بمناسبة أسبوع شوقي (3) كن أول من يقيّم
شَوْقِي وشَوقِياتُهُ للسيد محب الدين الخطيب جلا شعره للناس مرآةَ عصره ومرآةَ ماضي الشعر من عهد تبع يجيء لنا آنا بأحمدَ ماثلاً وآونةً بالبحتري المرصع ويشأو رُقى هيكو, ويأتي نسيبُه لنا من ليالي (ألفرِيدَ) بأربع حافظ شوقي ابنُ البيئة التي وجدته, والعوامل التي كونته, والدواعي التي أخذتْ بيدِه فسيرته. و لا ريب أن مواهبه واجتهاده ساعدا تلك البيئة والعوامل والدواعي إلى أقصى مدى يستطيعه الشاعر المحفوف بظروفه, فكان لنا منه صاحب الشوقيات بكل ما لها وما عليها. قالوا إن الشطر الأعظم من قريضه مدحٌ ورثاء, وعدوا ذلك منه إسرافا, وودوا لو كان في مكان تلك القصائد من الشوقيات نظراتٌ إلى دخائل الحياة المصرية تشف عن فرط إحساسه الشعري, ومشاركته لطبقات الأمة في آلامها وآمالها. وقالوا إن إرادته لم تكن بيده, وإنما كانت شاعريته تتأثر بعوامل السياسة وميول أهلها, لقربه من المسرح الذي تشتبك فيه أصول تلك العوامل وأسبابها. ورتبوا على هذا أنه لم يكن ثابتاً على المبدأ وأنه كانت تنقصه الشجاعة الأدبية. وقالوا إنه اصطنع الشعرَ للذته, فلم يغترف من طبائع الأشياء وأوضاع الناس في الحياة غرفة شاملة يتذوق بها حاجةَ عصره, ولم يستغل موهبته استغلالاً جيدَ المحصول عام النفع, لذلك كان شعره كمالياً للأمة. لقد قالوا مثل هذا القول وأكثروا منه, وأنا لم أجدْ فيما قالوا نقداً لشعر شوقي, وإنما وجدتهم يريدون من شوقي لوكان عاش في غير البيئة التي عاش فيها, وكان ابنَ عواملَ أخرى غير العوامل التي كان تحت تأثيرها, وأنْ لوِ انقادَ لغير الدواعي التي انقاد لها. أما وقدْ شاءت الأقدارُ لشوقي أن تكون تلك بيئته, فإن الأدب العربي لم يكن يطمع بأحسن مما أحسن به هذا الشاعر العبقري إلى أدب لغته, حتى تبوأ منه المكانة التي رفعته الشوقيات إليها وضَمِنَت له بها الخلود. اتفقت الكلمة على أن نفسية شوقي ترجعُ إلى أصولٍ متغايرةٍ, وعناصرَ متباينة. وتلك نتيجة طبيعية لتباين العناصر التي تكون منها شوقي, ولتغايُر الأصول التي امتصت منها شاعريتُه غِذاءَها. ألم يقل لنا عن نفسه إنه مزيج جنسيات متعددة? ألم تتناوب تكوينَ ثقافته مدينتا القاهرة وباريس? أليس رفيقَ المتنبي وهيكو منذ أربعين عاماً? ألم يعش في بلدٍ تنوعت فيه السلطات والأزياءُ والأحكام? أليس إذا أراد أن يعتز بأمجاد التاريخ جعل يتنقل بين أهل الجنان الأندلسية من بني عبد شمس, وبين ذكريات الفراعنة في أنَس الوجود, وبين ما ينكره الكماليون اليوم من محامد آل عثمانَ? أليس هو القائل لرجال الأزهر: يا فتيةَ المعمور سار حديثُكم ندا بأفواه الركاب وعنبـــرا المعهدُ القُدسي كان نديه قطباً لدائرة البلاد ومحـــورا وُلدتْ قضيتُها على محرابه وحبتْ طفلا وشبت مُعصـــرا هزوا القُرى من كهفها ورقيمها أنتم لعمرُ الله أعصاب القُرى بينما هو القائل فيهم: إذا عرض الجديدُ لهم تولوا كذي رمد على الضوء امتناعا أليس يرى من الكياسة أن لا ينسى نصيبَ الصليب من الاشادة بالذكر كما طلع الهلالُ بأفقٍ من آفاق شعره? أليس هو الذي نادى الساقي في عيد الفطر وكان يستطيع أن يناديه قبل العيد, لكنه لم يفعل. وكان يستطيع أن لا يناديه قط, ولكنه لم يفعل أيضاً ولو فعل إحداهما لكان معارضاً لمقتضى تلك الأصول المتغايرة والعناصر المتباينة. إن الشوقيات نِتاجُ هذه الأصول والعناصر, وقدْ استطاعَ شوقي بكياسته ودَهائه وعبقريته أن يوفق بينها بما يبلغه جهد الشاعر العظيم, فإذا ابتسمَ للوردة بنشيد من أناشيد الطرب ادخر لأشواكها صيحةً من صيحات الغضب يرسلها يوم تدعو الظروف إلى إرسالها, وفي كل غصنٍ من شجرة الحياة وردٌ وشوك, وفي كل يوم من أيام هذا الكون نورٌ وظلام, وللناس من دهرهم ابتسامةٌ وازورار. وهل رأيتَ شيئاً تغنى شوقي بمحامده كما تغنى بمحامد الخلافة الاسلامية وقوتها من عهد العمرين عليهما رضوان الله إلى يوم خاطبَ الطاغيةَ عبدَ الحَميد بقوله: وهابَ العدى فيه خلافتكَ التي لهم مأربٌ فيها ولله مأرب فلما أبلغهم مصطفى كمال مأربَهم فيها متقرباً بذلك إليهم, وظاناً-وبعضُ الظن إثم- أنه يحملهم بعمله على تغيير رأيهم في قومه, لم تضن عبقرية شاعرنا العظيم بقولٍ جميل يرسله في الناس استحساناً لما كان, فراح الناسُ يحفظون شعرَه الثاني كما حفظوا شعره الأول, افتتاناً بجمال بيانه الساحر, وإن من البيان لسحرا. لقد كان الأستاذ أنطون بك الجميل وفياً للأدب بما اعتذر به لهذه الصفحات المتباينة من الشوقيات, ولقد والله ذكر الناسَ بكثيرٍ من الحقائق, ولكن العذرَ الشامل لما مضى وما سيأتي من أمثال ذلك إنما هو اختلاف الأصول, وتبايُن العناصر, وشوقي لم يَعْدُ سُننَ الطبيعة فيما يتركه من آثار ذلك في الشوقيات, وله المقدرة النادرةُ في تحويل الوجهة كلما قضتْ عليه المواقف بتحويل مراميه. وتلك من مزايا شاعرية شوقي التي لم أرَهم يفطنون لها. وفيما خلا هذا فشوقي شاعر الوصف الذي ضن علينا الزمان بمثله منذ ألف سنة, ويقولون إن أدب اللغة الفرنسوية أمده بثروته, وأباح له مروجَ جنته, ولكن هل ضنت الآداب الافرنجية بكنوزها وفراديسها على المئات بل الألوف من متعلمينا? أليس ذلك مباحاً لهم, ونرى أثره أكثر ظهوراً فيما يكتبون? والحق أن شوقي يملك بكل جدارةٍ واستحقاق جميع ما في شعره من لآلئ, لأنها تأنس بمواضعها من شعره, وتظهر فيه بما هي أهل له من رونق وجمال, بينما هي في كثيرٍ من الشعر تبدو كالجواهر التي تستعيرها الغادةُ الفقيرةُ لتتجمل بها ليلة عرسها. أقول قولي هذا ولا أجهل ما أشار إليه الرصافي والزيات والشيخ عباس الجمل من طغيان المعاني على ألفاظها في بعض شعر شوقي, بحيث سهر الناسُ حائرين في تعليلها وتأويلها, بينما شوقي يقول مع أبي الطيب: أنام مِلْءَ جفوني عن شواردها ويسهرُ الخلقُ جراها ويختصمُ أما ما يؤاخذونه به من ضعف بعض مطالعه فهو عندي دليلُ قوة لا دليل ضعف, لأن من دأب الجواد الكريم أن تزداد همته كلما بعُدَ الشوط بما لم يكن يظهر عليه في البداية. ويظن الأستاذ جبر ضُومط أن شوقي إذا ترك نفسَه على سجيتها أشد منه إذا تعمل, بينما الأستاذ الزيات يقول إن شوقي قد يعفي طبعه أحياناً فيرسل الشعرَ كما يجيء من غير تنوق ولا تنقيح فيأتي بما لا يتفق مع فضله. وأظنهما مصيبين جميعاً لأن كل منهما يتكلم من ناحية, وبين الوجهتين فرقٌ دقيقٌ, إذ التنقيح غير التعمل, وقلما انتبه الناس إلى هذا الفرق. ويرى الرصافي أن أرقى شعر شوقي ما قاله في الدور الأخير رغم تقدمه في السن,فهو يتفق في هذا مع شوقي فيما يراه من أجود قصائده نونية (توت عنخ أمون), ولعل لقراء الشوقيات رأياً غير راي شوقي في خير ما قاله من القصائد. |