البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : مغامرة بطوليّة من تاريخنا - قصّة المملوك الصارم أوزبك    قيّم
التقييم :
( من قبل 4 أعضاء )

رأي الوراق :

 أحمد 
30 - أكتوبر - 2007
مغامرة المملوك صارم
 
الدين
 
أوزبك الأشرفي
 
ورحلته من حلب إلى الموصل فالشام
في عام 658 هـ / 1260 م
 
كنت في كتاب لي بعنوان: »دمشق في عصر سلاطين المماليك« صدر عام 2005 نشرت نصّاً على غاية من النّدرة، يمثل وثيقة فريدة لشاهد عيان أدرك حصار التّتار لمدينة حلب، وتوجّه في جولة استطلاعية إلى دمشق، فقام بدور هام للغاية على صعيد الاستخبارات والعمليات، أسهم أكبر الإسهام في انتصار جيش المماليك على التّتار وسحقهم بالكامل في معركة عين جالوت عام 658 هـ.  الغريب في الأمر أن بطل هذه الرّواية لم يكن من كبار القادة الحربيين، أو حتى من الأعيان، بل كان مجرّد »مملوك« بسيط سَمَت همّته إلى همم الملوك، فترك في تاريخنا بصمة كبيرة، نأسف أنها لم تُدرك نصيباً من الشّهرة، حتى أن نشرتنا لها كانت الأولى من نوعها في نصّ مطبوع بالعربية!
غزا التَّتر الشام، فاحتلّوا دمشق 3 مرّات في عصر المماليك: الأولى سنة 658 هـ بقيادة هولاكو شقيق خان التَّتر الأكبر وحفيد جنكيز خان، والثانية سنة 699 هـ بقيادة غازان ابن أخيه، والثالثة سنة 803 هـ بقيادة تيمورلَنك.  والنص الذي ننشره الآن يتعلّق بالغزوة الأولى منها.
*  *  *
في نهاية عام 657 هـ، بعد أن قضى هولاكو على الخلافة العبّاسيّة في بغداد، زحف باتجاه الجزيرة ثم بلاد الشام وأحكم الحصار حول حلب - المدينة الأولى التي صادفها في طريقه - وكانت تلك بداية المحاولة الهادفة إلى غزو مصر، وبالتالي إحكام سيطرة التَّتر على المشرق الإسلامي.  كان من جرّاء هذا الزّحف المدمّر أن تقطّعت أوصال دولة بني أيّوب التي أسّسها عام 569 هـ السّلطان النّاصر صلاح الدّين، ولم يجد سلطان دمشق الملك النّاصر يوسف الثاني بُدّاً من الفرار ومعه أهله وحاشيته صوب ساحل فلسطين، آملاً الالتجاء إلى حكّام مصر من بني أيوب.  غير أن مقاليد مصر كانت قد انتقلت للتوّ آنذاك إلى أمراء المماليك، فأسّسوا فيها سلطنتهم الجديدة باسم: دولة مُلوك التُّرك البحرية.
ما لبثت حلب أن سقطت بيد التَّتر في 9 صفر سنة 658 هـ (كانون الثاني 1260 م)، فبذلوا السّيف في أهلها من نهار الأحد إلى الجمعة رابع عشر صَفَر.  ثم أمر هولاكو برفع السّيف، ونُودي بالأمان، ولم يسلم من أهل المدينة إلا من التجأ إلى دار عَلَم الدّين بن قَيْصَر الموصلي، ودار شهاب الدّين بن عمرون، ودار نجم الدّين أخي مردكين، ودار البازيار، والخانقاه التي فيها زين الدّين الصُّوفي، وكنيسة اليهود. وذلك لفرمانات كانت بأيديهم من قبل التّتر، فسلم من القتل ما يبلغ خمسين ألفاً.
وبلغ الملك النّاصر بدمشق أخذ مدينة حلب، فانزعج وداخَلَه الرُّعب، ورحل من دمشق بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الدّيار المصريّة، وبعد رحلة قصيرة تمكّن التَّتر من القبض عليه وعلى أخيه الملك الظاهر غازي، قبل أن يدخلا أرض مصر، فوجّهوا بهما إلى هولاكو، فأمر بضرب عنقيهما على الفور.
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تتمة المقدمة    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
أما قلعة حلب فاستسلمت بعد أخذ المدينة بنحو شهر، بعد أن بُذل لحاميتها الأمان.  وسار من دمشق إلى حلب القاضي محيي الدّين بن الزّكي، فقابله هولاگو مقابلةً حسنة وخَلَع عليه وولاّه قضاء الشام كلّه، فعاد إلى دمشق لابساً خلعته، فجمع فُقهاء دمشق وأكابرها وقرأ عليهم تقليد هولاگو.
بعد سقوط حلب وصل جيش التتار آخر صَفَر إلى دمشق، التي باتت دون حاكم، بقيادة كبيري قادتهم الميدانيين كتبُغا وبَيْدَرا، وكان هولاگو أوصاهم بأهل دمشق - بشفاعة ابن الزّكي - ونهاهم أن يأخذوا لأحد درهماً فما فوق.  فتلقّاه أهل دمشق بالرّحب والسّعة، وكان كتب هولاگو أماناً لهم فقُرئ بالميدان الأخضر، ونُودي بالمدينة فأمِن الناس مع خوف من الغَدر.
أما قلعة دمشق فقد امتنعت عن التّسليم، ونُصبت في أعاليها المنجنيقات، فأحضر التتار عشرين منجنيقاً نُصبت إلى جهة القلعة من غربيّها، وخرّبوا حيطاناً كثيرة وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رمياً متواصلاً كالمطر المتدارك، فتداعى قسم كبير منها للسّقوط، فأجابهم متولّيها للمُصالحة وفتحها لهم، فدخلوها وخرّبوا مواقع التّحصينات فيها، وقتلوا متولّيها بَدر الدّين بن قَراجا ونقيبها جمال الدّين ابن الصّيرفي الحلبي، واستلم القلعة أمير من التتار.
كان هذا الاحتلال لدمشق - وهو الأول - أخفّ احتلالات التتار وطأة، فقد اقتصر على فتح البلاد وجبي أموال منها ليست بالقاسية، كما أُخذت بعض الكتب وأُرسلت إلى الجامعة التي أسّسها نَصير الدّين الطُّوسي في مُراغة.  ويظهر أن القصد من عدم تخريب دمشق كان لتُتَّخذ قاعدةً للزّحف على البلاد المصريّة.  ومع ذلك، فقد كان أهل البلد في وَجَل من غدر التتار واستياء من احتلال أجنبي قاهر.  وأخذت جيوش التتار تُغير على بقيّة بلاد الشام، فوصلت إلى غَزّة وبيت جبريل والخليل والصَّلْت، فقتلت وسلبت وعادت إلى دمشق. 
ثم لم يكد يمضي سبعة أشهر على مكوث الغُزاة بدمشق حتى قرّروا بقيادة كتبُغا نُوين غزو مصر، فتوجّهوا للقاء الجيش المملوكي بأرض فلسطين، فجرت وقعة عين جالوت الحاسمة في 25 رمضان 658 هـ (3 أيلول 1260 م).  انتهت المعركة الضارية إلى نصر ساحق للمماليك على الجيش التتري، وعُزي هذا النّصر بغير حق إلى سفر هولاگو إلى قَرا قوروم عاصمة الإمبراطورية التَّترية، إثر موت أخيه مُنگو، وإلى أن جيش التتار كان غير كافٍ.
إثر هذه المعركة الفاصلة، ورحيل هولاگو عن الشام، تمّ للمماليك تحرير بلاد الشام برمّتها من ربقة التتار، وأُلحقت بسلطنة مصر المملوكية، وإن كان أوائل سلاطين المماليك (كالمظفّر قطُز والظاهر بَيْپَرس) أبقوا بعض ممالك المدن الأيويبية في الشام بيد أصحابها القُدامى، ومنهم ملك حِمص الملك الأشرف مُظفّر الدّين مُوسى بن إبراهيم - من ذُريّة شيرگوه الكبير عمّ صلاح الدّين - الذي سنقرأ في النّص التالي خبر لقائه بهولاگو ، مع مملوكه أزبك. 
من الصّعب تخيّل آثار نجاح التتار في غزو مصر - لو تمّ لهم ذلك - سواء على المشرق الإسلامي أو على أوروبا المسيحية التي كانت تُعلِّق آمالاً كبرى على تغلّبهم على الإسلام.  والمفارقة التاريخية الكبرى هنا هي أن دولة المماليك الفتيّة قد قامت من قلب خطرين داهمين حقيقيين: الغزو الصّليبي في حملته السابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع Louis IX، التي انتهت بنصر ساحق للمماليك في معركة المنصورة عام 648 هـ.  ثم هذا الغزو التتري الذي كاد يقضي على الدّولة الجديدة في مهدها، تمهيداً لاجتياح الحجاز وباقي ديار الإسلام.
وأما علاقات أوروبا بإمبراطورية التَتار، فلدينا شواهد كثيرة عليها آنذاك، وبخاصّة عن طريق السّفارات السّياسية والرّحلات العامّة، التي جمعت ما بين الاستطلاع والتّجارة.  فمن أمثلة ذلك رحلة الرّاهب جوڤاني دي پيان دَي كارپيني  Giovanni di Pian dei Càrpini  إلى بلاط التتار بين 1245-1247 م، أرسله البابا إينوسان الرابع ؛ وسفارة الرّاهب الفرنسيسكاني روبروك  Rubrouck  إلى بلاط المغول بين 1253-1254 م، أرسله الملك لويس التاسع بغية التّحالف معهم ضدّ المسـلمين ؛ ورحـلات الرّائد البندقي الأشهر ماركو پولو  Marco Polo  (1254-1323 م) الذي سافر من بلاده إلى بلاد المغول في أواسط آسيا وعاد عن طريق سومطرة فوضع عنها كتاباً شيّقاً ؛ ورحلات المبشِّر الفرنسيسكاني أوديريكو دا پُورْدينونِه  Oderico da Pordenone  بآسيا بين 1286-1331 م.
*  *  *
يقدّم لنا النّص الذي ننشره هنا مُعطيات تاريخية جديدة عن غزو التتار لبلاد الشام، ومن خلال روايته الشائقة والطريفة يحفظ لنا وصفاً حيّاً وموثوقاً لمعسكر التَتار ومعيشتهم وأزيائهم، وللحياة الشخصية لهولاكو وبلاطه.  هذه المغامرة الفريدة نراها واحدة من أكثر الرّوايات غنىً بالتفاصيل المهمّة ومن أشدّها صدقاً وعفوية في أسلوب أدائها، وفيها نلمس بكل وضوح مدى التباين ما بين الاندفاع الفطري للتتار البُداة وتراخي الحياة الحضرية المرفّهة للعالم الإسلامي.
وهذا النّص الثّمين يذكّرنا بما أورده ابن فضل الله العُمري في كتابه »مسالك الأبصار« - نقلاً عن »العمّ الحسن الإربلي« - حول مُثول صفيّ الدّين عبد المؤمن ابن يوسف بن فاخر المويسيقي بين يديّ هولاگو بظاهر بغداد عام 656 هـ.  أما الإربلي فهو الحسن بن أحمد بن زُفر (663-726 هـ)، له كتاب »روضة الجليس ونُزهة الأنيس«، و»مدارس دمشق ورُبُطها وجوامعها وحمّاماتها«.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
من هو بطل هذه المغامرة؟    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :
 
فمن بطل هذه الرّواية؟
بطل هذه الرّواية رجل مغمور من مماليك الملك الأشرف الأيوبي صاحب حِمص، اسمه: صارم الدّين أزبك (أوزبك) الأشرفي.  لا تفيدنا كتب التّراجم عن سيرة حياته أي شيء، وما ظنّه المستشرق دلاّ ڤيدا إلماعاً له في ترجمة صارم الدّين أزبك ابن عبد الله الحلبي (توفي 679 هـ) ليس إلا تشابهاً بالاسم، والدّليل الجازم يقدّمه لنا مؤرّخ مصر الكبير ابن تَغري بَردي (وهكذا اسمه بفتح الباء وليس بضمّها)، في ترجمته لأزبك الحلبي الذي كان من »أمراء« عزّ الدّين أيبك الحلبي، لا من »مماليك« الأشرف الأيوبي.
وعلى ذلك يبقى بطلنا مجهول الهويّة ومجهول مكان الولادة أو الوفاة، وحتى اسم أبيه لا سبيل إلينا إلى معرفته.  الأثر الوحيد الذي وصلنا عنه هو النّص الرّائع لمغامرته، حفظته لنا مخطوطة فريدة من تاريخ الأمير شهاب الدّين قَرَطاي العِزّي الخَزْْنَداري، التي ما برحت قابعة في مكتبة جامعة گوطا  Gotha بألمانيا (برقم: Ar. 547) في جزء مفرد يضمّ أخبار 626-689 هـ.  غير أن هناك لحسن الحظ نقولاً منها في تاريخ ناصر الدّين محمد ابن الفُرات (توفي 807 هـ): »الطريق الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخُلفاء والملوك«.
أول من أشار إلى النصّ كان المستشرق الإيطالي (من أصل سفاردي إسپاني) ج. ليڤي دلاّ ڤيدا، فنقل النّص الوارد في مخطوط الجزء 6 من تاريخ ابن الفُرات المحفوظ في مكتبة الڤاتيكان بروما (برقم: 726)، وقابلها بنسخة مكتبة البلاط الملكي بڤيينّا (برقم: 814).  لكنه مع ذلك يشير إلى محاولته - بغير طائل - الاطّلاع على أصل تاريخ الأمير قَرَطاي العزّي المحفوظ في گوطا.  وفي عام 1935، نشر نصّ أزبك مُصدّراً بمقدّمة وافية باللغة الإيطالية، مع ترجمة إيطالية وحواش مستفيضة قيّمة، لولا أن فيها أخطاءً فيما يخصّ تعابير اللغة التركية، التي يجهلها كما هو واضح.  وصدرت الدّراسة المذكورة في مجلّة أورْيِنْتاليا (ص 353-376) بعنوان:
G. Levi Della Vida:  “L’invasione dei Tartari in Siria nel 1260, nei ricordi di un testimone oculare”. In: Commentarii Periodici Pontificii Instituti Biblici «ORIENTALIA», Volume IV, Nova Series, Roma 1935.
قمنا بنقل النّص عن دلاّ ڤيدا، بعد أن ترجمنا مقدّمته عن اللغة الإيطالية (نرجئ نشرها كاملة إلى مناسبة أخرى)، وعلّقنا عليه بما يلزم.  ثم أتبعناه بنصّ لابن تَنڮري (تغري) بَردي الأتابكي من كتابه »النّجوم الزّاهرة في مُلوك مصر والقاهرة«، لإكمال صورة المشهد التاريخي للفترة والأحداث التي تجري بها رواية الصّارم. 
وأخيراً.. نعد بنشر نص شديد التشابه مع هذا النص، إنما كانت أحداثه جرت بعد 147 عاماً، عندما أقبلت جحافل الجيش المغولي تحاصر دمشق في عام 803 هـ / 1400 م، وكان قائد المغول الغازي الدموي الرّهيب تيمورلنك..  حينذاك تمّ بظاهر أسوار دمشق لقاء من نوع مشابه للقاء الصارم أوزبك بخان التتار هولاگو.. إنما الفارق أن اللقاء الثاني كان بين تيمورلنك وشخصية يعرفها كل واحد منا تمام المعرفة: إنه ابن خلدون، صاحب المقدّمة الشهيرة والتاريخ المعروف.
فهل لعب ابن خلدون دوراً مشرّفاً كالذي لعبه هذا البطل المجهول البسيط صارم الدين أوزبك؟ وما الذي دار بالضبط من حوار بينه وبين الغازي الرّهيب؟!
هذا ما سنراه في مجلسنا القادم.. مع مفاجآت لا تخطر ببال!
 
المصــادر:
ذيل كتاب الرّوضتين لأبي شامة، 220، 229.
البداية والنهاية لابن كثير، حوادث سنة 658-659 هـ.
النجوم الزّاهرة لابن تغري بردي، 7: 74-83.
النجوم الزّاهرة لابن تغري بردي (ذكر أزبك الحلبي)، 7: 56، 344.
عَقد الجُمان للعَيني، 1: 229-270.
ثمرات الأوراق لابن حجّة الحموي (لقاء صفي الدّين بهولاگو)، 461.
Della Vida, G. L.: L’invasione dei Tartari in Siria nel 1260, Roma, 1935.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
لقاء أوزبك بهولاكو أثناء نزوله على حلب    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :
 
]مغامرة المملوك الأشرفي الصّارم أزبك[
 
]227 و[ وقال الأمير شهاب الدّين قَرَطاي([1]) العِزّي الخزنداري في تاريخه ما صيغته:
قال أزبك مملوك الملك الأشرف الأيوبي صاحب حمص:  لمّا نزل هُلاوون([2]) على حلب كنتُ غائباً عنها، فتخبّأتُ في مغارة من مغاير حلب مدّة ثلاثة أيام وأنا أسمع حنين حوافر الخيل فوق رأسي.  فلمّا انقطع الحنين طلعتُ من المغارة، فوجدتُ على بابها رجلاً من التّتار ميتاً، فلبستُ قماشه وتزيّأتُ بزيّ التّتر، وقصدتُ دهليز هُلاوون.  ومن جُملة عدل التّتار أنهم إذا نزلوا بأرض، نصبوا قريباً من الدّهليز الذي للملك صارياً، وفي رأس الصّاري صندوقاً صغيراً معلّقاً، وعند الصّاري من يحرسه جماعة من أكبر أُمناء التّتار.  فإذا كان لرجل شكوى أو ظُلامة، يكتب ظُلامته في قصّة ويختمها ويضعها في ذلك الصّندوق.  فإذا كان يوم الجمعة  يطلب الملك الصّندوق إلى بين يديه ويفتحه ]227 ظ[ بمفتاح من عنده ويكشف ظلمات النّاس.
قال الصّارم:  فكتبتُ قصّةً شرحُها:  »المملوك الصّارم - ولم أقل أزبك - وخفتُ أن أكتب في قصّتي أزبك([3])، فلا ينادوني التّتر يومئذ: »يا صارم!«، بل ينادوني: »يا أزبك!«، فكتبتُ في القصّة: »المملوك الصّارم، مملوك الملك الأشرف صاحب حِمْص، يُقبّل الأرض ويسأل الحضور بين يديّ القان«([4]).  فلمّا طلبني وحضرت بين يديه، رأيتُ ملكاً جليل القدر، عظيم الشأن، كثير الحُرمة، قصير القامة، أقنص إلى الغاية كبير الوجه، جهر الصّوت، حنون عينيه على وجهه ؛ والخواتين جالسات إلى جانبه، والستّ طُقُز خاتون عن شماله.
قال الصّارم:  لمّا وقفتُ بين يدي هُلاوون، ]تـ[ـكلّم معي من حُجّاب أربعة، وقال لي في جملة كلامه: »أنت مملوك الملك الأشرف صاحب حمص، بَهادُر المسلمين - يعني فارس المسلمين -؟«، قلتُ: »نعم«.  وجعل يحدّثني من حاجب إلى حاجب، والحاجب الرّابع يتحدّث معي بلسان التّركيّة.  فلمّا رآني هُلاوون فصيح اللّسان، قويّ الجَنان، سريع الجواب، قرّبني إليه وأمر أن لا يكون بيني وبينه غير حاجب واحد.  ثم قال لي: »تشرب الخمر؟«، قلتُ: »نعم«.  فأمر لي بهناب مملوء خمراً، وأشار إلى الحاجب فناولني.  فقبّلتُ الأرض، ورقصتُ وعملتُ أشياء كان يعملها الحُرفاء بين يديّ ملوك الإسلام لمّا كانت البلاد لهم.
قال الصّارم:  فأعجب ذلك الخواتين، وانشرحن وتبسّمن، فأمّا هُلاوون فإنه لم يرفع رأسه من الأرض.  ثم أمرني هُلاوون بالجلوس فجلستُ، وبالشّرب فشربتُ، وبالأكل فأكلتُ.  فلمّا رآني أيّ أمر أشار به امتثلتُ، أمرني بالجلوس فوق نُدمائه في أعزّ مكان وأعلاهم ]228 و[ مرتبةً، وصار لا يأكل إلا وأنا حاضر ولا يشرب إلا وأنا حاضر.  وإن نام هُلاوون، طلبتني الستّ طُقُز خاتُون زوجته.  فأقمتُ على تلك الحالة أول ليلة، وثاني ليلة وثالث ليلة، ونحن نحاصر حلب.
قال الصّارم:  ثم سألني هُلاوون عن أمر من الأمور، فجاوبتُه جواباً كذباً، وَدَدْتُ لو ابتلعتني الأرض ولم أنطق به.  سألني على لسان حاجبه: »في كم قدر ما نملك هذه البلد؟«، يعني حلب.  قلتُ: »في عشر سنين!«.  فأطرق هُلاوون برأسه إلى الأرض غضباً منّي، وقال لحاجبه: »اسأله في كم مقدار ما نملك هذه القلعة«، يعني قلعة حلب.  وقصدتُ في كلامي أن هُلاوون إذا سمع هذا الكلام يرحل عن حلب.  فتبسّم هُلاوون، وقال لحاجبه: »لولا سابق خدمته لي ضربتُ عنقه.  أما يستحي من هذا الكلام؟  يكون هذا همّة ملوكهم
- يعني ملوك المسلمين - المختلفة آراؤهم، المشتغلين ببعضهم بعض؟
«.  كل هذا بلسان التّتار، وأنا لم أعلم ما يقول.
قال الصّارم:  فسكتُّ، وندمتُ على جوابي له، وذلك لما رأيتُ من الغيظ الذي تبيّن في وجهه.  فلم يفرغ هُلاوون من كلامه إلا ودخل عليه رجل من التّتار وفي يده رأس مقطوعة من رؤوس بني آدم معلّقة بشعره وهي مُخضّبة بالدّم، فرماها بين يدي هُلاوون، وتحدّث معه بلسان التّتار.  ثم أخذ الرأس وخرج.  فالتفتَ الحاجب نحوي وقال لي: »يا صارم، تعرف ما هذه الرأس وما هذا الرّجل؟«، قلتُ: »لا«، قال: »هذا أكبر مُقدّمي التَّتار، وإنه كان في نُقب من بعض النُّقوبات التي تحت القلعة، وخرج يزيل حَقنه وجعل ولده مكانه.  فكاشفهم الحلبيّون ]228 ظ[ وهجموا عليهم في النُّقب، فهرب ولده وهرب معه جماعة من التّتار.  فبلغ ذلك أباه، فعبر النُّقب وقطع رأس ولده بيده، وجاء بها إلى القان«.
قال الصّارم:  فعند ذلك علمتُ أن التّتار لا بُدّ لهم من حلب، وأن بنينا وبناتنا ومَن يلينا في أيدي التّتار.  وهذا أمرٌ أراده الله تعالى، فلا رادَّ لمشيئته.
*  *  *


([1]) معنى الاسم بالتركية kara-tay: المهر الأسود.
([2]) يُلفظ اسم هولاگو بالتّتريّة: Hülâgu، لكنه يرد في كثير من المصادر القديمة (بما فيها سيرة الملك الظاهر الشعبية بروايتها الشاميّة) بهذه الصيغة: هُلاوون.
([3]) معنى اسمه بالتركية öz-beg: أمير أصيل.
([4]) كلمة خان تلفظ في التركية: han  فليس في التركية خاء، لكن أصلها ليس قافاً.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
الصارم يحوز ثقة هولاكو ويعمل الحيلة لتأخير فتح حلب    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
وكنتُ ليلةً عند هُلاوون ونحن نشرب، إذ ورد عليه جماعة من مقدّمي التّتار، ومعهم أصناف كثيرة، من جملتها زبيب وحَبّ قُطن وقمح ونجارة خشب وفحم وخرّوب.  فجعل هُلاوون ينظر إليّ ويتبسّم، ولا أعلم ما في نفسه.  ثم أمر لنا أن نشرب بالأقداح الكبار والزّبادي.  فلمّا خرجتُ أقضي شُغلاً، لحقني الحاجب - وكان يحبّني وأحبّه محبّة عظيمة - وقال: »يا صارم، أتدري ما هذا الذي جاء به المقدّمون؟«، قلتُ: »لا والله«، قال: »إنهم قد وصلوا في النُّقب تحت القلعة إلى أن وصلوا إلى هذا الذي رأيتَه«، ثم إن هُلاوون سأل المُقدّمين: »كم يسع النُّقب؟ « قالوا: »يسع ستّة آلاف رجل«، قال: »أوسعوه حتى يسع عشرة آلاف«.  وأنّ غداً بعد الظهر تأخذ التّتار قلعة حلب، وتصبح بناتكم ونساؤكم وبنات الملوك اللّواتي تحصّنَّ بهذه القلعة جواري لهذه الستّ طُقُز خاتُون، ويوقفهنّ هُلاوون في موقف السَّبي.  فانظر يا صارم الدّين ماذا تفعل!«.
قال الصّارم:  والله لمّا سمعتُ هذا الكلام صحوتُ من السُّكر، ودخلتُ المجلس وجلستُ بين يدي هُلاوون وقلتُ بطريق المَصْخَركيّة([1]): »والله إن ملوك التَّتَر مثل الحمير!«.  فنظرتْ طُقُز خاتون([2]) نحوي وهي تتبسّم، وقالت: »كيف هذا ]229 و[ يا صارم؟«.  قلتُ: »إن ملوك المسلمين كانوا إذا شربوا الخمر يكون نَقْلهم الفُستق وشراب الحُمّاض وأقراص الليمون في الزَّبادي الصّيني وقماقم الماورد والرّيحان والبنفسج والآس والمنثور والنّرجس، وما يناسب هذه الأشياء العظيمة، وأنتم التّتار تشربون الخمر على الفحم وحَبّ القطن والزَّبيب ونشارة الخشب وهذه الأشياء القبيحة؟!«.  وتبسّم هُلاوون وضحكت الخواتين.
قال الصّارم:  ثم سبقت منّي كلمة كان جزائي فيها أن تُضرب عُنقي، فقلتُ: »أنا أعلم من أين جاؤوا هؤلاء المقدّمون بهذه الأصناف!«.  فغضب هُلاوون وقال: »من أين تعلم هذا؟«.  فقبّلتُ الأرض وقلتُ: »يحفظ الله القان، وحَقّ رأس الملك أنا أذخرت هذه الذّخائر كلّها بيدي في هذه القلعة خوفاً من التَّتر واعتداداً للحصار!«.  وسكن هُلاوون من غيظه، وكان اعتقد في نفسه أن الحاجب أوحى إليّ شيئاً من هذا الكلام، وكان الأمر كذلك.
ثم نهضتُ قائماً وقبّلتُ الأرض، وقلتُ: »نصر الله القان، إنّ حُرمتك عظيمة ومملكتك واسعة، والملوك تخشاك ولا يقدر أحد منهم أن يقف بين يديك!  والله والله يا خُونْد الملوك يودّون لو كانوا وقوفاً بين يديك مثل مماليكك هؤلاء الوقوف، ولكن يخافون من سَطْوَتك!«.  فأعجب هُلاوون([3]) كلامي، وقال لي: »يا صارم«، قلتُ: »لَبَّيك!«، قال: »تقدر أن تأتيني بأستاذك الملك الأشرف صاحب حمص؟«، قلتُ: »نعم«، قال: »اركبْ وآتني به!«، قلتُ: »بعد يومين«، قال: »نعم«.
قال الصّارم:  فأمر لي هُلاوون بالخيل، وقال: »اركب ولا تقعُد«.  قلتُ: »بشرط!«، قال: »وما هو؟«، قلتُ: »أن لا تفتح هذه القلعة إلى أن يحضر الملك الأشرف بين يدي القان!«، قال: »نعم«.  قال: فركبتُ وأخذتُ معي عشرة أكاديش، وعلَّقتُ في عُنقي الطُّغْمة - يعني لوح البريد - وسُقتُ ووصلتُ إلى غزّة، فبلغني أن الملوك هاربين في البرّيّة، مُشتّتين محيّرين مُعثّرين (sic.).  وكان قد بلغ ملوك المسلمين منزلتي عند هُلاوون، فسُقتُ ولحقتُ الملوك على منزلة تُعرف ببِركة زَيْزَا([4]).  فلمّا رأتني الملوك نزلوا عن خيولهم، وقبّلوا يدي كما كنتُ أقبِّل أيديهم، وقَبَّل الملك الأشرف أستاذي([5]) يدي، فعَظُم ذلك عليّ واستحييتُ من أستاذي ومن الملك النّاصر.  ثم قلتُ للملك الأشرف: »القان يطلبُك «، فخاف، فقلتُ: »ممَّن تخاف؟«، قال: »من القان!«، قلتُ: »الضّمان عليّ تعود ملكاً جليلاً على ما في نفسك، ولا يصل إليك مكروه!«.


([1]) العبارة من مصطلحات العصور الوسيطة، من المُفردة المعرّبة عن اللاتينية »مَسْخَرَة«، إنما بصيغة فارسية بإضافة اللاحقة »كي«.
([2]) معنى طُقُز بالتركية dokuz: تسعة (أي 9 عطايا)، وخاتون بالفارسية: زوجة الأمير.
([3]) ذكرنا أن اسم هُولاگو خان قد يرد بصيغة: هُلاوون.
([4]) ذكر ياقوت في معجم البلدان (3: 163): زَيْزاء من قُرى البَلقاء كبيرة، يطؤها الحاج ويُقام لهم سوق، وفيها بركة عظيمة.  وأصله في اللغة المكان المرتفع.
([5]) الأستاذ مصطلح من القرون الوسطى يعني صاحب المملوك، أي مالكه.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
مثول الملك الأشرف بين يدي هولاكو    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :
 
قال الصّارم:  فالتَفَتَ الملك النّاصر نحوي، وقال: »وأنا يا صارم الدّين؟!«، قلت: »مالي معك كلام!«، فبكى الملك النّاصر.
]...[ ولمّا أخذتُ الملك الأشرف ومضيتُ إلى هُلاوون وحضر بين يديه، رسم له بشُقّة ينزل فيها، وخروف وقِدر وحطب.  والله إن الشقّة التي ضربها هُلاوون للملك الأشرف لم ترض الكلاب تنزل فيها، والخروف لم يرض الذئب يأكله، والحطب لم يرض المشاعليّ يقده في مشعله، وهكذا عيش التّتر دائماً.
قال:  فتركتُ الملك الأشرف في الشقّة، ومضيتُ إلى خدمة هُلاوون، فأجلسني على جاري عادتي، وأمرني أن آكل فأكلت، وأمرني أن أشرب فشربت.  وسألني عن أحوال الملوك وما هم فيه، وكيف تركتهم، قلتُ: »في أنحس الأحوال، هاربين مُشتّتين مُجرجرين ]230 و[ مُحيّرين في البَراري، لا يستلذّون بالنّوم خوفاً من حُرمة القان!«.
قال الصّارم:  فأعجب هُلاوون كلامي، وقال: »كيف تركتَ أستاذك يا صارم؟«، قلتُ: »ما لي أستاذ إلا القان!«، قال: »لا، إلاّ أستاذك الملك الأشرف!«، قلتُ: »ما أعلم شيئاً من حاله«، قال: »كيف تركتَه وحدَه؟«، قلتُ: »ما أفارق وجه القان، نَصَره الله!«.  فأطرقَ هُلاوون برأسه زماناً، وقال: »لا تقل هذا يا صارم، بل امض إلى أستاذك وانظر أيّ حال هو عليه«.
فأتيتُ إلى الملك الأشرف، فرأيتُه ويده تحت خدّه وهو حزين، والخروف مربوط بحبل والحطب مُلقىً على الأرض.  فقلتُ: »ما بالك يا خُونْد؟«، فقال: »ألا ترى هذه الحال يا صارم الدّين؟«، وبكى.  قلتُ: » لا تبكِ يا خُونْد، والله والله والله هذا عيش التَّتر دائماً، وهذا حالهم.  والله يا خُونْد ما فعلوا هذا استقلالاً بك، ولكن هذا خيار عيشة التَّتر!«.
قال الصّارم:  فتبسّم الملك الأشرف وقال: »هكذا تكون الملوك، وبهذا الحال والرّجال تملك الملوك البلاد«.  وبينا أنا أتحدّث مع الملك الأشرف وأوطّي أخلاقه، إذ ورد مرسوم هُلاوون بحضوره بين يديه.  فوالله لقد رأيتُ الملك الأشرف تغيّر لونه، وما رأيتُ الملك الأشرف تغيّر لونه قبلها، ولقد كسر الملك الأشرف الخوارزميّة وهم ستّة آلاف وهو في ألف وخمسمائة فارس، ولم يتغيّر لونه.  ولقد كسر التّتار في وقت كان التّتر في ألفي وخمسمائة والملك الأشرف في ثمان مائة فارس، ولم يتغيّر لونه.  ولمّا وقف الملك الأشرف بين يديّ هُلاوون وأنا ماسك بشماله والحاجب ]230 ظ[ ماسك بيمينه..
قال الصّارم:  والله لقد رأيتُ الملك الأشرف وهو يرتعد مثل القصبة، ولم يستطع الوقوف على رجليه، وذلك خوفاً من هُلاوون.  وكان الملك الأشرف شاباً حسن الوجه، أسمر اللّون بحُمرة، تامّ القامة، بوجهه شامات متفرّقة.  وكان لابس (sic.) قباء تَتَري أخضر ببنود أطلس أحمر، وخُفّ بُلغاري بكوابج([1]) ذهب، وتخفيفة مُزركشة.
فنظرت طُقُز خاتُون للملك الأشرف، ونظرت إلى هُلاون وقالت: »إن هذا شاب مليح وفارس المسلمين، وهكذا تكون([2]) الملوك«.  فنظر هُلاون نحوها وتبسّم وقال: »إنّما نحن الملوك الذين([3]) تحضر هذه الملوك بين أيدينا وقوفاً أذلّة خائفين من سَطوتنا!«.  كل هذا والملك الأشرف واقف بين يديّ هُلاوون، لا يدري ما يصنع به الدَّهر.  ثم رفع هُلاوون رأسه وقال: »يا أشرف تمنَّ([4]) ما تختار«.  فقبّل الملك الأشرف الأرض ثلاث مرّات.
قال الصّارم:  فقلتُ له: »اطلُب منه أن يهبك هذا البُرج الذي في القلعة، الذي فيه أمّك وأخواتك وبناتك وحريم الملوك وبنات الملك النّاصر وحريمه، ومتى لم تطلب منه هذا البُرج في هذه السّاعة وإلاّ في هذه الليلة تملك التّتار قلعة حلب، وتصبح حريم الملوك الإسلاميّة جواري لهذه الستّ طُقُز خاتون«.  قال الملك الأشرف: »لا يكون يقتلني!«، فقلتُ له: »إن التَّتر لا يقتلون من يكون عندهم بمنزلة الضيف«.  ثم قال هُلاوون ثاني مرّة: »اطلب ما تختار يا أشرف سلطان«.  قال الملك الأشرف: »أتمنّى على القان أن يهب لي هذا البُرج الذي فيه حريمي وحريم الملك النّاصر، وحريم ]231 و[ الملوك الذين هم هاربون من سَطوة القان«.
قال الصّارم:  فأغضب هُلاوون ذلك وأطرق إلى الأرض، وقال: »اطلب غير هذا«.  فسكت الملك الأشرف.  فنظرت طُقُز خاتون إلى الملك هُلاوون، وقالت: »ما تستحيي يطلب منك مثل هذا الملك هذا البُرج، وتمنعه عنه؟  والله لو طلب منّي حلب ما منعتها عنه، فإنّه فارس المسلمين«.  قال هُلاوون: »إنما منعتُه لأجلكِ، لتكون بنات الملوك ونساؤهم جواري بين يديكِ«.  قالت: »أنا قد أعتقتُهم لوجه الله تعالى ولأجل الملك الأشرف«.  فعند ذلك رَسَم هُلاوون للملك الأشرف بما طلب، وقبّل الأشرف يد هُلاوون ثلاث مرّات.


([1]) الكلمة تركية مفردها: كوپجا kopça، وتعني: إبزيم لشدّ طرفي الحذاء.
([2]) بالأصل: نكوم.
([3]) بالأصل: الذي.
([4]) بالأصل: تمنّى.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
هولاكو يبعث بأوزبك لمعونة قادته بالشام لفتح مصر    كن أول من يقيّم
 
قال الصّارم:  لمّا قبّل الملك الأشرف يد هُلاوون ورجع إلينا، ووقف بيننا وأراد أن يقبّل الأرض، وأنا ماسك بشماله والحاجب بيمينه، ووالله لقد قبّل الملك الأشرف الأرض وأراد القيام، فلم يستطع القيام، وذلك خوفاً من هُلاوون.  فأقمتُه أنا والحاجب بباطيه، وقلتُ له: »تثبّت!«، وقرأتُ: {يُثَبِّتُ اللهُ الذينَ آمنوا بالقَولِ الثّابتِ في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة}.
*  *  *
]241 ظ[ وقال الأمير شهاب الدّين قَرَطاي العزّي الخَزْنَداري في تاريخه:  قال الصّارم أزبك الأشرفي:  قال لي هولاگو في جُملة كلامه: »يا صارم، تختار أن تكون مع الملك الأشرف أستاذك أو تكون معي؟ «، قال الصّارم: فقبّلتُ الأرض وقبّلتُ يده، وقلتُ: »ما أفارق وجه القان«، وكان كذباً منّي.  ثم رَسَم هُولاگو بالتّوجّه إلى الشّرق، وجعل كتبُغا نوين نائباً له بحلب وأعمالها، وبَيْدَرا نائباً له بدمشق وأعمالها.  وتوجّه إلى الشّرق، واستصحب الصّارم صُحبته والمماليك التُّرك البحريّة الذين كانوا محبوسين بقلعة حلب، وهم: سُنْقُر الأشقر وتِنْگِز وبرامق وبِكْمِش المسعودي، وكانوا سبع نَفر وقيل تسعة.
قال الصّارم أزبك:  لمّا وصل هُولاگو إلى أعزاز ووصل إلى بلاد الموصل، طلبني وقال: »يا صارم، تختار المقام عندي وأنا أعطيك طبلخاناه، أو تختار ]242 و[ المقام بأرضك بالشّام؟ «.  فقبّلتُ يده وقلتُ: »ما أفارق وجه القان«، قال: »لا، الشّام أحبّ إليك، فإنّ أهلك وأولادك وأملاكك بالشّام«.  وأمر لي بالخيول والأموال والأنعام، ورَسَم للملوك والأمراء الذين عنده وفي خدمته أن يعطيني كل منهم على قدره.
قال الصّارم:  والله العظيم لمّا انفصلتُ من بين يدي هُولاگو، لم أعلم ما كان حصل لي من الأموال والتُّحَف، لكن الذي عرفته من عدّة الخيل ألف وخمسمائة فَرَس، ومن القماش عشرة آلاف تفصيلة، ما بين مَرْوَزي وكَمخي ونسيج وأطلس وعتّابي، وغير ذلك.
ولمّا أمرني أن أتوجّه إلى الشّام، قال لي في جُملة كلامه: »يا صارم، أنت تعلم ما فعلنا معك من الخير، وأولادي عندك كتبُغا وبَيْدَرا هما عندي أعزّ من أولادي، يكونا تحت نظرك، ويكون حَسْبك عليهما كل هذا«، وأنا أقبِّل الأرض وأقبّل يده.  ثم قال لي: »يا صارم، إذا وصلتَ إلى كتْبُغا أمسك رقبته بيدك - ومسك هُولاگو رقبتي بيده - وقال لي: قُل لكتبُغا إن بعلبكّ ودمشق وبلاد الشام بلادي وتحت مملكتي، فما يحلّ لنا أن نظلم الرَّعيّة، كيف تجرّأتَ وأخذتَ صندوق ذهب من رجل من أهل بعلبك؟  ارددْ إليه ذهبه وإلاّ تموت! ولا تردّ يدك من رقبته إلى أن يردّ إلى صاحب الذّهب ذهبه«.
قال الصّارم:  ثم قال لي هُولاگو لمّا ودّعتُه: »يا صارم، إذا وصلتَ إلى كتبُغا وبَيْدَرا، ساعدهم على فتح بُخش الفأر - يعني بذلك الدّيار المصريّة - فإنّي أمرتهم أن يفتحوا مصر«.
قال الصّارم:  إن التّتار مَثَل مصر عندهم مثل بخش الفأر، إذا عَبَر من مكان لا يخرج إلا منه([1])، وذلك لضيق المسلك.  ولمّا أمرني هُولاگو بما أمرني به امتثلتُ أمره بالسَّمع ]242 ظ[ والطّاعة، ثم توجّهتُ إلى الشّام، فوجدتُ التّتار قد اجتمعوا على نهر الأردنّ، فلمّا رأوني نزلوا عن خيولهم وقبّلوا بين عيني، وذلك إجلال كون أن عيني قريبة من النّظر إلى وجه الملك هُولاگو.  ثم أبلغتُ كتْبُغا ما كان من أمر الصّندوق الذّهب، وأن الملك هُولاگو رَسَم أنك تردّ الصّندوق إلى صاحبه.  فامتثل الأمر بالسّمع والطّاعة، وردّ الصّندوق إلى صاحبه، والله أعلم.
*  *  *


([1]) هذه الخصلة في الواقع معروفة في الفأر، وهي عجيبة.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
دور أوزبك في كسر التتار على عين جالوت    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
]246 ظ[ قال الأمير شهاب الدّين قَرَطاي العزّي الخَزْنَداري في تاريخه:  قال الصّارم أزبك الأشرفي:  لمّا ودّعتُ الملك هُلاوون من بلاد الموصل قال لي في جُملة كلامه: »يا صارم، اشكُر نعمتي عليك«.  قلتُ: »يا خُونْد، أيَّد الله القان، لك عليّ نِعَمٌ كثيرة من الله تعالى ومنك«.  قال: »تعرف كيف جئتني«، قلتُ: »نعم«، قال: »وعَظّمْتُك في أعين الملوك، إلى أن صِرتَ تشفع فيهم عندي، ويقبّلوا يدك كما كنتَ تُقبّل أيديهم«.
ثم قال: »يا صارم اشـكُر نعمتي«.  فقبّلتُ يده، وقلتُ: »يحفظ الله القان، نعمتك عليّ كثير«، قال: »ولا مثل هذه النّعمة«، قلتُ: »وما هي؟«، قال: »في ليلة كذا وكذا، ونحن على حلب، تحدّثتُ معك بلسان التُّركيّة ثلاث كلمات.. والله لم يكن جرى منّي هذا قبلها لأحد، وما فعلتُ معك هذا كلّه إلا حتى تتوصّى بأولادي كتْبُغا وبَيْدَرا، وتعمل معهما كما فعلتُ معك.  ولا يجيئني كتابك إن شاء الله تعالى، إلا بعد أن تكونوا فتحتُم مصر«.
*  *  *
قال الصّارم:  لمّا قدمتُ الشّام، وجدتُ التّتار مجتمعين على نهر الأردنّ، وقد خرجوا قاصدين الدّيار المصرية، وقد خرج المسلمون للقائهم.  فلمّا علمتُ أن التّتار لا بُدّ لهم من الدّيار المصرية، بعثتُ غُلاماً لي في صفة جاسوس وأمرتُه أن يجتمع بالملك المظفّر قُطُز ]247 و[ والأمير بَيْبَرس البُنْدُقداري وبَلَبان الرَّشيدي وسُنْقُر الرُّومي، ويُعرّفهم أن التّتار لا شيء، »فلا تخافوا منهم«، وأن تكون مَيْسَرة المسلمين قويّة بالخيل والرّجال، وعرّفهم أن التّتار في عسكر قليل.  وأوصيتُه أن يوصي المسلمين أن يكون المُلتقى عند طُلوع الشّمس.
قال الصّارم:  لمّا وصل غُلامي إلى عسكر المسلمين، وجدهم خائفين من التّتار خوفاً عظيماً، فاجتمع ببعض الأمراء الذين عرّفتُه بهم، وعرّفهم ما أوصيتُهم به.  وكنتُ قلتُ في جُملة كلامي: قُل للأمراء: »لا تخافوا، ها أنا وأصحابي والملك الأشرف في مَيْسَرة في التَّتار، فإذا رأيتُم رَنْكي احملوا عليّ وعلى أصحابي، فأنا والملك الأشرف ننهزم بين أيديكم والله! «، وكذلك كان.  فلمّا سمع الأمراء كلام غلامي، قال بعضهم لبعض: »لا يكون هذا مَعموليّة على المسلمين! «.
فلمّا كان مُلتقى الجَمعين على عين جالُوت([1])، طلعت الشّمس علينا وطَلَّت عساكر الإسلام، وكان أول سَنْجَق سبق أحمر وأبيض، وكانوا لابسين العُدَد المليحة، وأشرقت الشّمس على تلك العُدَد.  فطلبني كتْبُغا وقد بُهتَ هو والتّتار الذين معه لكثرة تلك العساكر وحُسن ما عليهم وجمالهم، وهم مُنحدرون من الجبل، وقال لي: »يا صارم، هذا رَنْك مَن؟«، قلتُ: »سُنْقُر الرُّومي«، ثم ظهرت سناجق صُفر، قال: »هذا رَنْك مَن؟«، قلتُ: »بَلَبان الرَّشيدي«.
ثم تتابعت الأطلاب([2]) أوّلاً فأوّلاً، وانحدروا من سَفح الجبل، ودَقّت الكُوسات والطّبلخانات، وامتلأ الوادي والبرّ من العياط، وجاءت الفلاّحين وأهل القُرى والبلدان من كل جانب.  وكنتُ غِرّاً بمعرفة رُنُوك المسلمين، فصار كتْبُغا يسألني: »هذا رَنْك مَن؟«، فصرتُ أيّ شيء طلع على لساني قلتُه.  ثمّ إن ]247 ظ[ التّتار انحازوا إلى الجبل، وفَتَح الله ونَصَر هذه الملّة المُحمّديّة بالمماليك التُّرك البحريّة، ولم يسلم من التَّتر مَن يردّ خبر إلى هُلاوون، ولكن قُتل الجميع ولم يردّ خبرهم إلا من كان مُقيماً بدمشق أو حلب.
انتهى ما ذكره قَرَطاي.
 
*  *  *


([1]) كانت وقعة عين جالوت الفاصلة في 25 رمضان من عام 658 هـ، أي بعد 7 أشهر من سقوط حلب بيد التّتار (في 9 صفر).  وهذه مدّة مجريات قصّة الصّارم مع هولاگو، لكن من يقرأها لا يظنّها استغرقت هذه الفترة الطويلة كلها.
([2]) الأطلاب جمع طُلْب، وهي لفظة فارسيّة تعني: الفرقة من الجيش، وأول ما استُعمل هذا اللفظ بمصر والشام أيام صلاح الدِّين.  راجع: السّلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي، 1: 248 (حاشية 2) ؛ مفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب لابن واصل، 2: 59 (حاشية 3).
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
رواية المؤرخ ابن تغري بردي    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
غزو التتار لحلب ودمشق
ومعركة عين جالوت
برواية المؤرخ ابن تَغري بَردي
 
وأما أمر هُولاگو فإنه في جُمادى الأولى من هذه السّنة ]657 هـ[ نزل حَرّان واستولى عليها ومَلَك بلاد الجزيرة، ثم سَيَّر ولده أشموط([1]) بن هُولاگو إلى الشّام وأمره بقطع الفُرات وأخذ البلاد الشاميّة، وسَيَّره في جَمع كثيف من التَّتار.  فوصل أشموط إلى نهر الجوز([2]) وتلّ باشر([3])، ووصل الخبر إلى حلب من البيرة بذلك.  وكان نائب السّلطان صلاح الدّين يوسف بحلب ابنه الملك المعظّم تُوران شاه.
فجفل النّاس بين يدي التَّتار إلى جهة دمشق وعَظُم الخَطب، واجتمع النّاس من كلّ فَجّ عند المَلِك النّاصر بدمشق، واحترز الملك المُعظَّم تُوران شاه ابن الملك النّاصر بحَلَب غاية الاحتراز، وكذلك جميع نوّاب البلاد الحلبيّة، وصارت حلب في غاية الحصانة بأسوارها المُحكمة البناء وكثرة الآلات.
*  *  *
فلمّا كان العَشر الأخير من ذي الحجّة ]سنة سبع وخمسين وستّمائة[، قَصَدَ التَّتار حلب ونزلوا على قرية يُقال لها سَلَمية وامتدّوا إلى حَيلان والحارى([4])، وسَيَّروا جماعة من عسكرهم أشرفوا على المدينة.  فخرج عسكر حلب ومعهم خَلق عظيم من العوام والسُّوقة، وأشرفوا على التَّتار وهم نازلون على هذه الأماكن وقد ركبوا جميعهم لانتظار المُسلمين، فلمّا تحقّق المسلمون كثرتهم كَرّوا راجعين إلى المدينة.  فرَسَم الملك المعظّم بعد ذلك ألا يخرج أحد من المدينة.
ولمّا كان غدُ هذا اليوم رحلت التَّتار من منازلهم طالبين مدينة حلب، واجتمع عسكر المسلمين بالنَّواشير ومَيدان الحَصا([5])، وأخذوا في المَشورة فيما يعتمدونه، فأشار عليهم الملك المعظّم أنهم لا يخرجون أصلاً لكثرة التَّتار ولقوّتهم وضعف المسلمين على لقائهم، فلم يوافقه جماعة من العسكر وأبوا إلا الخروج إلى ظاهر البلد لئلاّ يطمع العدوّ فيهم. 
فخرج العسكر إلى ظاهر حَلَب وخرج معهم العوامّ والسُّوقة واجتمعوا الجميع بجبل بانْقُوسا، ووصل جمع التَّتار إلى أسفل الجبل فنزل إليهم جماعة من العسكر ليقاتلوهم.  فلمّا رآهم التَّتار اندفعوا بين أيديهم مكراً منهم وخديعة، فتبعهم عسكر حلب ساعة من النّهار، ثم كَرَّ التَّتار عليهم فوَلّوا مُنهزمين إلى جهة البلد والتَّتار في أثرهم.  فلمّا حاذوا جبل بانقُوسا وعليه بقيّة عسكر المسلمين والعوامّ.  وممّن استُشهد في ذلك اليوم الأمير عَلَم الدّين زُريق العزيزي - رحمه الله - وكان من أعيان الأمراء.  ونازَلَ التَّتار المدينة في ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا طالبين أعزاز فتسلّموها بالأمان.
*  *  *


([1]) الصّواب يَشْمُوط، وبالتركية: Yaș-Mut أي سَعد الفتى. انظر أحداث ذلك في: الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة لابن شدّاد.
([2]) ذكر ياقوت في معجم البلدان (2: 183): نهر الجوز ناحية ذات قُرى وبساتين ومياه بين حلب والبيرة التي على الفُرات، وهي من عمل البيرة في هذا الوقت.
([3]) ذكر ياقوت (2: 40): تل باشر: قلعة حصينة وكُورة واسعة في شمالي حلب، بينها وبين حلب يومان، وأهلها نصارى أرمن ولها ربض وأسواق، وهي عامرة آهلة.
([4]) كذا ورد الاسم بالأصل، ولعلّه مصحّف.
([5]) النّواشير نجهلها، ومَيدان الحَصا موضع كان خارج باب السّعادة بحلب، انظر: الأعلاق الخطيرة لابن شدّاد، 1: 22 ؛ زُبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العَديم، 2: 249.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
أخذ التتار حلب ودمشق والمصاف مع المماليك بأرض فلسطين    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
ثم عادوا إلى حلب في ثاني صَفَر من سنة ثمان وخمسين وستّمائة([1])، وحاصروها حتى استولوا عليها في تاسع صَفَر بالأمان، فلمّا ملكوها غدروا بأهل حلب وقتلوا ونهبوا وسَبَوا وفعلوا تلك الأفعال القبيحة على عادة فعلهم.  وبلغ الملك النّاصر يوسف أخذُ حلب في منتصف صَفَر، فخرج النّاصر من الشام بأمرائه نحو القبلة.  وكان رُسُل التَّتار بقرية حَرَسْتا فأُدخِلوا دمشق ليلة الاثنين سابع عشر صَفَر.  وقُرئ بعد صلاة الظهر فِرْمان([2]) (أعني مَرسوماً) جاء من عند ملك التَّتار يتضمَّن الأمان لأهل دمشق وما حولها، وشرع الأكابر في تدبير أمرهم.
ثم وصلت التّتار إلى دمشق في سابع عشر شهر ربيع الأول، فلقيهم أعيان البلد أحسن مُلتقى، وقُرئ ما معهم من الفِرمان المتضمِّن الأمان، ووصلت عساكرهم من جهة الغُوطة مارّين من وراء الضّياع إلى جهة الكسوة، وأهلكوا في ممرّهم جماعةً كانوا قد تجمّعوا وتحزّبوا.
وفي السادس والعشرين منه جاء مَنشورٌ من هُولاگو للقاضي كمال الدّين عُمَر بن بُندار التّفليسي بتفويض قضاء القُضاة بمدائن الشام إلى الموصل ومَيّافارقين وغير ذلك  وكان القاضي قبله صدر الدّين أحمد بن سَنيّ الدّولة.  وتوجّه الملك النّاصر نحو الدّيار المصريّة ونزل العريش ثم قَطيا، بعد أن تفرّق عسكره عنه وتوجّه مُعظم عسكره إلى مصر قبله مع الأثقال.  فلمّا وصل النّاصر إلى قَطيا عاد منها إلى جهة الشام لشيء بلغه عن الملك المظفَّر صاحب مصر، ونزل بوادي مُوسى ثم نزل بركة زَيزاء، فكَبَسه التَّتار بها وهو في خواصّه وقليل من مماليكه، فاستأمن النّاصر من التَّتار وتوجّه إليهم، فلمّا وصل إليهم احتفظوا به وبقي معهم في ذُلّ وهَوان إلى أن قُتل، على ما يأتي ذكره في محلّه إن شاء الله تعالى.
وأمّا التَّتار فإنه بلغت غارتهم إلى غَزّة وبلد الخليل - عليه السّلام - فقتلوا الرّجال وسَبَوا النّساء والصّبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئاً كثيراً.  كلّ ذلك والسّلطان الملك المظفّر قُطُز سلطان مصر يتهيّأ للقاء التَّتار. 
فلمّا اجتمعت العساكر الإسلاميّة بالدّيار المصرية، ألقى الله تعالى في قلب المَلك المُظفَّر قُطُز الخروج لقتالهم، بعد أن كانت القلوب قد أيسَت من النُّصرة على التَّتار، وأجمعوا على حفظ مصر لا غير لكثرة عددهم واستيلائهم على مُعظم بلاد المُسلمين، وأنّهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه ولا عسكراً إلا هزموه، ولم يبق خارج (sic.) عن حُكمهم في الجانب الشرقي إلا الدّيار المصرية والحجاز واليَمَن، وهرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى الغرب، وهرب جماعة من النّاس إلى اليَمَن والحجاز، والباقون بَقوا في وَجَل عظيم وخوف شديد يتوقّعون دخول العدوّ وأخذ البلاد.
وصَمّم الملك المُظفّر - رحمه الله - على لقاء التَّتار، وخرج من مصر في الجحافل الشاميّة والمصريّة في شهر رمضان وصُحبته الملك المنصور صاحب حَماة.  وكان الأتابك فارس الدّين أُقطاي المُستعرب الأمور كلّها مُفوّضة إليه، وسَيَّر الملك المُظفّر إلى صاحب حَماة - وهو بالصّالحية - يقول له: »لا تحتفل في مَدّ سِماط، بل كلّ واحد من أصحابك يُفطر على قطعة لحم في صُوْلَقه([3])«.  وسافر الملك المُظفّر بالعساكر من الصّالحيّة، ووصل غَزّة والقلوب وَجِلة.


([1]) نأتي هنا إلى ما يتّصل ببداية رواية المملوك الصّارم أزبك في مغامرته أعلاه.
([2]) الفِرمان كلمة تركية: ferman، تعني المرسوم السّلطاني.
([3]) الصّولَق كلمة تركية: solak، تعني الأعسر، لكنها هنا تعني مخلاة من جلد يعلّقها الجندي في حزامه من جهة اليسار.  وفي العهد العثماني نوع من حرس التشريفات. وما زال بدمشق اسم عائلة صغيرة بالصالحية بسفح قاسيون: السّولَق.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
المصاف الأكبر على عين جالوت وسحق الجيش التتري    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
وأما كتْبُغا نُوين - مُقدّم التَّتار على عسكر هُولاگو - لمّا بلغه خروج الملك المُظفّر قُطُز كان بالبِقاع، فاستدعى الملك الأشرف ]مُوسى ابن المنصور صاحب حِمص[ وقاضي القضاة مُحيي الدّين واستشارهم في ذلك، فمنهم مَن أشار بعدم المُلتقى والاندفاع بين يدي الملك المُظفّر إلى حيث يجيئه مَدَدٌ من هُولاگو ليقوى على مُلتقى العسكر المصري، ومنهم مَن أشار بغير ذلك.  وتفرّقت الآراء.
فاقتضى رأي كتْبُغا نُوين المُلتقى، وتوجّه من فَوره لِما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشِّرك وحزبه، بعد أن جمع كتبُغا نُوين مَن في الشام من التَّتار وغيرهم، وقَصَدَ محاربة المُسلمين، وصُحبته الملك السَّعيد ]حَسَن[ ابن الملك العزيز عثمان.  ثم رحل الملك المُظفّر قُطُز بعساكره من غَزّة ونزل الغَور بعين جالوت([1])، وفيه جموع التَّتار في يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان، ووقع المصافّ بينهم في اليوم المذكور، وتقاتلا قتالاً شديداً لم يُرَ مثلُه حتى قُتل من الطائفتين جماعة كثيرة وانكسرت مَيْسَرة المسلمين كَسرةً شنيعة.
فحَمَل الملك المُظفّر - رحمه الله - بنفسه في طائفة من عساكره، وأردف الميسرة حتى تحايوا وتراجعوا، واقتحم الملك المُظفّر القتال وباشر ذلك بنفسه وأبلى في ذلك اليوم بلاءً حَسناً، وعَظُم الحرب وثبت كلٌّ من الفريقين مع كثرة التَّتار.  والمُظفّر مع ذلك يشجّع أصحابه ويُحسِّن إليهم الموت، وهو يكرُّ بهم كَرّةً بعد كَرّة حتى نصر الله الإسلام وأعزّه، وانكسرت التَّتار وولَّوا الأدبار على أقبح وجه بعد أن قُتل مُعظم أعيانهم وأُصيب مُقدّم العساكر التَّتاريّة كتبُغا نُوين، فإنه أيضاً لمّا عظُم الخَطب باشر القتال بنفسه فأخزاه الله تعالى وقُتل شرّ قتلة، وكان الذي حَمَل عليه وقتله الأمير جمال الدّين آقوش الشّمسي، رحمه الله تعالى.
ووَلّوا التَّتار الأدبار لا يلوون على شيء، واعتصم منهم طائفةٌ بالتلّ المُجاور لمكان الوَقعة، فأحدقت بهم العساكر وصابروهم على القتال حتى أفنوهم قتلاً، ونجا مَن نجا.  وتبعهم الأمير رُكن الدّين بَيْبَرس البُنْدُقْداري في جماعة من الشّجعان إلى أطراف البلاد، واستوفى أهل البلاد والضّياع من التَّتار آثارهم([2])، وقتلوا منهم مقتلةً عظيمة حتى أنه لم يسلم منهم إلا القليل جداً.
وفي حال وقوع الفراغ من المصافّ، حضر الملك السّعيد ]حَسَن[ ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل بين يدي السّلطان الملك المُظفّر قُطُز، وكان التَّتار لمّا ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها مُعتقلاً فأطلقوه وأعطوه قلعة بانياس وقلعة الصُّبيْبة، فانضمّ على التَّتار وبقي منهم، وقاتل يوم المصافّ المسلمين قتالاً شديداً.  فلمّا أيّد الله المسلمين بنَصره، وحضر الملوك عند الملك المُظفّر، فحضر الملك المظفّر هذا من جُملتهم على رَغم أنفه، فلم يقبل الملك المظفّر عُذره، وأمر بضرب عُنقه فضُربت في الحال.
ثم كتب الملك المظفّر كتاباً إلى أهل دمشق يخبرهم فيه بالفتح وكسر العدوّ المخذول، ويعدهم بوصوله إليهم ونَشر العدل فيهم.  فسُرَّ عوامّ دمشق وأهلها بذلك سروراً زائداً...([3])
*  *  *


([1]) ذكر ياقوت في معجم البلدان (4: 177): عين الجالوت بُليدة لطيفة بين بَيْسان ونابلس من أعمال فلسطين.
([2]) كذا بالأصل، لكن الواضح أنه يريد: ثاراتهم.
([3]) يروي المؤرّخ بعد ذلك أخبار دمشق أثناء وقوعها تحت الغزو التَّتري الذي دام سبعة أشهر وعشرة أيام، وكيف تسبّب الحاكم التَّتري (إيل سيان) بقيام فتنة طائفية بين السكّان المسلمين والمسيحيين، أدّت إلى وقوع حوادث مؤلمة لا نريد ذكرها هنا.
*أحمد
30 - أكتوبر - 2007
 1  2