الإسلام والتي صارت زوجة له بقية عمره ، على مدى أربعين عامًا. وعلى ذكر الزواج فقد تزوج الرجل من سيدتين عربيتين، أولاهما من قبيلة مطير تزوجها سنة 1928م، سرعان ما طلقها، ثم تزوج سيدة من شمر سنة 1930م، وهي التي أنجبت له طلالاً. (لو أنها اليوم على قيد الحياة عند أهلها بالمدينة المنورة، فإنها إذًا كنز معلومات عن سيرة محمد أسد).
عندما استقر محمد أسد في نيويورك، كان الله قد هيأ له أمرًا. لقد اهتدت إلى الإسلام دبلوماسية أمريكية تعمل في وزارة الخارجية، ضمن وفد الولايات المتحدة في منظمة الأمم المتحدة . كانت قد قطعت وحدها رحلتها إلى الإسلام، وبعد سنوات من الدرس والبحث تحولت السيدة (بولاPola ) من الكاثوليكية إلى الإسلام. و قبل أشهر من لقائها بمحمد أسد كانت قد أشهرت إسلامها، واتخذت لنفسها اسم حميدة. وبعد زواجها من صاحبنا، صارت تحمل ـ طبقًا للتقليد هناك ـ اسم حميدة أسد.
كان محمد أسد يتحدث عن حميدة بكل التقدير، ويذكر أنه ما كان لينجز ربع ما أنجز لولا دعمها المعنوي. قيل إنه تزوجها دون إذن مسبق من الخارجية الباكستانية وهو ما أثار الاعتراض، فما كان منه إلا أن واجه ذلك بالاستقالة من الخارجية الباكستانية. وكانت هذه الاستقالة خير استقلال، فلولاها ما تفرغ محمد أسد ليخرج إلى الوجود كتابه «الطريق إلى مكة» الذي نشر أول مرة سنة 1954م، وهو الكتاب الذي لم يتفوق عليه كتاب آخر في موضوعه؛ فما زال الكتاب يطبع مرة بعد مرة، فصدرت منه تسع طبعات بالعربية وحدها، أما الطبعات الإنجليزية فأكثر من أن تحصى، لعل من أحدثها طبعة 2001م.
*زهير
11 - نوفمبر - 2007
طلاق رقية صباح عرسها    كن أول من يقيّم
 
لم أجد بدا من نقل هذه الحكاية على طولها لطرافتها ولندرتها ولما تعنيه للكثيرين في التعرف على أخلاق (محمد أسد) الطيبة والنبيلة. وأعتذر أني نقلت المعلومات السابقة عن مواقع وكتب لم تكلف نفسها التحقق من قصة زواج محمد أسد من رقية المطيرية، وسبب طلاقها، وقد روى محمد أسد ذلك بالتفصيل (ص 255) من كتابه (الطريق إلى مكة).
فأثناء نزوله في "حائل" على صديقه الأمير ابن مساعد، "أمير مدينة حائل وأكبر رجالات عبد العزيز" التقى في مجلسه صديقه غضبان بن رمال الذي سأله فيما سأله عن قصة زواجه الفاشل من رقية بنت مطلق المطيري، فكان هذا الحديث الطريف الذي قصه محمد أسد على الأمير ابن مساعد وصديقه غضبان:
(كنتُ أعيش في المدينة المنورة وحيدا بلا زوجة، واعتاد بدوي من قبيلة مطير اسمه فهد على قضاء عدة ساعات معي يوميا لإعداد القهوة وتسليتي بحكايات طريفة عن رحلاته الاستكشافية مع لورانس أثناء الحرب العظمى.
وذات يوم قال لي: لا يصلح للرجل أن يعيش بمفرده .. دماؤك ستتجمد في عروقك؛ لابد أن تتزوج. وحين سألته مازحا عن العروس التي يرشحها للزواج مني أجاب: هذا أمر سهل: ابنة مطلق زوج أختي، وهي الآن في سن الزواج، وأنا بصفتي خالها أستطيع أن أطمئنك أنها فائقة الجمال.
كنت أمزح حين قلت له: إن عليه أن يعرف أولا هل أبوها موافق أم لا. وهكذا في اليوم التالي أتى أبوها مطلق بنفسه لمقابلتي؛ وكان الحرج باديا عليه.
بعد عدة أقداح من القهوة، وبعض الأحاديث المتفرقة أخبرني في النهاية أن فهدا قد حدثه عن رغبتي في الزواج من ابنته وقال: (يشرفني أن تكون زوج ابنتي، ولكن رقية مازالت طفلة، إنها في الحادية عشرة من عمرها)
استشاط فهد غضبا حين أخبرته بزيارة مطلق وما قاله لي؛ وصاح في غضب: نذل ووغد... الوغد يكذب .. الفتاة في الخامسة عشرة... إنه لا يحبذ تزويجها من غير عربي، ولكنه يعلم صلتك الوثيقة بالملك عبد العزيز ولا يريد أن يضايقك برفضه المباشر، لذلك ادعى أنها طفلة؛ بل هي ناضجة.. وأردف: (مثل ثمر الرمان الذي يطلب من يقطفه)
التمعت عينا الشيخ غضبان عندما أتى ذكر وصف الفتاة وعلق قائلا: خمسة عشر عاما .. جميلة وعذراء ... وبعد ذلك تقول لي: لا شيء ... ماذا تريد أكثر من هذا ؟؟
أكملت قائلا: صبرا لأكمل لك باقي الحكاية... أعترف لكم أن اهتمامي راح يتزايد وربما ازداد بعد معارضة مطلق والد الفتاة.. وهبت فهدا عشر هدايا ذهبية ، وبذل كل جهده لإغراء أبويها أن يزوجاني إياها: وأرسلت بهدية مماثلة لأمها شقيقة فهد... لم أعرف بالضبط ما حدث في منزلهم... كل ما أعرفه أن فهداً وشقيقته بذلا كل ما يمكنهما من ضغوط على مطلق حتى يرضى بتزويجي ابنته.
قال الأمير ابن مساعد: (يبدو أن فهدا كان صديقا ماكرا.. توقع هو وأخته عطاء سخيا منك يا محمد... ماذا حدث بعد ذلك ؟)
رويت لهم كيف حل يوم الزفاف بعد ذلك بعدة أيام في غياب العروس التي طبقا للعادات يمثلها والدها وكيلا شرعيا عنها، ويتم تأكيد موافقة العروس على توكيل أبيها بشهادة اثنين من الشهود.
وتبع عقد القران حفل زفاف سخي مترف وفخم، مع الهدايا المعتادة والهبات للعروس "التي لم أكن قد رأيتها حتى تلك اللحظة" ولأبويها، ولبعض الأقارب المقربين.. من ضمنهم بالطبع فهد الذي حظي بأكثر الهدايا قيمة.
وفي المساء نفسه حضرت العروس إلي بيتي بصحبة أمها وبعض النسوة المحجبات، بينما كانت النساء تغني أغاني الأعراس من فوق أسطح المنازل المجاورة على إيقاع الدفوف والطبول.
في الساعة المعينة دخلتُ الغرفة التي كانت بها العروس تنتظر هي وأمها... لم أميز الأم من الابنة.. كلتاهما كانت مغطاة تماما بملابس سوداء؛ من الرأس حتى الأرض... ولكي أعرف العروس من أمها قلت: يمكنك أن تنصرفي الآن... فنهضت واحدة منهما وخرجت في صمت... وهكذا عرفت أن التي بقيت هي زوجتي.
قال غضبان عندما توقفت عن الحديث عند هذا الموضع... بينما تطلع إلي الأمير ابن مساعد: وبعد يا ابني ماذا حدث وماذا فعلت ؟
أكملت: (ثم ظلت البنت في موضعها .. تلك الفتاة المسكينة، من الواضح أنها كانت تشعر بخوف شديد من تسليمها إلى رجل لا تعرفه .. وعندما طلبت منها بأرق صوت استطعته أن تميط لثامها لم تفعل إلا أن تحكم وضع عباءتها حول جسدها في خوف)
هتف الشيخ غضبان في حماس : (يفعلن ذلك دائما ... يظهرن الخوف في البداية في ليلة الزفاف، إلا أنهن بعد ذلك يصبحن مسرورات .. أليس كذلك ؟)
أكملت: (حسنا، ليس تماما ... كان علي أن أزيح عن وجهها اللثام بنفسي، وعندما فعلت ذلك أذهلني أن أرى وجهها الجميل، وجه بيضاوي ، قمحي اللون، وعيون واسعة، وضفائر شعر طويلة تدلت حتى الوسائد التي كانت تجلس عليها.
إلا أن وجهها كان بالفعل وجه طفلة... لم يكن عمرها يزيد على أحد عشر عاما تماما كما ذكر والدها... وقد دفع الجشع خالها فهدا وأخته إلى تصوير الأمر لي على أنها في سن الزواج ... بينما كان المسكين مطلق بريئا من أي كذب أو ادعاء)
سأل الشيخ غضبان وعلى وجهه علامات عدم فهم ما كنت أرمي إليه: (وبعد ؟ ما مشكلة أحد عشر ربيعا ؟ البنات يكبرن .. أليس كذلك .. بل إنهن يكبرن أسرع في بيت الزوجية)
تحت إلحاحهم رحت أكمل الحكاية: أخبرتهم أنه مهما تكن وجهات نظر الشيخ غضبان فإن صغر سن العروس لم يكن ميزة كبيرة لي. فلم أشعر نحوها إلا بالشفقة، فقد كانت ضحية خداع خالها الوضيع.... عاملتها كما يعامل الأطفال...طمأنتها أنه لا يوجد ما تخشاه مني .. إلا أنها لم تنطق بكلمة، وفضح ارتعاشها خوفها وجزعها.
وجدت على أحد الأرفف قطعة شيكولاتة ... قدمتها إليها إلا أنها لم تكن رأت الشيكولاتة في حياتها، فرفضتها بهزة عنيفة من رأسها.
حاولت أن أطمئنها بأن أقص عليها قصة مسلية من "ألف ليلة وليلة" ولكن لم يبد عليها أنها فهمت أي شيء مما كنت أقصه عليها.
أخيرا تمتمت بأول كلمات لها: "رأسي يوجعني" أحضرت بعض أقراص الإسبرين ووضعتها في كفها ومعها كوب ماء. إلا أن ذلك تسبب في مزيد من خوفها (علمت بعد ذلك أن بعض السيدات من معارفها أخبروها أن الرجال الغرباء القادمين من بلاد أجنبية يخدرون زوجاتهم ليلة الزفاف حتى يغتصبوهن بسهولة).
بعد ساعتين أو نحو ذلك نجحت في إقناعها أنني لن أؤذيها... وفي النهاية سقطت في نوم عميق مثل أي طفلة في سنها. وأعددتُ فراشا لي على البساط في ركن الغرفة. وفي الصباح أرسلت من يستدعي أمها، وطلبت منها أن تصطحب ابنتها معها... بدا على المرأة الغباء وعدم الفهم، فهي لم تسمع في حياتها عن رجل يرفض لقمة فتاة عذراء في الحادية عشرة، وظنت أن هناك خللا في عقلي.
وسأل الشيخ غضبان: "وماذا بعد ذلك" ؟
أجبته: لا شيء، طلقت الطفلة وتركتها على حالها الذي أتتني به.
لم تكن الصفقة سيئة لأسرتها، فقد احتفظوا بالفتاة والمهر الذي دفعته، والهدايا التي أهديتها إليهم ولأقاربهم. أما أنا فلم أنل إلا شائعة انتشرت وذاعت أنني لا أملك من الرجولة ما يكفي. وحاول بعض ذوي النيات الطيبة أن يقنعوني أن هناك من عمل لي عملا من أعمال السحر ليعوقني عن ممارسة رجولتي، وأنني لن أستعيد رجولتي إلا إذا قمت بعمل سحري مضاد يبطل السحر الأول الذي أصابني باللعنة.
قال الأمير وهو يضحك: (عندما أتذكر زواجك بعد ذلك في المدينة المنورة وإنجابك طفلا أتأكد أنك قمت بعمل سحري مضاد أقوى من الذي كان يؤثر فيك)
*زهير
12 - نوفمبر - 2007
إليزا...المسلمة الضائعة    كن أول من يقيّم
 
قمت بزيارات كثيرة إلى برلين حيث كان يقيم أغلب أصدقائي في الوقت الذي كنت أعمل فيه مع هيئة التحرير لصحيفة "فرانكفوتر ذيتونج" وفي واحدة من تلك الزيارات التقيت السيدة التي ستصبح زوجة لي بعد ذلك:
انجذبت إليها بشدة من اللحظة التي قدموني فيها إلى (إلزا) بمقهى "رومانسكي" لا بسبب جمالها الرقيق "كانت ذات وجه دقيق، رقيقة الملامح، وعيناها حادتان ذات لون أزرق عميق الزرقة وفم رقيق عطوف" بل لما يزيد على ذلك من حدس داخلي صادق وحسن تخمين وتوقع للأمور والناس والمواقف.
كانت رسامة ... لم تكن أعمالها من بين ذوي الأعمال الفنية، إلا أن تلك الأعمال كانت تحمل صفاء شديدا مثل ما كانت تعبر به بفكرها وحديثها.
على الرغم من أنها كانت تكبرني بخمسة عشر عاما، "كانت في أواخر الثلاثينيات من عمرها " إلا أن وجهها الرقيق وبدنها النحيف في مرونة كانا يعطيان انطباعا لمن يراها أنها أصغر عمرا.
كانت خير تمثيل للجنس الاسكندنافي: كان لديها كل صفاتهم، فهي سليلة إحدى أسر هولشتاين العريقة، وهي من أسر شمال ألمانيا العريقة، وتوازي في نبل المحتد الأسر البريطانية العريقة التي خدمت التاج البريطاني، إلا أن نمط حياتها الحر جعلها متحررة من تقاليد تلك الأسر: كانت أرملة وكان لها ابن يبلغ السادسة من عمره، قصرت كل حياتها عليه.
ويبدو ان الإعجاب كان متبادلا من أول لقاء: فبعد تعارفنا الأول أصبحنا نلتقي بعد ذلك كثيرا. ولأنني كنت متخما بانطباعاتي عن العالم العربي فقد نقلت إليها تلك الانطباعات؛ وبعكس أغلب أصدقائي أظهرت تفهما غير عادي وتعاطفا، حتى إنني عندما كتبت مقدمة لكتابي الذي أصف فيه رحلاتي إلى الشرق الأوسط أحسست وأنا أكتب تلك المقدمة أنني أقدم نفسي إليها... كتبت في تلك المقدمة: (عندما يرحل أوروبي إلى دولة أوربية أخرى لم يرها من قبل فإنه يمضي في بلد مختلف، وقد يلاحظ بعض الاختلافات والفروق في بعض الجوانب، وبغض النظر إن كنا ألمانا أو إنجليزا... وبغض النظر إن كنا نزور فرنسا أو إيطاليا أو المجر إلا أن الروح الأوربية روح الحضارة الغربية توحدنا جميعا، فنحن نحيا داخل إطار محدد تماما، من التماثل، ويمكن أن يفهم بعضنا بعضا كما لو كنا نتحدث لغة واحدة، ونطلق على تلك الظاهرة "البيئة الثقافية الواحدة" وهي ميزة بالطبع ، إلا أنها تعد عيبا في الوقت نفسه، لأننا نجد أنفسنا أحيانا مغمورين في تلك الروح المشتركة كما لو كنا ملفوفين في ضمادات من القطن، وأن تلك الروح تهدهدنا كما يهدهد الطفل قبل نومه مما يبعث على خمول القلب ويدفعنا إلى نسيان المسيرة التي خضناها في العصور الغابرة... تلك الأزمنة الخلاقة القديمة التي بزغت على أوربا بعد واقع لم تكن فيه أوروبا شيئا. اما الرجال الذين أخذوا على عاتقهم تلك المهمة الصعبة، سواء المكتشفون والمغامرون والفنانون المبدعون فإنهم كانوا يبحثون جميعا عن الينابيع الداخلية الدفينة في اعماقهم... ونحن سلالتهم المعاصرة... ونبحث أيضا عن حياتنا؛ إلا أننا مليؤون بالمخاوف التي تدفعنا إلى تأمين حياتنا من دون أن نصل إلى أغوارها وأعماقها، ونشعر أن هناك خطيئة تكمن في مثل تلك الدوافع والمقاصد.
لقد بدأ بعض الاوروبيين يشعرون الآن بالخطر العظيم المترتب على تجنب الخطر:
في هذا الكتاب أصف رحلة إلى منطقة اختلافها عن أوروبا كبير، حتى إنه لا يمكن تجاوزه ولا اجتيازه، وهو اختلاف يقترب بشكل ما من حد الخطر، والخطر ناجم عن تركنا أمان بيئتنا الموحدة التي لا نجد فيها ما يثير ولا ما يدهش، ونخوض غرابة أخرى لعالم "آخر" مختلف... دعونا لا نخدع أنفسنا: ففي ذلك العالم "الآخر" قد نظهر بعض التفهم لهذا أو ذاك من الانطباعات عن أمور نراها أو تصادفنا هناك، إلا أنه لا يمكننا بعكس ما يحدث في دولة غربية أن نتفهم بوعي الصورة الكلية.
ما يفصلنا عن ذلك العالم "الآخر" ليست المسافة الجغرافية وحدها... كيف نتواصل معهم ؟ لا يكفي أن نتحدث لغتهم، وحتى نتفهم ما يشعرون به تجاه الحياة لابد للمرء أن يدخل بيئتهم بكامل وعيه وإرادته ويحيا في تجمعاتهم ... هل هذا ممكن ؟
بل: هل هو مرغوب  فيه ؟ قد تكون صفقة سيئة أن نستبدل بعاداتنا التي اعتدناها من أنساق فكرية فكرا غريبا غير معروف لنا.
ولكن: هل نحن مستثنون من هذا العالم ؟ لا اعتقد ذلك.
إن إحساسنا أننا مستثنون يرتكز أساسا على خطأ يكمن في طريقتنا الغربية في التفكير، فنحن نميل إلى التقليل من أهمية القيم الخلاقة لمن لا نعرفهم، كما نميل إلى السلوك العدواني تجاههم... بدأ الكثيرون منا يدركون أن المسافة الثقافية والفروق الحضارية يمكن التغلب عليها بوسائل أخرى غير الاغتصاب الفكري: وربما يمكن التغلب على ذلك التغاير الثقافي بتسليم حواسنا إليه.
ولأن "إليزا" قد فهمت ببداهتها المعهودة ما حاولت قوله، وإن لم يكن بوضوح كامل مثل من يحاول تبين معالم شيء في الظلام، وإن لم أتمكن من إيضاح ما يعتمل في ذهني في تلك المقدمة المتلعثمة، إلا أنه كان لدي إحساس قوي أنها هي وحدها تستطيع أن تتفهم ما أسعى إليه، وأن تساعدني على البحث عنه. (الطريق إلى مكة: ص 210 ـ 213)
*زهير
12 - نوفمبر - 2007
 1  2