غربة الراعي: سيرة ذاتية بقلم المرحوم إحسان عباس:، صدرت عن دار الشروق : عمان 1996م وقدم لها بكلمة هرقليطس: لا تستطيع أن تخطو في النهر مرتين. وسوف أنشر هنا مختارات من هذه السيرة لمكانة المرحوم في نفسي وفي دنيا الأدب والتاريخ. وقد نوهت في تعليق لي اليوم على مشاركة الأستاذة خولة انه كان لها الفضل في تعريفي بالكتاب. افتتح إحسان عباس ذكرياته باول مغامرة يقوم بها خارج صحن الدار وهو في الرابعة من عمره... فأخذ يتدحرج حافيا، ولما بلغ منعطف الدرب إذا به يقف فوق مزبلة كأنها رابية ... وطاب له الوقوف لأنه يرى البحر ويرى السحب السود وهي تتجمع فوقه ... رأى من بينها غيمة قد أصبحت في شكل جمل فاغر فمه، عندها أدركه شيء من الخوف حفزه إلى العودة، فعاد يهمس لنفيه: جمل في الأفق السماوي لعله، لعله .... الإله الذي يكثر الناس ذكره. لم يكن يفهم الرموز في ذلك العمر، ولو كان يفهمها لما فاته أن يرى أن درب الحياة التي يسلكها ويسلكها الناس تفضي بهم إلى مزبلة.
وحين عدت ذات يوم من القرية إلى المدينة ووصلت جامع الاستقلال اشتريت صحيفة ذلك اليوم (سنة 1935) ورأيت فيها صورة الشيخ عز الدين القسام وعرفت أنه استشهد، فغامت الدنيا في عيني لكثرة الدموع. كنت أصلي الجمعة في هذا الجامع نفسه، وكان الشيخ القسام رجلا مديد القامة، طويل العمامة، مستطيل الخطبة، لا تسمع فيها شيئا ضد الانتداب، ولا تحس انها تتفجر بالثورة، وكان إرسالها على وتيرة واحدة يجعلني أشعر بالملل، ولهذا فوجئت بأن الشيخ كان ينطوي على ثورة شديدة، وكان له أتباع، وكان يرتب للجهاد.
ص93 (مرت اكثر السنة =1936= ونحن في القرية، إلا أننا كنا نزور المدينة بين الحين والحين، نكتري شاحنة، ويحشر عدد غير قليل من أبناء القرية فيها، ونذهب جميعا لمشاهدة فيلم سينمائي في المساء، وعند انتهاء الفيلم نحتشد في الشاحنة ونعود ليلا إلى القرية، وكان أكبر مشجع لنا أن يكون الفيلم لمحمد عبد الوهاب، إذ أن ما كان يهمنا من الفيلم حينئذ هو الأغاني، لا قصة الفيلم ولا حبكته ولا شخصياته الأخرى)
ص 98: عام 1936(كانت لدى أهلي فرس بيضاء في غاية الرعونة، فامتطيتها ومضينا نقطع السهل إلى الساحل، وكان إلى جانبي فتى يركب فرسا، ويلوح بقصبة ذرة فتلمحه الفرس التي أركبها فتشب في الهواء، وتكرر ذلك، ووجدت ان الفرس لن تهدأ، فأخرجت قدمي من الركابين وتحفزت للقفز، فوقعت على يدي، فأصيبت بالتواء، ولكن ذلك لم يثنني عن الوصول إلى البحر وممارسة السباحة، ثم ركبت الفرس نفسها عائدا مع زملائي إلى القرية)
ص99 عام 1936(طلبت من والدي وهو يسوق قطيعا من البقر إلى سوق طولكرم أن يسمح لي بمرافقته، فذهبنا معا، أنا أركب على أتان، وهو يمشي على قدميه مسافة تزيد على أربع ساعات. وما أن وصلنا قرية "الجلمة" حتى أقبل الليل، فذهب والدي إلى تلك القرية يطلب من أهلها أن يتقبلوا ابنه لينام عندهم سواد ليلة واحدة، فما وجد من يستجيب. عندئذ قال لي : هناك طريقة أفضل، وأخذني إلى بيادر القرية، ومهّد لي مناما في قش قمح هنالك، وغطاني بالقش ما عدا رأسي، وكانت نومة مريحة. وفي الصباح مر بي واستأنفنا رحلتنا حتى بلغنا سوق الحلال في طولكرم، وكانت تلك مسافة قصيرة. هذه الرحلة جعلتني أدرك أن شقاء والدي في سبيل الرزق لا يعوضه أي ربح مهما يكن مقداره، فكيف إذا كان هو يكتفي بكسب بسيط لأنه لا يطيق أن يرجع بالبقر بعد أن يصل به إلى السوق? وحين انتهينا من أمر السوق ذهبت إلى محطة القطار وحدي، فلما حاذى قريتنا قفزت منه وتوجهت إلى القرية ماشيا، وفي طريقي شاهدت مساحات شاسعة تغطيها شقائق النعمان، وكنت أرها من القرية فأحسبها أرضا مصبوغة بالدماء)
ص 109 الكلية العربية في القدس (1937 – 1941) موقع الكلية على جبل المكبر خارج القدس القديمة، ووراءها منزل مدير الكلية أحمد سامح الخالدي ... (ص 112) وقد اعتمدت لطلابها زيا موحدا يتالف من جاكته خضراء، على صدرها من الناحية اليسرى قد شبك رمز الكلية، وهو صورة صقر، وبنطلون رمادي الون، وربطة عنق خضراء، وهذا الزي علامة مميزة (يفهم من كلام المؤلف أنه كان ممنوعا على الطالب أن يرتدي غير هذا الزي خارج الجامعة. ليكون دائما تحت المراقبة)
ص 120 صيف 1938(كانت الإجازات تسمح لي بحضور الأعراس ومشاهدة أفراح القرويين وإشعال النيران في ساحة القرية، وتكوين حلقات "السحجة" وسماع الأغاني المصاحبة لكل ذلك، ومشاهدة زفة العريس والعروس، وما يصاحبها من أغان، وكنت في النهار أصغي إلى أغاني الرعاة ولحن الأرغول والناي وأصوات العتابا الحزينة، وكان كل ذلك زادي حين أغادر القرية)
ص 124 صيف 1939 (في تلك المرحلة كان الجنود الإنجليز يطوقون القرى في الصباح الباكر، ويأمرون أهل كل قرية بالتوجه إلى ساحة البلد، ثم يتفرسونفي المحتشدين من خلال "عين" مختبئ في سيارة، يشير بأن هذا يعتقل وذاك لا يعتقل، ويحملون من حكم العين عليهم بالاعتقال في شاحنة ويغادرون القرية. ومرة أفقنا فوجدنا الجنود على سطوح المنازل، وأمرنا بالتوجه إلى الساحة العامة، وسلكت أنا الدرب المألوفة التي توصلني إلى الساحة العامة، وأخذ الجند من السطوح يقفذونني بالحجارة، ولكنها لم تصبني، وأخيرا وصلت الساحة العامة فوجدت فريقا من الجند قد اصطفوا في صفين، وكان علي أن امر بينهما، فكان الجندي على اليمين يضربني بقبضته فيتلقاني جندي على اليسار، فيضربني بقبضته أيضا ويردني إلى جندي آخر على اليمين، كنت كالكرة يتبادلها صفان من الجنود حتى وصلت إلى نهاية الصفين. وكان هذا النوع من التعذيب يُعدّ لعبا وتلهيّا إذا قيس إلى أنواع أخرى من التعذيب. فقد طبقت علينا حكومة الانتداب العقوبات الجماعية، فإذا أذنب في نظرها واحد أخذ بذنبه جميع أهل القرية. وبهذه السياسة أصبحت المعتقلات تعج بالمعتقلين من كل مدينة وقرية بفلسطين)