شعرنا وشاعرنا
بمناسبة أسبوع شوقي
الأدب الناعس
ما برحَ الأدبُ العربي يسير في طريقه ناعساً, والشعر في نظر قرائنا بمنزلة الكماليات, حتى اصطدم بجَيئة (تاغور) إلى مصر, فكان الأدبُ والشعرُ حديثَ الناس, وكانت الموازنة بين آثار هذا الشاعر البنغالي, وبين شعرنا العصري باعثة على التفكير فيما بلغ إليه شعرنا وما يحتاج إليه من اصلاح ثم جاء أسبوع شوقي بعد زيارة تاغور, فاتسع الوقت للكلام على الشعر والشاعر بما لم يسبق له مثيل منذ عهد طويل.
نعم, إن الفرصة أتيحت لأدبائنا وكبار كتابنا أن يقفوا من حياتنا الأدبية موقف الجِد, فيطيلوا النظر فيها بتُؤَدةٍ وتدبر وإنصاف, ويفكروا في المرحلة التي قطعها الأدب العربي في هذا العصر, والوقت الذي صرفناه للوصول إليها والاتجاه الذي يتقدم شعرُنا نحوه, وما هي مواطن الضعف فيه وما هي بواعث هذا الضعف وما هو المخرج منه.
وكان من حق شوقي-وقد أقمنا له أسبوعاً- أن يكون فرسانُ هذا الميدان كلهم في الحلْبة فلا يبقى واحدٌ منهم غريباً عنها. ثم يتولى كل رجل منهم ناحيةً من نواحي شوقي, وشعر شوقي, وبيئة شوقي, فيوفيها حقها من النظر, ويفضي إلى شباب هذه الأمة وأهل الذوق الأدبي فيها بنتيجة درسه المستفيض: إما في حفلات (الأسبوع) وقد اتسعت للكلام على المأمون والمستشرقين والجمعية الأثرية المصرية, وإما في الصحف وقد فتحت صدرها للتحامل على شوقي بظلم, وللثناء عليه بأقلامٍ لا يطمع بعضُ أصحابها بأكثر من أن يفرحوا برؤية أسمائهم مطبوعة في الصحف السيارة. كل هذا كان يجب أن يكون, بل بعض ما كان يجب أن يكون, لولا أننا أمة ما زالت تلعب, وما زال أبناؤها يقيسون المصلحة العامة بمقياس الهوى, ويزِنون الحقائق بميزان الأوهام. لذلك كان أدبُنا بين حالتين: أن يسير ناعساً قبل الصدمتين الأخيرتين, ثم أن يضيع بعدهما صوابُ القول فيه: فيطغى عليه إغراق في الذم لا حد له, وإغراقٌ في الثناء لا حد له...
الشعر والشاعر
والمثل الأعلى الذي نطمع أن يصلا إليه
إن الأدب العربي يطمع بشاعر لم يخلق بعد, ولعله خلق ولكن عبء الشهرة ووباءها لم ينيخا بأثقالهما على صدره فيمنعانه من المُضي في طريق المهمة المحفوظة له في تاريخ اللغة العربية, لغة الخلود.
إن الأدب العربي يطمع بشاعر قامت أعلامُ الفضيلة ومعالم الايمان حول الحرم الذي يسكنه فؤاده, فلا سبيلَ تسلُكه الأغراضُ الصغيرة إلى هذا الحرم, ولا منفذَ يَدخل منه الهوى إلى ذلك الفؤاد.
إن الأدب العربي يطمع بشاعر له من قُوى النفس مايَقوى به على النفس فيحول بينها وبين أن تنحط إلى غمار أهل هذه الدنيا الدنيئة ويمنعها من أن تستأسر للشهوات الأدبية والمادية, ويرتفع بها غير بعيد حتى تشرف على آلام الفرد وآماله, وعلى أمراض الجماعة وينابيع قوتها, ويكون له من دقة الحس ما يسمع به نابضَ الحياة في مجالي الطبيعة, ويلمح بدائع ألوانها وأسرار أشكالها.
إن الأدب العربي يطمع بشاعر يخترق ببصيرته حُجُبَ الماضي, حتى يتراءى له ما خفي على التاريخ من أدوار هذه اللغة العجيبة التي عرف الناس شبابَها ولم يعرفوا طفولتها, ثم يرتفع بهذه المعرفة حتى يشهد أمجادَ الناطقين بالضاد في تلك الأدوار, أيامَ كانت ألسنتهم تدور باختراع صيَغها, وتقسيم أوضاعها, وتتفنن بتنظيم لآلئها واشتقاق بدائعها, وتتحرى المناسبات العجيبة للتوفيق بين المعاني والألفاظ الدالة عليها.
فإذا انتقشت صورة ذلك الماضي النبيل على صفحة قلب الشاعر وفي تلافيف دماغه وامتزجت بجملة نفسه, تحول عنه إلى المستقبل, فتجلى له الأفق الأقصى الذي يتوقع أن تبلغه – بل الذي يجب أن تبلغه- هذه اللغة القدسية والشعوب الأمينة على بدائعها.
ومتى كشفت له ملائكة الشعر حجُب الغيبَ عن ماضي هذه القومية ومستقبلها: فَنِيَ فيها, وصار لسانَها الناطق بأمجادها, والقائد الداعي إلى وصل ما بين ذلك الماضي وهذا الآتي بما يرشد إليه من الأسباب التي تهيئ الناطقين بالضاد لأن يكونوا لذلك أهلا.
إن صحافتنا تقوم اليومَ بمهمة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون, وتؤدي عملهم على أتم وجه, وتتقلب مع مقتضيات الدنيا وشهواتها وأهوائها بين كل صبح ومساء, حتى اكتفينا بهذا الضرب من الشعر, وبتنا في حاجة إلى الشاعر المفقود, وإلى الشاعر الذي يؤمن بما يقول, ويفيض الايمانَ على قلبه إلهامٌ تقتبسه مداركه من ظلمات الحاجة الانسانية, وتنزعه عزائمه من أنياب الفاقة القومية, ثم تُرسلانه نوراً باهراً تبصر به الأمةُ سبيلها إلى الخير, وغذاءً شهياً تقوى به على بلوغ مَطمحها المتواري وراء الآفاق.
ترى هل ولد الشاعر الذي يحمل لواء الناطقين بالضاد إلى ميدان الكفاح, وإذا كان قد ولد فهل هو يُعِد نفسَه لهذه القيادة المقدسة, ويجهز شاعريته بالأخلاق التي تؤهله ليكون (شاعر المستقبل).
إن العربية وأهلها ينتظران...
إنهما ينتظران, ولكن يجب أن يكون انتظارُهما انتظارَ حركة وحياة, لا انتظارَ سكينة وانتحار, فالنبوغ لا يكون إلا في البيئة الصالحة له.
ألم يقل الأستاذ النشاشيبي يومَ خطبَ في ( العربية وشاعرها الأكبر) : إن '' من سنن الله ومن دساتير الطبيعة ألا يفاجيء نابغةٌ أو عظيمٌ – فيما قدر له أن ينبغ أو يعظم فيه- قومَه مُفاجأة دون أن يستعدوا له, إذ النابغة في شيء إنما هو جوهر أمته ولا يخلُص خيرٌ إلا من خير, وما حدث كونٌ عن عدم''.
فلولا وجود شوقي اليوم ما طعمنا في قرب ظهور الشاعر الذي ننشده, ولولا تقدم البارودي وصبري لما تأهلت الأمة العربية الآن لقراءة الشوقيات.