الحلْقة الأخيرة كن أول من يقيّم
الاصْلاحُ الذي نَحْتَاجُ إليْهِ في شِعْرِنَا للسيد مُحب الدين الخَطيب أما الأسلوبُ والديباجةُ فيَجِبُ أن يبقيا عَربيين كما كان ينظمُ بشار والبحتري والشريف الرضي, وكما كان ينثرُ عبد الحميد وابنُ المقفع والجاحظ. وكما لا يجوز أن تمتد اليدُ الآثمة بالتشويه إلى الفََن الذي أُبدِعتْ به جبهةُ الحمراءِ وأقواسُها ونُقُوشها, ومعالمُ مسجدِ السلطان حسن ودقائقه وبدائعه, كذلك أسلوبُ العربية الصحيحة الخالدَة بالقرآن يجبُ أن يبْقى ما بقي القرآن. وأما فيما عَدا ذلك فكما يجوزُ لنا أن ننشيء وراء مثل جبهة الحمراء غُرفاً مهندَسة بأنفع أساليب الهندسة الاقتصادية التي وصلت إلى معرفتها مداركُ البشر, كذلك يجوز لنا أن نُعدل بعضَ نظرياتنا في الشعر, ما قضت بذلك حياتُه وحياةُ الأُمة به. يَحسُنُ بنا بعد الآن أن نعتبرَ القطعةَ الشعرية بمجموعها, كُلاً مؤلفاً من عناصرَ لا يتم إلا بها. أي أننا يجب أن نعدل عن نظريتنا القديمة التي تعتبر البيت كلا مستقلاً, ويصبح الكل في نظرنا هو القطعة بمجموعها. وهذا لا يمنع أن تتخلل القطعةَ أبياتٌ استطرادية يكون الواحد منها مضربَ المثل يتحدثُ الناسُ به في مقام الاستشهاد لحقائق الحياة, وآيةً في الحكمة ترتلها الألسنة في مواقف العظة والاعتبار. وما دمنا قد اعتبرنا القطعة الشعرية كُلا مؤلفاً من عناصر لا يتم إلا بها فمن مقتضى ذلك أن يجتنب الشاعرُ هذه الاستطرادات في القصيدة الواحدة, وألا يتنقل فيها من موضوع إلى موضوع آخر ليس من جنسه, وأن يعرض إلى الأبد عن تقديم النسيب بين يدي الأغراض الأخرى التي هي مقصودة بالقصيدة دونه, ومن مقتضى اعتبار القطعة بمجموعها كلاً أن يُعنى الشاعر بمَغْربها عنايته بمطلعها, فيفرغ في البيت الأخير من القوة ما يبقى رنينه في النفس طويلاً, كما يكون لتلك الضربة الشديدة التي ينتهي بها الدور في موسيقى الجيش. ومما يحسنُ ملاحظته أن يكون حجمُ القطعة الشعرية متناسباً مع ما يحتمله موضوعها, فقد تكفي السبعة الأبيات ليؤدي بها الشاعر كل غرضه, ويحيط فيها بما أراده, وتكون لها عند قرائها من الحرمة والمكانة ما للقصيدة الكبرى. وقد كان شوقي أولَ من جرب الشعر التمثيلي في رواية (علي بك) قبل خمسة وثلاثين عاماً, ونظم القصيدة الكبرى غير مرة. لكن هذا النوع من النظم المطول يجب أن تتداوله الأقلام الكثيرة وتتعاون عليه, ويجب أن يسعفه المسرح ويوالي التجربة فيه, ويحتاج إلى أن تكون في الشباب روحٌ أدبية تتلقى ثمراته بإقبال, ليوالي كُفاتُها عملهم بنشاط. وفي القصيدة الكبرى, وفي الملحمة, يحسن تنويع الموضوعات والتنقل فيها. ويحسن تنويع الوزن والقافية على ما تقتضيه المعاني, وعلى ما تقتضيه موسيقى تلك المعاني: من أوزان تلائم الروح الهادئة, إلى أوزان تسعف النفس الهائجة, إلى نغمة لائقة بمقام الحزن, إلى رنة تكمل معنى الابتهاج, وكذلك الأمر في القوافي. وبعدُ, فقد كان أشرفَ ينابيع الشعر التي شرب منها شوقي وغير شوقي من شعرائنا ينبوعان: الطبيعة والتاريخ. وأبدع مظاهر شعره وشعرهم الوصف, وما دمنا نتكلم في الاصلاح والتجديد فيجدُر بنا أن نلتمس من شعرائنا- وفي أيديهم مفاتيح القلوب- أن ينتقلوا بنا إلى أدب آخر غير أدبنا الحاضر, إلى أدب التوحيد الذي تشترك فيه الشعوب القارئة لهذا الشعر, وإلى أدب الحياة الذي تعرف به هذه الجماعات طريق القوة, وإلى أدب التقوى الذي نخرج به من رذيلة الضعف ونبرأ به إلى الانسانية من جريمة الخنوع. نريد أن نحيا وتمنعنا أدواء: في الشعر علاجها, ونريد أن نسير وفي الصدور رهبة لا تزيلها غير صرخات الشعراء تهيب بنا إلى ميادين الشرف. إن الغربَ لما أراد أن يملكَ رقاب الشعوب التي تقرأ شعركم يا شعراء العربية استهواها بملاهيه وزخارفه وأهوائه وموبقاته. ولا خلاص لهذا الشرق العربي من شِراك الغرب إلا إذا عدل أهله عن تلك الزخارف والموبقات إلى ما في الغرب من صناعة ونظام ومعرفة, وهل من قوة تستطيع تحويلَنا عن ذاك إلى هذا أشدُ تأثيراً من المدرسة للبنين والبنات, ومن قوة الشعر للفتان والفتيات? إن الشاعر ترجمان الالهام, ولا يكون الشاعر صادقاً فيما يترجمُ عنه من مُلهمات الطبيعة والفضيلة والحياة إلا إذا كان متصفاً بما يدعو إليه من صفاتٍ ومحامدَ وأخلاق. هو قائد الأمة وحامل رايتها إلى المطمح الأقصى في الأغراض القومية, وإلى المثَل الأعلى في الفضائل الانسانية, ولا يستطيع الشاعرُ خوض غمار المعركة في هذه القيادة إلا إذا كان مؤمناً بما ينطق به من إرشاد, وعاملاً بما يتغنى بذكره من مبادئ, وصادقاً فيما يأمر به من معروف وينهى عنه من منكر. أما الكلام الجميل الذي يصدر عن اللسان فإنه يمر بالآذان ضيفاً ثم يذهب طنينه مع موجات الريح, وأما الكلام الصادر من القلب فهو الذي يملأ القلب ويسكن في قرارة النفس, وذلك هو الشعر, وصاحبه هو الشاعر. |