البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : أصوات من العالم

 موضوع النقاش : اقتباسات واستضافات لأصوات من العالم..    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 abdelhafid 
21 - أبريل - 2007
*باسم الله الرحمن الرحيم .
 أهدي هذه المشاركة (1) لشاعرنا المتميز الأستاذ زهير  ، وأتمنى تعليقا منه على هذه القصيدة لشاعر الريف .
 
 
 
من ديوان شاعر الريف*


محمد بن علي الوكيلي
(1918-1973)



 
(1) مملكة الجمال**

 

 

جَارَ اُلْجَمَالُ عَلَى اُلْأَحْشَاءِ إِذْ غَلَبَا
واُسْتَعْبَدَ الْقَلْبَ فِي مَأْوَاهُ وَاغْتَصَبَا
يَا ضَيْعَةَ الْحَقِّ فِي مَرْعَى حُكُومَتِهِ
إِنَّ الْجَمَالَ يُزِيلُ اُلصَّبَّ مَا وَجَبَا

لاَ يَنْفَعُ الْعَقْلُ فِي حُبِّ الْحِسَانِ وَلاَ
يُجْدِي اُلتَّدَبُّرُ فِي الْهَوَى أَرَبَا
اَلْحُبُّ أَصْدَقُهُ يَاتِي مُصَادَفَةً
وَأَكْذَبُ اُلْحُبِّ أَنْ تَلْقَاهُ مُكْتَسَبَا

أَنَا اُلْخَلِيُّ مِنَ اُلدُّنْيَا وَزِينَتِهَا
لَوْلاَ اُلصَّبَابَةُ فِي قَلْبِي لَمَا اُلْتَهَبَا
فَلَسْتُ أَمْلِكُ إِلاَّ خَافِقًا جَذِلاً
لاَ يَفْتَأُ اُلدَّهْرَ يَشْدُو شَاعِرًا طَرِبَا

اَلْكَوْنُ حَوْلِي رَيَّانُ اُلْجَوَانِبِ إِذْ
أَهْوَى وَمَهْمَا صَحَوْتُ فَاُلْحَيَاةُ هَبَا
كَأَنَّمَا قَدْ خُلِقَتْ لِلْهَوَى هَدَفًا
بَيْنَ اُلْخَلاَئِقِ لاَ أَسْتَصْعِبُ اُلْوَصَبَا

يَا أَيُّهَا اُلْقَمَرُ اُللَّأْلاَءُ مَطْلَعُهُ
بَيْنَ اُلْأَهِلَّةِ.. يُخْفِي نُورُهُ اُلشُّهُباَ
شَاءَ اُلْهُيَامُ اُلَّذِي بَيْنَ اُلْجَوَانِحِ أَنْ
أُكَنِّي إِمَّا أُنَادِي ذَلِكَ اُلنَّسَبَا

لَوْلاَكَ، لَوْلاَكَ يَا مَغْنَى اُلْجَمَالِ لَمَا
تَرَى إِلَيْكَ فُؤَادِي ثَانِيًا وَصَبَا
عَشِقْتُ فيكَ جَمَالاً نَاعِمًا وَرُؤًى
شَتَّى لِعَيْنِيَ فِي عَيْنَيْكَ وَاُلْأَدَبَا

إِنِّي عَشِقْتُ قَدِيمًا فِي مُجَازَفَةٍ
كَمَا عَشِقْتُ حَدِيثًا بَعْدَمَا ذَهَبَا
فَأَنْتَ وَحْدَكَ مَنْ يَدْرِي مُجَازَفَتِي
فِي اُلْحُبِّ يَا مَنْبَعَ اُلْحُبِّ الَّذِي عَذُبَا

يَا جَنَّةً مُشْتَهَاةً رَغْمَ هَاوِيَّةٍ
حَفَّتْ بِهَا تُنْبِتُ اُلْهُجْرَانَ وَاُلتَّعَبَا
كَمْ مَنْظَرًا فِيكَ وَهَّاجًا وَكَمْ أَمَلاً
غَضًّا غَرِيضًا وَحُسْنًا صَافِيًا كُثُبَا

"حُلْوُ اُلتَّثَنِّي إِذَا رِيحُ اُلصَّبَا عَصَفَتْ
مَعَاصِفَ اُلْقَدِّ مِنْهُ يُخْجِلُ اُلْقُضُبَا"
وَكُلَّمَا خَطَرَتْ فِي اُلْقَلْبِ صُورَتُهُ
يَهْتَزُّ قَلْبِيَّ مِنْ أَشْوَاقِهِ طَرَبَا

فَهَلْ رَأَيْتَ وَهَلْ سَمِعْتَ فِي زَمَنٍ
رَوْضًا أَرِيضًا يَضُمُّ اُلْحُبَّ لاَ اُلْعُشُبَا
وَهَلْ سَمِعْتَ بِبُسْتَانٍ يَسيِرُ عَلَى
رِجْلَيْهِ يُنْجِمُ فِي أَفْنَانِهِ اُلْعَجَبَا

فَأَنْتَ كُلُّكَ تَبْدُو فِي اُلْهَوَى مُتَعًا
لِلْعَاشِقِينَ وَرَوْضًا يُنْبِتُ اُلضَّرَبَا


 

 
* من ديوان شاعر الريف محمد بن علي الوكيلي: جمع وتحقيق ودراسة الأستاذ عمر اليزيد الصابري (رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط
 
..........................................................................................................
       عن موقع المرساة - منعم الأزرق .
 2  3  4 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
اللغة الأمازيغية واللغة العربية: مواطن الاتصال والانفصال (3)    كن أول من يقيّم
 
3 / كتـــابة تيفيناغ:

تسمى كتابة الأمازيغيين بتيفيناغ أو تفنغ Tifinag أي خطنا أو كتابتنا أو اختراعنا، وقد وصلتنا هذه الكتابة مخطوطة عبر مجموعة من النقوش والصخور وشواهد القبور منذ آلاف من السنين، ولدينا من ذلك أكثر من ألف نقش على الصفائح الحجرية ، بل يفوق 1300 نصا .15

ومن ناحية أخرى، يذهب بعض الدارسين إلى أن تيفيناغ مشتقة من فنيق وفينيقيا. ويعني هذا أن اللغة الأمازيغية فرع من الأبجدية الفينيقية الكنعانية. وفي هذا يقول عبد الرحمن الجيلالي" لقد أقبل البربر على اللغة الكنعانية الفينيقية، عندما وجدوا ما فيها من القرب من لغتهم وبسبب التواصل العرقي بينهم وبين الفينيقيين".16

ويذهب الدكتور عزالدين المناصرة إلى أن اللغة الأمازيغية وأبجديتها فينيقية الأصل وكنعانية النشأة وعربية الجذور والأصول:" اللغة الأمازيغية متعددة اللهجات وهي قابلة للتطور إلى لغة راقية كالعربية وكتابتها بالحروف الطوارقية (التيفيناغ) هو الأصل، فالمفرد المذكر هو كلمة (أفنيق) مما يوحي فورا بكلمة فينقيا، وهذا يدلل على الأرجح أن اللغة الأمازيغية كنعانية قرطاجية، ولم تكن الكنعانية القرطاجية الفينيقية لغة غزاة، لأن القرطاجيين الفينيقيين هم الموجة الثانية من الكنعانيين. وبما أن أصل البربر الحقيقي هو أنهم كنعانيون فلسطينيون ولبنانيون على وجه التحديد، فإن السكان الأصليين للجزائر، البربر الأمازيغ، أي الموجة الأولى الكنعانية استقبلوا أشقاءهم الكنعانيين الفينيقيين ليس كغزاة، بل بصفتهم استكمالا للموجة الأولى. ومن الطبيعي بعد ذلك أنهم امتزجوا بالرومان والإغريق واللاتين. فالأصل أن تكتب الأمازيغية بحروف التيفيناغ التوارگية الكنعانية القرطاجية الفينيقية، وأصل هذه الحروف يعود إلى الكنعانية الفينيقية والعربية اليمنية الجعزية."17

وقد تأثر خط تيفيناغ في مساره التاريخي بالكتابة الفينيقية الكنعانية والكتابة المصرية والكتابة اليونانية والكتابة الليبية والكتابة اللاتينية والكتابة العربية خاصة على مستوى الحركات والصوائت. ويرى بوزياني الدراجي أن " شيئا من الشبه يجمع بين الأمازيغية (الليبية) وما اكتشف من كتابة في جنوب إسبانيا L'Iberique بالإضافة إلى التشابه بينها وبين خط الاتروسگ L'Erusgueوخطوط يونانية فرعية أخرى.... وربما هذا نتيجة الاحتكاكات التي حدثت عبر فترات تاريخية مختلفة. ولكن الراجح فيما ذكر هو الارتباط القوي بين اللغة الأمازيغية واللغات الحامية بالدرجة الأولى، ثم اللغات السامية في درجة ثانية Chamito- Sémique."18

هذا، وتكتب الأمازيغية القديمة كما هو معلوم من الأعلى إلى الأسفل في البداية كما يتجلى ذلك في النقوش والصخور والكهوف، ليتم تطويعها من جميع الجهات، من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى ،ومن اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. واستمر وضع الكتابة على هذا الشكل إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي إلى أن غير الطوارق صيغة الكتابة من اليمين إلى اليسار على غرار اللغة العربية. بيد أن الباحث الجزائري بوزياني الدراجي يرى أن هذا التغيير بدأ مع الفينيقيين:" وفي العهد الفينيقي أضحت كتابة " تفنغ" تكتب من اليمين إلى الشمال؛مثلها مثل الخط الفينيقي."19

ومن المعلوم أن الكتابة الأمازيغية عبارة عن حروف صامتة وغير صائتة، كانت في البداية تتكون من 16 حرفا صامتا Consonnes، وصار بعد ذلك 23 حرفا في عهد المملكة المازيلية النوميدية. وستضاف إليها بعض الحروف الصائتة voyelles مع الفتح العربي لشمال أفريقيا وتسمى :" تيدباكين"، وهذه الصوائت هي: الفتحة والضمة والكسرة. وتسمى الأبجدية الأمازيغية "أگامك"،20لتصبح تيفيناغ اليوم عبارة عن 33 حرفا ، منها 29 حرفا صامتا و4 صائتا. ويعني هذا أن الأمازيغية تشترك مع اللغة العربية في احتوائها على الصوائت والصوامت، بل أخذت الصوائت (الفتحة ، والضمة، والكسرة، والسكون ) من شقيقتها العربية، كما استخدم حرف الهمزة العربي بكثرة في الأمازيغية (أغيور/الحمار،أسيمي/ الرضيع، أيندوز/العجل....) ، وكان ذلك مع بدايات الفتوحات الإسلامية، كما اتخذ خط اللغة العربية في كتابة الأمازيغية وترجمة النصوص العربية ولاسيما الدينية والفقهية والفلسفية منها.

ومن خصائص الخط الأمازيغي القديم أنه خط صامتي يشبه الكتابة الأيقونية الإديوگرامية Idiogramme التي تعبر عن فكرة أو شيء أو صورة على غرار الكتابة الكنعانية . كما يخلو الخط من العلامات الصائتية Voyelles، ويحضر هذا الخط في أشكال هندسية كدوائر ومثلثات ونقط وخطوط مفتوحة ومنغلقة ومتقاطعة وخطوط مائلة ومتنوعة.

هذا، وقد ترك لنا الأمازيغيون في شمال أفريقيا أكثر من ألف نقش على الصخور والكهوف والشواهد، و" تركوا عددا من النقوش التذكارية في تونس والجزائر خاصة، فيها ماهو مصحوب بترجمته اللاتينية أو الفينيقية؛ وقد قام الباحث جورج مارسي George Marcy بمحاولة جادة من أجل شرحها. لكن معظم النقوش الأمازيغية القديمة لاتزال تنتظر اختصاصيين يشترط فيهم أن يتقنوا الأمازيغية أولا، ثم إحدى اللغات الميتة الآتية: الفينيقية أو اليونانية أو اللاتينية."21

ومن ناحية أخرى، فقد كتبت الأمازيغية بخط تيفيناغ منذ فترة قديمة جدا ولم تصلنا نقوشها إلا مع عصر الجمل، كما كتبت الأمازيغية بالخط اللاتيني مع الرومان قديما والاستعمار الأوروپي حديثا ، وكتبت كذلك بالحرف العربي لمدة طويلة أيضا وبالضبط منذ القرن الثاني والثالث عشر مع ابن تومرت الذي ترجم كتاب "التوحيد" أو كتاب "العقيدة" إلى اللغة الأمازيغية بواسطة الخط العربي. بيد أنه في القرن الثامن عشر الميلادي، ستنتشر الكتابات الأمازيغية المكتوبة بالخط العربي وبالضبط في منطقة سوس كالشعر الأمازيغي المنسوب إلى سيدي حمو الطالب وغيرها من كتب الشعر والدين والتصوف والتاريخ والسير. وقد واكب هذا التأليف المرحلة الإسلامية والفتوحات العربية لشمال أفريقيا، وكذلك مع تأثر المثقفين الأمازيغيين بالعلماء المسلمين في شتى المعارف والفنون والعلوم. وفي هذا الصدد يقول أحمد بوكوس:" أما عن المرحلة الإسلامية فإن المؤرخين، وخصوصا منهم مؤلفي الحوليات والسير، يتحدثون عن عدد غير يسير من المراجع المكتوبة باللسان الأمازيغي، منها الأدبيات الدينية للخوارج والبورغواطيين والموحدين ولكن جلها اندثر. لم نعد نحتفظ منها سوى ببعض أسماء الأعلام البشرية وأعلام الأمكنة وبعض الجمل المتناثرة. وحتى أشعار سيدي حمو الطالب التي قد تساعد على استقراء السمات العامة لأمازيغية القرن الثامن عشر لم يصل إلينا بعضها إلا عبر الرواية الشفوية. وهكذا، فإن من أقدم المؤلفات الموضوعة بالأمازيغية هي من إنجاز الفقهاء من أمثال أزناگ وأوزال. ولعل من أشهر هذه المؤلفات كتابي الفقيه محمد ؤعلي أوزال (الهوزالي) أي كتاب الحوض وكتاب بحر الدموع، أولهما يتناول قواعد الفقه وفق المذهب المالكي، وثانيهما في قضايا التصوف. لقد ألفا في القرن الثامن عشر بلسان تاشلحيت ودونا بالحرف العربي. والجدير بالذكر أن لغة هذه النصوص لاتختلف في شيء عن الأمازيغية الحديثة من حيث صرفها ومعجمها وتركيبها."22

ونستنتج من كل هذا أن اللغة الأمازيغية عبر مسارها النضالي وعبر تاريخها الطويل استعانت في فرض وجودها وكينونتها باللغة العربية وبخطوطها المتنوعة لتدوين المعارف والفنون والعلوم وكل الإبداعات الشخصية والجماعية لتنتقل من جيل إلى آخر لتعريف الأحفاد الأمازيغ بالتراث الذي خلفه الأسلاف والأجداد. والفضل بطبيعة الحال يعود بكل جدارة واستحقاق إلى ماقدمته اللغة العربية للغة الأمازيغية من تسهيلات على مستوى المشافهة والتحبير والتصنيف والتواصل.
*abdelhafid
3 - مايو - 2008
اللغة الأمازيغية واللغة العربية: مواطن الاتصال والانفصال (4)    كن أول من يقيّم
 
4/  المستويــــــات اللسانيــــــــــــــــــــة:

المستوى الصوتي والإيقاعي:
إن الصوامت والصوائت الموجودة في اللغة الأمازيغية توجد أيضا في اللغة العربية ، وتكاد تتشابه اللغتان في عدد الحروف والصوائت(28 حرفا بالنسبة للغة العربية، و29 بالنسبة اللغة الأمازيغية زائد أربع صوائت(33حرفا) أخذت من اللغة العربية كما يظهر ذلك في كتابات سكان الطوارق مع الفتح العربي الإسلامي ).

ومن الأصوات التي تتميز بها اللغة الأمازيغية وغير موجودة في العربية نلفي : حرف الگاف G /في كلمة: أرگاز/الرجل، وحرف الزاي المشددة بثلاث نقط : ژ: أ ژرو / الحجر، ، وحرف گو/ġ مثل: تاگورت(الباب)، أگجديف(نخلة). وهناك حروف موجودة في اللغة العربية وغير موجودة في اللغة الأمازيغية كالضاد والثاء(باستثناء اللهجة الريفية ينطق أبناؤها الثاء بشكل جيد: ثرايثماس :اسم امرأة).

كما أن الهمزة لاتنطق قاطعة في الأمازيغية إلا عند الابتداء كالعربية، أي في أول الكلام. فإن كانت مفتوحة كتبت على الألف(أضار/الرجل- أضار ئنو: رجلي)، وإن كانت مضمومة كتبت على الواو(ؤدم/الوجه- سيرد ودم نك: اغسل وجهك)، وإن كانت مكسورة كتبت على الياء(ئزم/الأسد- تنغام ئزم/قتلتم الأسد). أما في وسط الكلام فتحذف الهمزة كتابة ونطقا، ولايثبت إلا حرفها بصفته حركة لآخر حرف في الكلمة التي قبله.

ومن حيث الإيقاع العروضي، فقد تأثر الشعر الأمازيغي تأثرا كبيرا بالإيقاع العربي من حيث استعمال التصريع في البيت الأول، وتشغيل القافية الموحدة، واستخدام البيت المستقل ونظام الشطرين والرباعيات في الإيزري الأمازيغي الريفي، كما تأثر به على مستوى الهيكلة والبناء الشكلي؛ إذ يمكن الحديث اليوم في القصيدة الأمازيغية الحديثة والمعاصرة عن الشعر العمودي والشعر التفعيلي والقصيدة النثرية والموشحات الأمازيغية.

وعلى الرغم من ذلك، فالعروض الأمازيغي يتسم بخصوصيات محلية على مستوى البحور، فأوزانه غير موجودة في اللغة العربية. ففي الريفية يمكن التنصيص على إيقاع سداسي المقاطع:

لايارا لايارا لايارا لابويا

بينما في الشعر الأمازيغي السوسي نجد 11 وزنا عروضيا أصيلا حسب الرايس الحاج محمد الدمسيري وتسمى بــ" يان دمراون واسيف"، ولكل آسيف (جمع ءيسافن) قياس يسمى بآسقول، ولكل قياس تفاعيل تسمى بتالالايت.23

المستوى المورفو- تركيبي:
هناك من الباحثين اللسانيين الأمازيغ كالدكتور محمد الشامي وغيره من يثبت بأن تركيب الجملة الأمازيغية يشبه كثيرا تركيب اللغات الهندو أوربية التي تبتدئ بالاسم الذي يعقبه الفعل:sujet + verbe، والمقصود بهذا أن الجملة الأمازيغية أساسها الجملة الاسمية لا الفعلية كما في اللغة العربية.

مثال: يفاغ أورگاز: خرج الرجل/ Ifag Urgaz، فمورفيم (إ/u ) عبارة عن فاعل/ sujet وكلمة فاغ بمثابة فعل،أما أرگاز فهو فضلة توسيعية تأكيدية أو زائدة. ويعني هذا أن الجملة الأمازيغية جملة محمولية اسمية تصاغ على غرار اللغات الأجنبية التي تبتدئ بالاسم وبعدها الفعل.

أما الأستاذ محمد شفيق فيثبت بأن هناك تشابها كبيرا بين اللغة الأمازيغية واللغة العربية على مستوى أنماط التركيب الجملي والمقولات الصرفية إلا أن المثنى في الأمازيغية يقترن بالعدد، بينما في العربية يحدد بالألف والنون في حالة الرفع، والياء والنون في حالتي النصب والجر. يقول محمد شفيق في كتابه:"أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية" :" نلاحظ أن التركيب الأمازيغي والتركيب العربي متشابهان، إلا أن الأمازيغية ليس فيها مثنى...

ويستخلص من النظر في الأمثلة المرصودة أن الفعل الأمازيغي تابع لفاعله، دائما، من حيث التذكير والتأنيث والإفراد والجمع، سواء أكان الفاعل اسما ظاهرا أم كان ضميرا عائدا، أكان عاقلا أم غير عاقل".24

كما تتشابه اللغة الأمازيغية مع اللغة العربية على مستوى التداول، فهناك في اللغتين معا : الجملة التقريرية التأكيدية، والجملة الأمرية، والجملة الطلبية، والجملة التعبيرية البوحية الإفصاحية، والجملة الإعلانية التصريحية، والجملة الوعدية. وتستلزم اللغتان أيضا على مستوى التداول والتخاطب الكفاءة التواصلية (كفاءة لغوية، ومكون خطابي، ومكون مرجعي، ومكون سوسيوثقافي). كما تستوجب الكفاءة الخطابية بدورها في اللغتين معا التعرف على الخطاب الإخباري، والخطاب الوصفي، والخطاب السردي، والخطاب الحجاجي، والخطاب الشعري، والخطاب الدرامي.

المستـــوى البلاغي:
هناك تشابه تام بين اللغة الأمازيغية واللغة العربية على المستوى البلاغي والجمالي والفني في استعمال نفس الصور الشعرية أو الفنية كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز المرسل والمجاز العقلي والرمز والأسطورة ، وتشغيل المحسنات البلاغية كالتوازي والتجانس الصوتي والتكرار والطباق والمقابلة والمماثلة والاقتباس والتضمين والتناص، واستخدام الجمل الخبرية والإنشائية تقريبا بنفس السياقات التعبيرية مقالا ومقاما وبلاغة وفصاحة...كما تشترك اللغتان في توظيف التقرير والحقيقة في مقابل المجاز والانزياح الإيحائي.

المستوى الدلالي والمعجمي:
من يتأمل مفردات اللغة الأمازيغية ومعجمها الدلالي، فسيجد أن معظم هذه الكلمات لها أصول عربية أو لها مقابلات في اللغات السامية كاللغة الكنعانية (العبرية والفينيقية ....)، واللغات الحامية كالمصرية على سبيل التمثيل. ومن المؤكد أن اللغة القريبة من اللغة الأمازيغية هي اللغة العربية، وهذا ما أثبته گرينييه الذي قال بأن:" اللغة العربية هي الوحيدة التي نفذت كثيرا إلى اللغات البربرية.".25

وقد خصص الباحث المغربي محمد البومسهولي كتابا قيما تحت عنوان:" عروبة الأمازيغي بين الوهم والحقيقة" بين فيه عروبة الكثير من المفردات والأسماء والأرقام والأفعال في اللغة البربرية المغربية مؤكدا بأن:" اللهجة الأمازيغية عامة عبارة عن مفردات عربية صريحة فصيحة، أو مفردات مصرية قديمة أو عربية منسية، متروكة أو دخيلة وتارة غريبة تحتاج إلى وقت لإرجاعها إلى الأصل.

يبقى رأس مال الأمازيغية: اللكنة، والصيغة والنطق، وبإمكان الأمازيغ أن يبربروا جميع لغات العالم باستعمالهم:

اللكنة + الصيغة والتفعيلة + النطق وبعض حروف الربط."26

ومن هنا، فقد جمع الكاتب 271 كلمة أمازيغية لها أصل عربي في جميع سياقاتها اللغوية والدلالية ، وخضعت في مسارها الفيلولوجي لخاصيات : الحذف والاستبدال و القلب والتصحيف والتحريف والتغيير الفونيتيكي. وأتبع الباحث معجمه الأمازيغي العربي بجدول للأسماء العلمية والأرقام التي بين عروبتها وانتماءها للغة العربية اعتمادا على الاشتقاق والمقابلة المعجمية. وانتهى بحثه بقوله:" وفي النهاية أكون قد رصدت نموذجا لبعض الألفاظ الأمازيغية التي استمدت جذورها من اللغة العربية الفصحى، تلك الألفاظ التي نالها أحيانا التحريف، ألفاظ يتبادر إلى الذهن أنها أمازيغية قحة بينما هي عربية صرفة"27.

ومن جهة أخرى، ألف الدارس الليبي علي فهمي خشيم كتابا بعنوان:" الدارجة المغربية بين العربية والأمازيغية" يرد فيه على كتاب الأستاذ محمد شفيق :" الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والعربية" ، وهو معجم متوسط جمع فيه محمد شفيق كلمات الدارجة المغربية التي هي من جذور أمازيغية في الأصل.

ومن ثم، فكتاب علي فهمي خشيم تصحيح لماذهب إليه محمد شفيق حيث أرجع الباحث الكلمات الأمازيغية إلى أصولها العربية على امتداد 213 صفحة من الحجم الكبير. وفي هذا السياق يقول الباحث الليبي:" المشكلة التي يعانيها الأستاذ محمد شفيق تكمن في أنه لايرى، خاصة في السنوات الأخيرة من عمره المديد، أية علاقة ما بين العربية والأمازيغية، ويتوهم أن المفردات والتعبيرات في الدارجة المغربية وغيرها بالطبع من دارجات الشمال الأفريقي المتفقة وما في الأمازيغية انبثقت عن هذه الأخيرة. إنه يورد- على سبيل المثال- كلمات كأفراك (السياح)، أكوال(الدرابگة)، تاكرا(الإناء)، المزوار(النقيب)، السكيفة (الجرعة)، الدربالة(المرقع من الثياب)،أومليل(الأبيض)،أزنضار(الطوال)، أكلزيم(المعول)،أنفا(المرتفع)،آسفي (النهر)،أگادير(السور)، أماكدول(الصويرة- اسم مدينة).

ومن أسماء المواضع: إفران(الكهوف)،، أزمور(الزيتون)، واليلي (الدفلى)، تافيلالت (الجرة)،أساسيس(الأرض المنبسطة)، تانسيفت (النهير) وغيرها كثير، فيرى أنها أمازيغية صرفة لاصلة لها بالعربية. وقد أثبتنا بالدليل أن هذه المفردات عروبية خالصة تشارك بها الأمازيغية والعربية العدنانية في انتمائهما إلى تلك الدوحة العظيمة: العروبية الأولى.".28

ويعني هذا أن اللغة الأمازيغية تعتمد على الكثير من مفردات اللغة العربية من باب قانون التأثر والتأثير، بل تأثرت الأمازيغية بمجموعة من اللغات القديمة كالفينيقية واليونانية واللاتينية ، كما تأثرت بمجموعة من اللغات الأجنبية المعاصرة كالفرنسية والإسپانية والهولندية والألمانية والإنجليزية واللهجات والعاميات المحلية....

أضف إلى ذلك أن اللغة الأمازيغية تتشابه مع اللغة العربية في احتوائهما على الدلالتين: الحرفية والمجازية، أوالدلالة التقريرية المباشرة والدلالة الانزياحية. كما تشمل اللغتان على حد سواء على الدلالة المفهومية الحدودية، والدلالة الإيحائية، والدلالة الاجتماعية، والدلالة العاطفية، والدلالة الانعكاسية، والدلالة التراتبية، والدلالة التيماتيكية(الموضوعية).29

*abdelhafid
3 - مايو - 2008
اللغة الأمازيغية واللغة العربية: مواطن الاتصال والانفصال (5)    كن أول من يقيّم
 
5/ خاتمة وهوامش :

تلكم – إذاً- نظرة مقتضبة حول مواطن الاتصال والانفصال بين اللغة الأمازيغية واللغة العربية، فقد أثبتنا أن هناك تشابها بين اللغتين على مستوى الجذور والفصيلة والمستويات اللسانية والكتابة، كما يمكن الحديث أيضا عن تعايش وتجاور بينهما على مستوى النحت والاشتقاق والتمزيغ والاستدخال اللغوي. فقد استعانت اللغة الأمازيغية بالخط العربي وصوائته وصوامته في انكتاب إبداعاتها وعلومها وفنونها . بيد أن هناك خصائص تميز اللغة الأمازيغية وتفردها عن اللغة العربية كمعيار الأقدمية (10000سنة)، ومعيار التداول الحيوي الذي يتجلى في كون اللغة الأمازيغية هي لغة التداول والتواصل في رقعة جغرافية تبلغ 9ملايين من الكيلومترات المربعة، بينما اللغة العربية أصبحت من اللغات الكلاسيكية المدرسية التي لانستعملها سوى في الكتابة الأكاديمية والتواصل الرسمي والتراسل الإداري للدولة. في حين نجد الأمازيغية لغة لاتتصف بالمعيارية كاللغة العربية، إذ " إن قواعدها تبقى ضمنية وغير متجلية في كتب ترسم معيار النطق السليم والمعنى الصحيح كما هو الحال بالنسبة لتلقي اللغات المدرسية"30.

وعلي أي حال، فاللغة الأمازيغية واللغة العربية تشكلان لحمة مترابطة وآصرة لغوية متشابكة على مستوى ترابط الجذور واختلاطها اتساقا وانسجاما وتوارثا ، كما أنهما توأمتان لايمكن الفصل بينهما نظرا للعلاقات الجوارية الطبيعة الموجودة بينهما والقائمة على التعايش والتكامل والانصهار الحضاري لغة وكتابة وتداولا على مر العصور.

ملاحظـــة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 1799 صندوق البريد، الناظور 62000، المغرب؛

jamilhamdaoui@yahoo.fr

الهوامـــش:

1 - محمد خير فارس:تنظيم الحماية الفرنسية(1921-1939) في المغرب،دمشق، صص:192-456؛



2- د.عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، دار الشروق، الأردن، الطبعة الأولى 1999م، ص:77؛



3 - ابن خلدون: العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر،دار الكتاب اللبناني، بيروت،طبعة 1968م، المجلد السادس، ص:191؛



4 - E.F.Gautier: Le passé de l'Afrique du Nord,(les siècles obscures), Payot,Paris,1952, p:139;



5 - عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، ص:76؛



6 - أحمد هبو: الأبجدية: نشأة الكتابة وأشكالها عند الشعوب، منشورات دار الحوار، اللاذيقية، سوريا، الطبعة الأولى، سنة 1984؛



7 - عثمان الكعاك: البربر، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، الطبعة الأولى،2003م ،ص:58؛



8 - محمد شفيق : لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام الرباط، الطبعة الأولى 1989م، ص:19-20؛



9 -عثمان الكعاك: البـــربـــر، ص:59-60؛



10 - ليون الأفريقي: وصف أفريقيا،الجزء الأول،دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان،، الطبعة الثانية1983، ترجمة عن الفرنسية:محمد الأخضر ومحمد حجي،ص:35؛



11 - د.صبحي الصالح:دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة التاسعة، 1981م، ص:54؛



12 - صبحي الصالح: دراسة في فقه اللغة، ص:46؛



13 - أحمد بوكوس: الأمازيغية السياسة اللغوية والثقافية بالمغرب، مركز طارق بن زياد، ، طبعة1، نونبر2003م، مطبعة فيديبرانت، الرباط، ص:15؛



14 - مصطفى أعشي: جذور بعض مظاهر الحضارة الأمازيغية خلال عصور ماقبل التاريخ، طارق بن زياد، الرباط ،الطبعة الأولى 2002م، ص:76؛



15 - محمد شفيق : لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام الرباط، الطبعة الأولى 1989م، ص:62؛



16 - عبد الرحمن الجيلالي: تاريخ الجزائر العام، دار الثقافة، طبعة رابعة، بيروت، 1980، ص:30-141 ؛



17 - د.عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، دار الشروق، الأردن، الطبعة الأولى 1999م، ص:69؛



18 - بوزياني الدراجي: القبائل الأمازيغية،الجزء الأول، ص:35؛



19- بوزياني الدراجي: القبائل الأمازيغية،الجزء الأول، ص:35؛



20 - محمد شفيق:لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، دار الكلام ، الرباط، الطبعة 1989م،ص:61-62؛



21 - محمد شفيق:لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين، ،ص: 62؛



22- أحمد بوكوس: الأمازيغية السياسة اللغوية والثقافية بالمغرب،ص:37.



23 - انظر عمر أمير: الشعر الأمازيغي المنسوب إلى سيدي حمو الطالب،مكتبة بروﭭانس بالدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1987م، ص:145-148؛



24 - محمد شفيق : أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية، إصدارات إنفوبرانت ، فاس، المغرب،الطبعة الثانية، 2003م،ص:113-115؛



25- د.عز الدين المناصرة: المسألة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، ص:95-96؛



26 - محمد البومسهولي: عروبة الأمازيغ بين الوهم والحقيقة، المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى مارس2001م، ص:33؛



27- محمد البومسهولي: عروبة الأمازيغ بين الوهم والحقيقة،ص:132؛



28 - علي فهمي خشيم: الدارجة المغربية بين العربية والأمازيغية، منشورات مجلة فكر، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:15-16؛



29 - بودريس بلعيد: (تدريس الأمازيغية والمقاربة التواصلية)، مجلة حفريات مغربية، عدد خاص، يونيو 2003م، ص:34-38؛



30 - مصطفى أعشي: جذور بعض مظاهر الحضارة الأمازيغية خلال عصور ماقبل التاريخ ، ص:82.

******************************************************
 
* عن موقع المغرب
بوابة المغرب الثقافية
*abdelhafid
3 - مايو - 2008
ألبرتو سانشيز : بين موغادور والمكسيك    كن أول من يقيّم
 
 
الروائي والشاعر والباحث المكسيكي ألبرتو روي سانشيز لـ"النهار:
أهتمّ كثيراً بسحر الحياة الكامن في الشعر وناضلت لكي لا أصير أحد ورثة الواقعية السحريّة
 
رلى راشد :
 
في سجل الروائي والشاعر والباحث المكسيكي البرتو روي سانشيز امتيازات كثيرة منذ باكورته "أسماء الهواء" في أواخر ثمانينات القرن المنصرم، التي جعلته يفوز بجائزة "كسافيي فيياوروتيا"، أرفع الجوائز الأدبية المكسيكية. غدا مذّاك صوتاً مرجعيا يغرف منذ احتكاكه بمدينة موغادور المغربية، من سبات التاريخ والأدب العربيين في الثقافة القشتالية. في فرنسا التي منحته وسام فارس للآداب والفنون، كان على تماس مع الكبار، من أمثال دولوز وبارت وفوكو وسواهم، وهذه تجربة رفدت أدبه بالأفكار في حين قاده ابن حزم الأندلسي الى أبجدية الرغبة التي وشمت قسطا وافرا من انتاجه. أما في وطنه المكسيك فكان أن رافق طوال أعوام مواطنه الحائز نوبل الآداب اوكتافيو باث في إطار مجلة "العودة" المحورية. جمع الاثنان التواطؤ المهني والصداقة، وأغدق باث على تخييل روي سانشيز التقدير، لاستلهامه "المغامرة والشعر والفطنة في هندسة كلمات محدثة". خلال مروره في بيروت محاضرا في معهد ثرفانتس عن "أنماط الحضور العربي في الثقافة المكسيكية" التقت "النهار" روي سانشيز المترجَم الى لغات العالم ومنها العربية التي نُقلت اليها أولى رواياته فقط.
 
في القارة القديمة، يُنظر الى الأدب المكسيكي كأحد أكثر آداب أميركا اللاتينية تمتعا بالألق، وخصص الناقد الفرنسي فيليب أولي لابرون انطولوجيا لمئة عام من الأدب المكسيكي أشار فيها الى إفادته مما سمّاه "التصور المُسبق الإيجابي"، هل تشاطره الرأي؟

- من المنطقي الاعتراف باختلاف جزء كبير من تاريخ المكسيك الثقافي، البيروفي أيضا، عن باقي ثقافة أميركا اللاتينية، ذلك ان هذين البلدين عرفا ثقافة خاصة في الحقبة السابقة للغزو الاسباني وقد استخدمت شتى الوسائل المتاحة في إقامة هذه المجتمعات الهجينة، في حين لم يحصل ذلك في الأرجنتين وتشيلي والأوروغواي وسواها. ربما الى حد معيّن في كولومبيا. انسحب هذا الدافع الذي حرّك المعيش، على الفنون وجعل المكسيك والبيرو، تتمتعان، منذ سنوات باستثناء ثقافي.

قصدت باريس في الثالثة والعشرين لثمانية أشهر غير أنك مكثت فيها ثمانية أعوام. تقول انك عثرت في المدينة على صوتك الأدبي الذاتي. انطلاقا من صلتك بالمكان، كيف تقارب باريس، أهي المدينة المشتهاة كما في عرف الارجنتيني خوليو كورتاثار أو هي حيز سقوط الوجود ووجه الخزي كما في مفهوم الاوروغواياني خوان كارلوس أونيتي؟

- كانت باريس خصوصا مكان لقاء الحضارات الأخرى. يكمن إغراء الإقامة في باريس ليس فقط في الثقافة المحلية وإنما أيضا في الانفتاح على آداب العالم وهذا محوري. ناهيك بأن باريس مدينة الجمالية التي تتنفس قِدماً، وثمة تناغم يلفّها من شتى الجهات. في حين ان مكسيكو تعاني، تحت إسم العصرنة، تدمير اتساقها، وهذا محزن. البعد الإنساني مهم أيضا في باريس، إنها مكان التواصل، وقد أفدت كثيرا من المجيء إليها في حقبة المعلّمين الكبار، وكانت لي فرصة حضور حصص ميشال فوكو ورولان بارت. لكن تلك اللحظة الاستثنائية انتهت ويا للأسف.

ثمة مدينة أخرى سكنت نثرك، وهي موغادور، الاسم القديم لمدينة الصويرة المغربية. تشابكت موغادور في أدبك مع الجسد وغدت موطئ قدم لاستكشاف الرغبة في روايات "أسماء الهواء" و"في شفاه الماء" و"جنائن موغادور السرية". من أين انبثقت رغبتك في تلقف الماضي التاريخي والأدبي العربي الراكد في الثقافة القشتالية، بعدما التفت اليه في العقود الأخيرة الروائي الاسباني خوان غويتيسولو؟
 
- انبثقت من سؤال بسيط: لماذا ما أراه، هو شبيه الى هذا الحد بالمكسيك؟ عندما وطئت المغرب أحسست بأني، في معنى ما، وطئت المكسيك. لا يرتبط ذلك بالمناظر الطبيعية فحسب ولكن أيضا، وعلى مستوى أكثر مادية، بالقطع الحرفية والفنية التي تعتبر في بلادي جزءا من الإرث والهوية، والتي شاهدت مثيلاتها في المغرب. اكتشفت أولا جوانب في الثقافة المكسيكية تملك جذوراً عربية أندلسية، واكتشفت ثانياً عالماً من الأشكال يوصل الرسائل من دون الحاجة الى التوسل بمضمون الكلمات، وإنما يوظف حسيّة كامنة في الهندسة والمياه ونزهات الشوارع. ليست موغادور مدينة لكنها تحقق رغبة ويوتوبيا سلطان. عرفت التعايش الديني وكان ستون في المئة من سكانها يهودا. ويتردد انها شهدت هجرتين أساسيتين من أبناء العرق الأسود إليها، الأولى مصدرها السودان والثانية غرب افريقيا، وقد أفرزتا فن الكناوة وهي موسيقى وطقس وتنويع ديني موسيقى، بل جَذبة صوفية تجد رديفها في السانتيريّا الكوبية، وهي مزيج الكاثوليكية والأرواحية الإفريقية. أما الكناوة فمزيج من الأرواحية الإفريقية والإسلام. موغادور مدينة – مزيج، تماما كما هي مكسيكو التي تجمع ثقافات عدة. قادني الإسبان الى العرب، وهذا مذهل فعلا. موغادور مدينة شبيهة بالمرأة، تعجّ بالغموض، لا يستطيع المرء دخولها أو امتلاكها، لا يسعه سوى التساؤل عن أصل هذا الحسن. صارت المدينة مجازا عن المرأة.

في "جنائن موغادور السرية" يمر التنقيب الرغبوي من خلال نمط استشراقي فتصير شهرزاد المرأة الراوية راوياً. غير أنك تعرّج أيضا على المغامرة الثقافية في الفصل الخامس موجّهاً تحية الى بورخيس. كُتب عنك مرةً أنك "بورخيس مُجَنسَن"، وأنك تصلح لأن تكون إبن بورخيس وأوكتافيو باث من جهة وإيتالو كالفينو وبازوليني من جهة ثانية.
 
- أجل لقد كُتب ذلك (يضحك). لطالما اهتممت ببعد الحياة الشهواني، وهذا منوط بتاريخي الشخصي. ربّتني بنات عمي الأربع وكان هذا مصدر غموض وتلقين في آن واحد، رافقني طوال حياتي العاطفية حيث المرأة شريكة وصاحبة حضور. اكتشفت بعدذاك ان الأمر نفسه جرى لابن حزم الكاتب الاندلسي من قرطبة من القرن الحادي عشر والذي ربّته أيضا نساء أربع. المذهل أن ابن حزم كتب عن أمور كثيرة اهتممت لها، وفي كتابه "طوق الحمامة" ثمة فصل عن تعليم الحب دلّني على الرغبة. وأنا أكتب، لا أفكر في إحالات تصل الى بورخيس وإنما الى إبن حزم (يضحك). علما أن التأثيرات الحقيقية تتحدر من كتاب آخر هو الحياة.

* في نثرك السردي، أين تنتهي ومضات الواقعية السحرية وأين يبدأ سحر "ألف ليلة وليلة"، ومتى يمتزج العالمان، وأين؟

- تربيت في حضن الواقعية السحرية، وثمة كتّاب كثر من جيلي قلّدوا المعلمين. غارثيا ماركيز مذهل أما مقلّدوه فليسوا كذلك على رغم تحقيقهم النجاح التجاري. لم تكن الواقعية السحرية خيارا بالنسبة إليَّ، وآثرت عدم إتباعها. سحر العالم الموجود في الشعر هو الذي أثار اهتمامي. ناضلت لكي لا أًصير أحد ورثة الواقعية السحرية. غير أني أهتم كثيرا بسحر الحياة الكامن في الشعر. يبزغ الشعر من شيء فريد استثنائي كمثل تجلّيEpifanía جيمس جويس الذي يشبهه بالأشعة الموحية. هذا هو السحر الذي سعيت الى اكتشافه. في المغرب حدث أن رأيت عنزات، وليس طيورا، تستوطن الأشجار، وكان المنظر بالنسبة إليَّ على قدر من السحر. لو أني ابتكرت ذلك لكان واقعية سحرية. في عرف المواطن المغربي الناظر الى الأشجار، كان المشهد عادياً تماماً، في حين وجدته مثيرا للدهشة، فقررت أن أقصّه كتابيا.

¶ الأمر منوط باختلاف المنظار...

- قد يكون الموجود عاديا لبعضهم ومذهلا لبعضهم الآخر. علّمتني تلك الطرفة ان السحري هو ما قد يتراءى روتينيا في البرهة الأولى وغير مستحق الانتباه. هذا ما أفضى بي الى تكريس أدبي للمغرب. لم أختلق شيئا. السحر مستقر في ثنايا الإضافة الشخصية الداخلية. في العودة الى واقعية ماركيز السحرية، تصوّر مرةً ملاكاً يجتاز الشارع، في تقديري الأمر سهل نسبيا أما الأصعب فرؤية الناس. حاولت اختلاق "جمالية الذهول"، وهنا المفتاح. إنها جمالية شهوانية أيضا لانطوائها على الاكتشاف وسماحها بتأكيد الحياة.

في باريس تتلمذت على رولان بارت خلال ما يزيد على خمسة أعوام، وقد استعدته في بحث "الأدب في الجسد". في حضرة طلابه اختزل بارت ماهية الكاتب بمصطلحي "المذاق والمعرفة"، واللافت ان نثرك التي تصنّفه كـ"نثر تكثيف" يستدين من الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية والهندسة والغرافيك.

- أنا سليل الباروك. مبدأ الباروك يكمن في ان العاطفة التي تحركنا جميعا تشكل ماهية الأمور، ذلك ان الموسيقى والحياة الجنسية والروائح ليست شؤونا تزيينية إضافية وإنما هي جزء من الرسالة التي ينبغي إيصالها. هذا ما قاله الباروك. نصل الى الله من خلال الموسيقى وغيرها. وفي حقبة تطور الباروك المسيحي قال الاسلام بإمكان الوصول الى الله من خلال الجسد.

¶ كانت لك وقفة كتابية أيضا عند اندره جيد في "بؤس الحقيقة: اندره جيد يعود من روسيا"، وأيضا أوكتافيو باث في "مقدمة لفهم اوكتافيو باث". جعلتَ السيرتين تتقاطعان عند مفصل 1937 في مدينة فالنسيا الاسبانية خلال المؤتمر الثاني لـ"رابطة المفكرين المدافعين عن الثقافة" المناهضة للفاشية. هل تعمدت الموازاة بين الشخصيتين؟

- ينتمي جيد وباث الى جيلين مختلفين. كتبتُ عن جيد قبل سنوات من معرفتي بباث، وأكثر ما لفتني فيه هو التسامح، ذلك ان أحدى أشد مساوئنا عدم تقبلنا الآخر المختلف عنا جذريا، ليس فقط فكريا، وإنما أيضا في نمط عيشه. اهتممت كثيرا بهذا الجانب في إطار التزام المثقف السياسي. أيّد جيد الشيوعية وقصد روسيا ووجدها مختلفة عمّا كان يظنه. عاد وكتب وجهة نظره فتهجّم عليه الجميع من حوله. جرى لأوكتافيو باث أمر مشابه. خلال عملي معه في 1984 عانى أيضا إشكالية سياسية ارتبطت بثورة نيكاراغوا، فبعدما طالب بإجراء انتخابات في هذه البلاد، تعرض لهجوم حاد من اليسار واتهم بالتعامل مع الولايات المتحدة في حين كان شديد النقد تجاهها. تناول كتابي عن جيد بؤس الحقيقة وقد ألّفته في حقبة باريس في حين تبعه كتابي عن باث بعدذاك بسنوات.

¶ كيف تصف تجربة العمل اليومي كسكرتير تحرير لمجلة "العودة" المحورية في المكسيك الى جانب قامة من طراز أوكتافيو باث؟

- لم أكن أقدّره في البداية كما فعلت في النهاية. علّمني باث كيف أقدّره وأحبّه كل يوم أكثر. عندما انتهى تعاوننا المهني انطلقت علاقة صداقة مع الأبناء والزوجة. لقّنني أمورا جمة وخصوصا الشغف، وكيف يتحد بالأخبار اليومية، وكيف يمتزج بالصحافة.

¶ في الحديث عن الشغف، ثمة في بيبلوغرافيا أوكتافيو باث بحث عنوانه "الشعلة المزدوجة: الحب والإيروسية"، يرى فيه الحب مرتبطا بالوضع الإنساني. الى أي حد تتقاربان على هذا الصعيد.

- لقد سلكتُ في الواقع دربا مختلفا. لم يهمني كثيرا التأمل الفكري بموضوع الحب وإنما التحقيق الروائي في الحب. لم أخصص بحثا للحب، وإنما قمت بتحقيق وثائقي في فسحة شعرية. وهما مصطلحان متباعدان.

¶ في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، أعَدت الى جانب زوجتك مارغاريتا دي أوريانا، إحياء مجلة "فنون المكسيك"، كيف تقارب المشروع كاتبا وباحثا وناشرا؟

- سنحتفل قريبا بمرور عقدين على إعادة إطلاقها، علما أن المفهوم قديم العهد ويتمتع بحضور بارز. "فنون المكسيك" مشروع فهم للمكسيك ونحن نستخدم المطبوعة عمودا لحضارة البلاد. في غضون عشرين عاما عملنا على نشر ما يزيد على 190 رسماً. تطرقنا أحيانا الى مواضيع لم تكن مألوفة في بلادنا، كما الفن الحديث. "فنون المكسيك" أكثر من مجلة. هي مشروع ثقافي. في فرنسا، درست زوجتي تاريخ العقليات، وتمعنّا معاً في ما ينقص المكسيك واستنبطنا مشروعا قيّما، تصميما ومضمونا، أضاف متعة فهم المكسيك الى متعة التأمل فيه.
 
* عن النهار اللبنانية  السبت 03 أيار 2008
*ضياء
7 - مايو - 2008
لغة الإشارات : غوستاف يونغ    كن أول من يقيّم
 
لغة الإشارات
كتبها بالبرتغالية: باولو كويلو
ترجمة : عزة طويل
 
ظلّ كارل غوستاف يونغ، مؤسس نظرية التحليل النفسي الحديث، يردّد باستمرار: نحن البشر نشرب جميعاً من المنبع عينه. ولتعيين ذلك، سعى يونغ الى تطوير نظرية تعود في الأصل الى قدامى الخيميائيين، هم أول من قال بها وسمّى هذا المنبع روح العالم (الأنيما موندي).

تأسيساً عليه، يرى يونغ اننا كأشخاص نسعى دوماً الى الفردانية. على الرغم من أن جزءاً من ذاكرتنا يبقى مشتركاً، فكلنا يبحث، وبصرف النظر عن الديانة أو الثقافة، عن المثال في الجمال، في الرقص وفي الموسيقى، وإن كانت المؤسسة هي ما يعيّن كيفية تجسّد هذا المثال في واقع الحياة. تمثيلاً على ذلك، تبدو الرشاقة اليوم النموذج المثالي للجمال، تماماً بخلاف النموذج الذي شاع قبل آلاف السنين، حيث صُوّرت الآلهة الأنثى بأجساد ممتلئة. فضلاً عن أن المؤسسة هي التي تحدد مقاييس السعادة: فمثة مجموعة منها قد يأبى وعيُنا إدراكَ سعادتنا ما لم نتّبعها، علماً بأنها ليست مطلقة بل هي قابلة للتغيّر من جيل الى جيل. لذا صنّف يونغ التطور الفردي في أربعة أطوار: أولّها البرسونا، وهو القناع الذي نلبسه كل يوم لنقنع بادّعاءاتنا ونصدّقها. نحن ننطلق من اعتقادنا أن العالم وقفٌ علينا. فنحن أهلٌ عظماء، ولا ينبغي لأبنائنا أن يظنّوا انعدام العدالة في المؤسسة أو أن حلم البشرية لا يسير وفق ما يرتجون، أو أن عليهم أن يصرفوا حياتهم في الترحال. فبعض الناس ممن يجتهدون في فهم ما هو مُشكل، قد لا يحصدون في النهاية سوى الظلال.

الظلال هي جانبنا المظلم، وهي ما يملي علينا كيف نسلك ونتصرّف. حين نحاول أن نبرأ من البرسونا، يشعّ ضوء في داخلنا فنشهد خيوط العنكبوت المتعلّقة بالجبن والشحّ. فالظلال وُجدت في الأصل كي تعوق تطوّرنا– وهي تنجح عادةً في ذلك– ونعود الى أولئك الذين يسابقون الشك ليجاوزوه. في الآن عينه يحاول البعض متابعة الصراع في وجه خيوط العنكبوت، يقول الواحد منا: "نعم، لديَّ بعض المساوئ ، لكنني مؤهل وأريد المضيّ قدماً". عندذاك تمّحي الظلال ويتم الاتصال بالألما.

في اشارته الى الألما، لا يقصد يونغ الدين انما يعني بذلك العودة الى روح العالم، الى منبع المعرفة، حيث الغرائز تصبح أشد حدّة والانفعالات أكثر جذرية والاشارات التي تبعثها الحياة تصير أهمّ من المنطق، وحيث لا يعود منظور الحقيقة صلباً. حينها، يصبح ردّ فعلنا حيال الأشياء التي ألفناها غير متوقّعوقد ثبت أننا اذا وجّهنا كل طاقتنا في اتجاه الاستمرارية، فلسوف يمكننا تنظيم هذه الطاقة ضمن مركز صلب للغاية، يسمّيه يونغ في حديثه عن الرجال "الشيخ الحكيم"، وفي حديثه عن النساء "الأم العظمى". وهو ما يعتبر حدثيةً خطرة. فأولئك الذين يبلغون مثل هذه القدرة لديهم على وجه العموم جنوح الى اعتبار أنفسهم قدّيسين ومعلّمي أرواح ورسلاً. لا يقتصر استخدام هذه الأقنعة الأربعة على البشر فحسب، فالمؤسسات تستخدمها أيضاً. فللحضارة الغربية برسونا، أفكارٌ تسيّرها حتى لتبدو هذه الأفكار كأنها حقائق مطلقة، غير أن الأشياء محكومة بالتغيّر. وفيما نحن نسعى للتأقلم مع التغيّرات نرى في الحوادث الكبرى على المستوى العام مجالاً لتوجيه الطاقة الجماعية نحو الخير والشر (الظلال).  ثم بغتة، ولسبب ما، ينقطع ما بين البرسونا والظلال، فالزمن تقدّم وثمة قيم جديدة بدأت بالظهور (وهذا يدخل في خانة الألما).

في نهاية هذه العملية، ومع الانخراط في وضع قيم جديدة، تعود البشرية جمعاء لتتواصل مع لغة الاشارات (الشيخ الحكيم).

هذا بالذات ما نعيشه اليوم، وما يمكنه أن يدوم بعد لمئة أو لمئتي سنة. لكن الأشياء تتغيّر نحو الأفضل.
 
*عن النهار اللبنانية السبت 31 أيار 2008
*ضياء
31 - مايو - 2008
لوكليزيو، كاتب التجوال الثائر على الغرب المادي ..    كن أول من يقيّم
 
 
باريس: اختارت الاكاديمية الملكية في ستوكهولم بمنحها جائزة نوبل للاداب للعام 2008 الى الكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لوكليزيو، تكريم احد كبار اسماء الادب الفرنكفوني المعاصر صاحب نتاج ادبي غزير ينتقد فيه الحضارة المدينية العدوانية والغرب المادي. يروى لوكليزيو باسلوبه الصافي والبسيط الوحدة والتجوال وهو الذي لم يحط رحاله بل بقي كالبدو هائما على وجه الارض. يحتل هذا الكاتب المعروف منذ سنوات موقعا فريدا في فرنسا حيث يحظى باحترام واعجاب منقطعي النظير وهو من الادباء القلائل الذين تلقى كتبهم اقبالا كثيرا وتبيع اعدادا كبيرة مع حفاظها على معايير ادبية عالية. احتفظ لوكليزيو رغم بلوغه الثامنة والستين بمظهر فتى شاب بقامته الممشوقة وعينيه الزرقاوين وهو ليس متوحدا بالقدر الذي يقال احيانا لكنه خفر متكتم ومقل في كلامه وحين يتكلم يختار كلامه بصفاء ووضوح وثقة.
لقب ب"كاتب الترحال" و"هندي في المدينة" و"الاحدي الرائع" نسبة الى المذهب الاحدي القائل بوحدة الوجود، وكلها القاب تشهد على شغفه بالطبيعة وبالثقافات القديمة والفضاءات البعيدة، الى حد انه ابتكر في اعماله عالما من نسج خياله حيث حضارة المايا تتحاور مع هنود الامبيرا البنميين، وبدو الجنوب المغربي يختلطون بالعبيد الهاربين من جزيرة موريشيوس.

البحث عن المغامرة
ترجمة: د. محمد قصيبات

يسقط الليل، ومعه تستيقظ ذكرى الرجال الرّحل، ذكرى أناس الصَحراء وأناس البحر. إنّ تلك الذكريات تطارد الفتاة في الزمنِ الذي فيه تدخل إلى الحياة، الحياة التي هي عندها مثل جنيّة مجهولة الشكلِ والعوالم.
لعل الفتاة تحمل في داخلها ـ دون أن تدري ـ ذكريات رامبو وكرواك، أو حلمَ جاك لندن، أو ربما وجهَ جان جينيه، أو ربّما حياة مول فلاندرز، أو نظرات ناجدا الشاردة في شوارع باريس.
الدخول في عالم الكبار هو هكذا، صعبٌ ومرٌّ، حيث تحملها الطرقات جميعها إلى المكان ذاته والحدود ذاتها، وحيث تبدو السّماءُ في مثل تلك المسافات وتصبح الأشجارُ عمياء بلا عيون، وحيث تتغطى الأنهارُ الواسعة بطبقاتٍ من الإسفلتِ الرّماديّ، وحيث تتوقف الحيوانات عن الكلام ويفقد الناسُ لغة الإشارة.
الفتاة، في عامها الخامس عشر، تصعد في بطء الطريق التي تنقلها كلّ يوم إلى المدرسة، الطريق التي تتلوىّ بين أجراف المباني، إنها تمشي وسط صخب الشّاحنات والعربات التي تذهب في كل الاتجاهات.
هذه الفتاة تفكر: ربّما اليوم، سوف أصل إلى القمّة ثمّ إلى الجانب الآخر، وفجأة سوف لن يكون ثمّة شيء، لا شيء غير حفرة هائلة في اتّساع الأرض.
في الظّهيرة، تمشي الفتاة في الزّحام، تمشي وكأنها تركت المدرسة ساعات، ساعات سرقتها من مدرّس الرياضيّات العجوز، ومن مدرّس العلوم الطبيعيّة، ومن مدرّس التّاريخ والجغرافيا، أو كأنها قطار كبير غطّاه الصدأ قفزت منه ذات صباح لتنزل إلى نهايةِ الأرض، هناك في البعيد، في هافر أو روتردام، أو ربّما في يوكوهاما.
إنها تمشي، وتبحث في العيون الّتي تلتقي بنظراتها عن شيء لا تعرفه، لعلّه إثارة النفس، لعلّه ومضة جديدة، مثل تلك التي تجيء في لحظات ما قبل الابتسام والكلام، اللحظات التي يحملنها إلى حياة أخرى. أو ربّما في منتصف الليل، وهي تلبس معطفها الجلدي الذي كُتبَ عليه بحروفٍ من نار. الليلة الباردة تبعث القشعريرة في جلدِها، فيومض الليلُ مثل السبج في عينيها، وينمل بالأضواء والنجوم وإشارات المرور الحمراء، وبالأسماء المكتوبة على النيون، وبأسماء تبعث الخطر، أسماء تحمرّ في أعماق الحياة وتقول:
CHANGE Maccari & Franco
HASARD
LOCUST
SOLEDAD
في الليل، تمشي الفتاةُ وحيدة وينبض قلبُها في نظم الكلمات القادمة من البعيد … رغبات مجنونة … إنها تبحث عن صورةٍ، عن ومضةٍ أو انعكاس.
الفراغُ في أعماقها فيه نافذةٌ تدق، وفيه تهبّ ريح.
في أعماقها، يتحسّس خفّاش طريقه، وفيه ينبض قلبُها …ينبض …وينبض..
هي لا تعرف عمّا تبحث، ولا لماذا الموج ينفطر على ظهر المدينة، ليفتح الأفق أبوابه اللامتناهية إلى ما هو أبعد من الطّرقات التي تلفّ المدينة وإلى ما هو أبعد من السّاحات.
ترى ماذا هناك في الجانب الآخر؟ هل نحن خالدون في ذلك المكان؟
ولكن الصّبيّة تذكر أن أزمنة الترحال هي أقوى من كلّ شيء، وفي كلّ مساء، تجعل هذه الأزمنة قلب الصبيّة ينبض، تجوع، إنها ذكرى أزمنة أراباه والشّايين ولاكوتا وتكساس.
إذن ليس ثمّة جدار، ولا أسماء، ولا أرقام.
ليس ثمّة حاجة للرّخصة، ولا لملفّات الشّرطة، ولا لكتيّب العائلة، ولا لمحرّري العقود، ولا لطوابع الدّمغة، ولا للصّور، ولا للبصمات في مراكز الشّرطة، ولا للسّوار الذي نعلّقه في رسغ المواليد وفي أقدام الموتى.
أرتفع القمرُ عالياً فوق الجبال، عواءُ الذئب يدفعه، كانت عيون السّماء برّاقة والقمر بارداً وكبيراً.
تمشي الصّبيّة في عامها الخامس عشر إلى مفارق الطّرقات …تحسّ بالليل على صدغيها، وعلى وجنتيها، وتلصق بيديها الباردتين فوق عينيها، وتسمع خطواتها التي تدوّي في الجسد. إنها لا تعرف عمّا تبحث ولا تدرى ما يأخذها. ربّما ثمّة أحد في إثرها، ربما ذئب أو حيّة أو عفريت، هناك وسط الظلمة، أو في زاوية الأبواب، أو في الممرّات.
في البعيد، ينسحب بساطُ الطّرقات الحمراء مثل الحمم، تتداخل موجات الصّوت وينطح بعضها بعضا …عواء ذئاب مسعورة، وصدى الكلمات القادمة من البعيد، من جسد الأزمنة الغابرة، ثمّة من يدفع الصّبيّة إلى الطريق، ملصقاً يديه خلف كتفيها …يدفعها، وهي تجهل أين أبواب الليل.
يحلم الأطفالُ ملتفّين مثل قنافذ شتويّة. إنهم يسمعون الوحوش تزأر والذئاب تعوي، إنهم يتذكرون.
ألا يوجد في أقبية المباني عصابات العالم السّفلي مثلما في قديم الزّمان ؟
ألا ترى هي الأرانب البرّية التي تأكل الموتى؟
ألا تسمع وسط الممرّات المظلمة ضربات أقدام البرابرة الذين يأكلون الخيل ؟
ألا ترى سيوفهم التي تتلألأ في نور القمر ورماحهم التي ترقى إلى نجم السّماء؟
أنها تحسّ بأنفاسهم فوق وجهها وببرودة نظراتهم، وتحسّ في قلبها بضربات خيولهم، خيولهم الليليّة، مثلما تحسّ بلمس الأعشاب في وجه الرّيح.
لكي ترى هذا، ولكي تسمع هذا، تخرج الصبيّة من غرفتها آناء الليل، تلبس “جينها” الأزرق ومعطفها الجلديّ اللذين هما درع لها، تخرج الصّبيّة عبر المزاريب وتهرب من ثنايا طفولتها المخمليّة، ومن عشّها الورديّ، ومن وساداتها المزركشة … تترك خلفها رائحة الطفولة، وألبوم الصّور، وصدف البحار على الشّواطىء المبلّلة بالمطر، إنها تهرب من النعاس الذي يقترب نحوها مثل شبكة من الأنهار الهادئة.
إنها تذهب لأنّ أمامها، هناك في نهاية الطّريق، حفرة في أتّساع الأرض تناديها، ثمّ هناك الأسماء التي أمام عينيها :
Emporio MARB LE MEMO
Anvers-sur-Oise
RIVE Arthur
Saturne
تظهر أمامها الكلماتُ وكأنّ لكلّ كلمة منها سرّاً… سرّاً ملفوفاً في ثناياها، يتحرّر بين اللّحظة والأخرى رافعاً رأسه مثل أفعى … مثل برق.
الليلةُ الباردةُ تبعث بقشعريرة في جلدها، الليل لباسٌ لها، والسّماء تلتصق على وجه الأرض، ويقطع المقصّ عقدة القماش وخيوط الأحذية وحلقات الحزام.
الليلة عارية، لقد سقطت الأقنعة وذابت العلامات وتمزّقت الأعلام، وسقطت كتبُ القانون… يطويها الليل الآن ويمحوها، وتنكسّر المدينة مثل موجة تتحطّم على الصّخور، وتتجرّد جذور المباني من أغطيتها، نرى أمعاءها وبطونها، ثمّ يحطّم الصمتُ عقارب الساعات، تدخلها البرودة. تحسّ الصّبيّة بالليل فوق وجهها، وفوق جلدها، وفوق صدرها، تصبح مسام جلدها عيونا، فتحسّ كلّ تلك النجوم، وكلّ هذه الكلمات، وكلّ النظرات التي في انتظارها، إنها تمشي وسط كفّيها فتسمع قلبها يقفز في وسط المكان، وفي حلقها، وعقلها، وفي حبلها السّريّ، إنّها تحسّ بتدفّق الدم الّذي يرقى في داخلها.
في غابةِ الليلِ، لم تكن تعرف أنّ الذئبَ كان في انتظار …عند البوّابة أمتدّ ظلٌّ طويلٌ، أخذت تجرى، تقطّعت أنفاسها، لحقها، احترقت الأشجارُ، أرتفع العواءُ، حملته الرّيحُ إلى البعيد، أرتفع القمرُ، ها هو القمر يركب فوق الأشجار، ها هو الآن فوق أكتاف المباني الزّجاجيّة والنيون.
إنها لا تعرف معني الذاكرة، فليس خلفها شيء، ولا في اسمها شيء، ولا في لعابها شيء، يغطّي الليلُ جلدها، ويسكن بصمات أصابعها.
هي لا تعرف من يتبعها، ولا ما سوف يتبعها، لعلّ ما تسمع هو موسيقا قادمة من البعيد، أو لعلّه صراخ زنجيّة قادم من الغسق …يتمزّق جوفها، وتسقط على التّراب طفلة مصبوغة بدم السّنين، تتألّق مثل نجمة، يسيل اللّبن ويرسم طريقه في السّموات نهراً… نهراً أبيض من فم الصّغيرة ! تطول السّاعات حتى يتفجّر النهار، وتستيقظ الشّمسُ الحارقةُ، تنطلق القافلةُ من جديد …وجوه الرّجال مشدودة. كبر الأطفالُ، يتأوّه الشيوخُ مثل الصغار، في السماءِ ثمّة طيور في انتظار الفريسة، الثّعالب حول المشيمة التي أخرجت من التّراب.
إنها تمشي آناء الليل في لباسها الضيّق، عيناها قاسيتان.
تنشقّ المدينةُ مثل موجة تتكسّر على الصخور : الشرّ في كلّ مكان، في ممرّات النزل الرّخيصة، وفي قصور العاج والزّجاج، أجساد النساء العاريات على الجدار، أعين الرّجال مفتوحة باتّساع القمر، ” اقتلوا، اسرقوا، انهبوا، تمتّعوا !”، أقدامهم الآن في الجحيم، من جهةِ المدينةِ تخرج المقاطع اللفظيّة واحدة واحدة، تمتمات، تأخذ طريقها إلى الضواحي، تجري كالبهيمة، تعوي وتنزب مثل حيوان المجازر.
في الليل، تخاف الفتاة ذات الخامسة عشر عاماً. إنها تسمع خطواتها، وتحسّ بالرّيح فوق الجسد، لكنّها تتقدم دون أن تعرف عمّا تبحث، ولا من يبحث عنها، ترى هل تبحث عن اسمٍ، عن يدٍ تحملها، عن صوتٍ يتموّج فيها حتّى الأعماق؟
القمرُ مضيءٌ يكاد يكون مصباحا، يتلألأ الليل فوق الجليد، لقد تجمّد عواء الذئب، هاهو معلّق في أنيابه مثل لعاب تجمّد من فرط البرد.
من المكان الذي هي فيه، تستطيع الصّبيّة أن ترى قلب المدينة المحمرّ، لكنّها لا ترى السّماء، ولا ترى الشّياطين ولا الموتى الأحياء، إنها لا ترى سوى القتلة والمدمنين.
لم يتغيّر شيء، مازال الرّحل في مكانهم، أناس صحراء التّراب وصحراء البحر، ويرسم الناس تحت السّحب التّائهة آثارهم بدوائر من الأحجار، وبقطرات من النحاس فوق جلودهم … خرج الذين يلبسون أقنعة الظباء وأجنحة الفراشات من حلمهم.
على الصّبيّة أن تدخل الحياة بعد أن تترك غرفتها، إنها تعرف ذلك، تراهم، تسمعهم، هم في داخلها، يخرجون من نظراتها، هي صنعتهم، وهي لا تعلم شيئاً، لا تتذكّر شيئاً، جسدها قاس مثل الليل، عيناها، صدرها، كتفاها، شعرها أنهارٌ من الفحم، تسيل هي إلى الخارج في أبيات رامبو، تخرج أمام الذين ينظرون إليها، وتذهب إلى من ينادي، يكبر في أحشائها الجوع … الجوع إلى الحياة بخيرها وشرّها. في الليل تسمع صوت الماجورانا والمالاقينا، الآلات التي تغني باسمها، مرة ومرّات، إنّها هي، تعود إلى شعبها في صحارى البحر والتّراب، إلى شعب الكهوف والوديان والغابات والأنهار، إنها تتسلّل إلى الليل، ها هي الآن في نهايةِ الطريق، في حفرةٍ باتّساع الأرض والسماء … إنّها الآن مثل طائر طليق..
الترجمة نشرت في "منتديات اتحاد كتاب الانترنت العرب"
وتعبق اعماله المترجمة الى لغات كثيرة بتوق الى العوالم الاولى البدائية وكان حتى الثمانينات كاتبا مبدعا طليعيا وثائرا عالج في كتاباته الجنون واللغة والكتابة قبل ان ينتقل بعدها الى اسلوب اكثر هدوءا وصفاء تصدرته مواضيع الطفولة والتوق الى الترحال والاهتمام بالاقليات فطاول جمهورا اوسع.
ولد لوكليزيو في 13 نيسان/ابريل في نيس جنوب فرنسا في عائلة هاجرت الى جزيرة موريشيوس في القرن الثامن عشر، من اب انكليزي يعمل طبيبا في غابات افريقيا وام فرنسية. وبعد ان حاز اجازة في الادب، عمل في جامعة بريستول ثم جامعة لندن وفي السبعينات سافر الى المكسيك وبنما حيث عاش عدة اشهر مع الهنود وقال هذا الثائر الكبير الهادئ القلب والذهن "هذه التجربة بدلت حياتي وافكاري عن عالم الفن وطريقة تصرفي مع الاخرين، كيف امشي وآكل وانام واحب وحتى احلامي".
وصف البعض اسلوبه ب"الخيال الميتافيزيقي" حيث ان كتابته الكلاسيكية والبسيطة تهز في الواقع اسس الادب التقليدي وتعيد النظر فيها بدون التوقف عند القشور بل ساعية دوما الى "الغوص عميقا مستكشفة لب ما هو مأساوي وحقيقي بحثا عن اللغة المؤثرة التي تحرك المشاعر وربما تحول الليل الى ظل". قال يوما "يخيل لي انني شيء صغير على وجه هذه الارض والادب يساعدني في التعبير على ذلك. ان جازفت وتسللت الى مجال الفلسفة، اقول انني اشبه بمسكين من اتباع روسو لم يفقه شيئا".
اشتهر لوكليزيو في سن الثالثة والعشرين عند صدور روايته  (المحضر) التي حصلت على جائزة رونودوه، احدى ارقى الجوائز الادبية الفرنسية. وتعاقبت بعدها الاعمال من روايات ومجموعات قصصية وابحاث ومنها  (الحمى) و (النشوة المادية) و"تيرا اماتا" و (كتاب سبل الهروب) و"لا غير" (الحرب) و(الباحث عن الذهب) و" (الفيضان) و (رحلات الى الجانب الاخر) و (رحلة الى جزر رودريغ) و (النجمة الهائمة) و"دييغو وفريدا" و (ثورات)، وتبرز من بين رواياته كلها رواية "ديزير" (الصحراء)، وصولا الى روايته الاخيرة الصادرة عام 2008 بعنوان  (لازمة الجوع).
يعيش لوكيزيو منذ فترة طويلة مع زوجته جمعية المتحدرة من اصل صحراوي مغربي وابنتيهما في البوكيرك في نيومكسيكو بالولايات المتحدة. يقال انه لا يقرأ الصحف ولا يستمع الى الاذاعة غير ان ذلك لا يعني انه منقطع عن فرنسا فهو غالبا ما يزور مدينة نيس ومنزله في منطقة بريتانيا شمال غرب فرنسا من حيث تتحدر عائلته. ويقول لوكليزيو "ان كان ما زال في وسعنا التحدث عن فرنسا اليوم ورؤيتها ماثلة عند تقاطع التيارات، فذلك بواسطة اللغة والكتب".
 في ما يلي اسماء الفائزين في السنوات العشر الاخيرة بجائزة نوبل للاداب التي منحتها الاكاديمية الملكية السويدية اليوم الخميس للكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو :
- 2008 : جان ماري غوستاف لو كليزيو (فرنسا)
- 2007 : دوريس ليسينغ (بريطانيا)
- 2006: اورهان باموك (تركيا)
- 2005: هارولد بينتر (بريطانيا)
- 2004: الفريدي يلينيك (النمسا)
- 2003: جون ماكسويل كوتزي (جنوب افريقيا)
- 2002: ايمري كرتيس (المجر)
- 2001: في.اس. نايبول (بريطانيا)
- 2000: غاو كسينجيان (فرنسا)
- 1999: غونتر غراس (المانيا)
 (أ. ف. ب.)
 
 
 
*إيلاف
*abdelhafid
10 - أكتوبر - 2008
الانتماء الى أكثر من عالم واحد..    كن أول من يقيّم
 
عدنان المبارك


سؤال بالغ القدم: هل بمكنة الوعي أن يكون ذا كيان مستقل تماما؟ أيعني ذلك أمرا شبيها بما يسمى الكينونة الصرفة التي هي غير مرتبطة بالجسم ولا العقل؟ إذن أهي شيء قائم خارج الزمكان كإسقاطات للعقل؟
العقائد الدينية ترى الوعي مرتبطا بالنفس. في أنظمة الإيمان الهندية يتطابق الوعي مع المطلق (براهمان)، وهو في الهندوسية بعدٌ لا شخصي للمطلق، وفي الفشنوية يتغلغل المطلق في كامل الخلق المادي ل(الإشراق). أكيد أن للمطلق صفة الأبدية. أما الغورو/ المعلم الكبير آدي شانكارا فبأعتقاده أن (براهمان) هو واقع غير مرئي، أبدي، ثابت. ونحن نجرّبه عبر الزمن والتعددية والتبدل. إلا أن معرفته لا تأتينا بها التجربة. المعرفة الحقيقية عنه بمقدورنا كسبها حين نفقه بأننا محض أجزاء منها وليس أفرادا مستقلين...
لأمد غير بعيد إعتبر تكامل النفس المرادفَ النموذجي للصحة النفسية. فهو حالة العكس لتشظي الوعي أي المرض النفسي الأكثر شيوعا: الشيزوفرينيا. إلا أن أطباء النفس وجدوا مثل هذه التسمية خاطئة، فهناك عشرة أنواع ونيف من الشيزوفرينيا. وكان أندريه جيد قد ذكر بأن غالبية أفعالنا تمليها وليس القناعة من أننا نقوم بها بل ضرورة محاكاة أنفسنا وإطالة ماضينا في مستقبل. أما أوسكار وايلد فكان يحلو له ترديد أننا نكون أشد إخلاصنا للنفس حين ينتابنا التردد وإنعدام الحزم. معلوم أن كلا من هيرمان هيسه و لويجي بيرانديللو كانا قد شككا، في مؤلفاتهما وغيرها، بصحة الحكم على الإنسان من خلال صورة نفسية واحدة وحصره بدور إجتماعي واحد أيضا. و يكفي النظر هنا الى أبطال الإثنين. أما فرناندو بيسوا فجسّد أفضل من الآخرين حقائق لاتكامل النفس والشخصية. وسأكرس له الجزء الأخير من هذا النص.
معلوم أن يونغ تكلم طويلا عن (اللاتكامل الإيجابي) ولأن التكامل التقليدي هو محض وهم في أغلب الأحوال ويجيء نتيجة لخفض الحاجات التي لايقبلها محيطنا. وعموما لايملك الإنسان في الأنظمة القائمة على المرجعيات، أي الشمولية بشتى أصنافها، فرصة الإرتقاء الإجتماعي إذا لم يسد الطريق أمام حاجات الحرية. ومعروفة هنا حقيقة أن قمع المشاعر العليا هو الإمكانية الوحيدة للبقاء الناجح أو العادي. في الحقيقة نجد هذه الآلية في المجتمعات المسماة بالديمقراطية أيضا، في الوسط العائلي الذي لا يعرف كيف يربي الطفل. فالبكاء هنا فعل غير لائق ويجب سد الطريق أمامه، إلا أن هذا البكاء باق في الجسم بتلك الصورة اللاواعية التي تنتظر التفعيل...
ولتلبية مطاليب المرجعيات على الإنسان أن يحمل الأقنعة التي تعني بأنه قد تكيّف مع وسطه. والقناع شبيه بإبتسامة تعرضت للجمود، فهو يستر مشاعر الحزن و الغضب و الخوف ويطرح صورة أخرى: حامل القناع شخص (مقبول). إلا أن كل هذا يخص المظهر، ففي الداخل ثمة ضغط قاس على أجهزتنا ودفن عميق لمشاعرنا المؤلمة (أثبت الطب أن مثل هذا القمع يسبب أمراض القلب والسرطان...). وكل هذا لا يعني نفي حقيقة أن داخلي يحوي حالة من التوتر الذي لا يمكن إزاحته. ونحن مخلوقات تملك عوالما متنوعة في داخلنا، أو كما يفيد الطب النفساني هناك طبقات من الأنا تحقق إستقلالها مما يعني الإنتقال الى حالة اللاتكامل. والأساطير تتطرق أيضا الى هذه الإشكالية: في أسطورة أورفيوس يكون زيوس أب البشر. وكان قد خلقهم من رماد عمالقة أحرقتهم الصواعق إنتقاما على قتلهم إبنه ديونيزوس. وتقول الأسطورة إنهم لم يكتفوا بقتله بل أكلوه أيضا. بهذه الصورة إكتسبوا بعض صفاته. ومعروف هنا الإعتقاد بأن فينا نوعين من العناصر: الطيبة (الديونيزوسية والروحية) والشريرة (التيتانية والجسدية). أورفيوس نفسه كان ضحية جنون المشاركات في إحتفالات باخوس، ووفق مسرحية يوربيديس المكرسة لهن، وخلافا لما جاء به سقراط، يكون هذا العنصر الجسدي هو المسيطر على حياتنا. معلوم أن هذا التفكك الثنائي الأساسي تناوله أكثر من فيلسوف يوناني، وبعدها صار أساس أدبيات القديس بولص- العمود الفقري للمسيحية. فسوية معه تجذرت هذه الثنائية في الثقافة الأوربية الى درجة أن باسكال كتب بأن بعضهم على إعتقاد بإمتلاكنا نفسين. وقد يفسر هذا عذابه الديني الذي واصله في القرن التاسع عشر سورين كيركيغورد الذي إعترف بثنائية الطبيعة البشرية، الثنائية التي لا ُتهزم. وكما كان يقول الرومانسيون إن المقصود ماهو أرضي وماهو سماوي، وبعدهم جاء فرويد كي يذكرنا بتلك الصورة الدرامية بالنزاع الأبدي بين منطقتي الثقافي واللبيدو...
صارت معلومة الأسباب التي تدفع الوعي الى تجاهل اللاعقلاني في الشخصية. والأمثلة كثيرة في الطب والأدب، على النزاعات بين شتى شخصياتنا. ومعروفة هنا تجربة كارل يونغ مع قريبته التي كانت تتكلم عبرها شتى (الأرواح). روحان بالضبط: روح تلك القريبة الدميمة، الخجولة، قليلة الذكاء، وروح الثانية العاقلة وقوية الشكيمة.
هناك حالات كلينيكية كثيرة تكشف عن التأثيرات المتبادلة بين الحالات النفسية والجسمية. طبيبب من شيكاغو إكتشف14 شخصية لدى فتاة إسمها ساره. سارة كانت مصابة بالسكري إلا أن إحدى شخصياتها تخلصت من هذا المرض أثناء (تسلطها) على سالي. أكيد أن لهذه الحالات صلة وثيقة بظاهرة تناسخ الأرواح التي تنبع وليس فقط من عقائد البوذية. والطب النفساني أثبت بدوره أن الجسم محض اداة تسيطر عليه تلك الأحوال اللامادية والمستقلة عنه. معلوم أيضا أن مجتمعات بدائية معينة كانت تعرف آليات هذه الظواهر، وسحرتها برعوا في تقنيات الإيحاء المغناطيسي بالإستناد إلى معرفتهم العميقة بموضوع ظاهرة التعددية في الشخصية. السحرة / الكهنة هؤلاء يعرفون كيف هو تحرير الإنسان من هيمنة هاجس معيّن يحمل إسما آخر في كلينيكات الغرب: الشيزوفرينيا. وقد يكون مقنعا التفسير القائل بان أرواح الموتى تلتحم بالكائنات الحية وتفرض عليها ذكريات من حياتها الأرضية السابقة...
والآن أيّ صورة من صور هذه المرايا هي الحقيقية؟ من الصعب الوصول الى الجواب، فالغموض يلف كل شيء هناك، تماما كغبار القتال الذي يحول دون رؤية أطرافه والتمييز بين واحد وآخر...
كان فرناندو بيسوا مدركا تماما لوفرة ما في نفسه من شتى الشخوص. وقد وجد أنه بدون هذه الوفرة، بدون الإبتكار الذي لا ُيكبح جماحه، إبتكار الكينونة وبمعزل عن إختراع الوجود الخاص من جديد، لاتكون الحياة سوى إيماءة ضئيلة القدر في تواريخ عالم يملؤه الضجيج. ولربما أعظم أفكار البرتغالي هي: المطابق لنفسه وحدها لاوجود له على الإطلاق، والذي يحيا في الخارج وحده - في العالم، إنما يحيا حسب لكنه غير كائن أبدا. والذي لا يتطابق مع النفس يتعذب. إذن كيف السبيل الى الجمع بين متطلبين وجوديين، والحاجة الى أن تكون شخصا آخر غير أنت، والأخرى: الحاجة الى الحياة الداخلية؟ بيسوا يقترح الحل التالي: أن تكون كائنا حقا في العالم هناك سبل عدة في داخلك. هناك وضع واحد إذا أردت الصدق مع النفس وهو أن تنسى، أن تبطل، أن تخون. بإختصار: هذا الوضع ينشأ حين تخترع النفس...
يعكس التقليد الفرداني في أوربا الإيمان بأنه يعجز الكلام عما هو فردي. طيّب، أنا موافق، وكأن بيسوا هو القائل، لكن كي تعبّر عن النفس عليك أن تشطرها، أن تتخلى عن فرديتك بأطرها الصلبة وإندياحاتها الخصوصية، يجب الكف عن أن تكون ذاتك. وطالما أن الوجود هو (عقلاني) قائم على(بديهيات) مثل السبب والنتيجة، فعلى هذه الأنا البيسوائية أن تتشظى وتتضاعف وتنقسم كي يمكنها الجهر. وعن الشيء الذي هو ممتلك (بفتح اللام) تماما ينبغي السكوت ولأن لا أحد يفهم هذا الأمر. إذن ينبغي فلق الذات من الداخل وإخراج المصطلح الخاص بك ومنح وجودا خاصا به كي يمكن طرح كل شيء عن ذاته. وهي ليست مسألة من مسائل الشعرية إذا كانت أعمال بيسوا تنطق بمثل هذا العدد من الأصوات بل هي مسألة الكينونة. أليس هو القائل: „ ولأني شخص آخر أنا أشعر بالسعادة “، “ الشخوص المخترَعة/ بفتح الراء / هي أكثر حقيقية من تلك الفعلية “. أظن أن بيسوا مسَّ هنا الجوهر. فمن يريد أن يكون ذا كينونة ويستهلك كامل إمكانية الوجود هو بالتأكيد أكثر كمالا من الآخر الذي تجسّد في إمكانية واحدة لاغيرها. أكيد أن الكتاب الذي وضعه فرناندو بيسوا هو أفقر من الأعمال التي خلقها كاييرو وكامبوس ورييس و شواريس والبارون فون تايفه وكل أعضاء تلك العصبة التي لاوجود لها. وفي (هيروستراتيس) يكتب بيسوا:
(لا ينبغي على أي أحد أن يترك وراءه عشرين كتابا “...”، وإذا كان قادرا على الكتابة مثل عشرين من الأشخاص المختلفين فهم يكونوا عشرين من المختلفين). برأيه إذا أردت أن تشعر بشيء جديد عليك أن تخلق فيك نفسا جديدة، فنفسك القديمة التي أنت متعلق بها قد ربطتك بأسلوب قديم من الإدراك. طالما لا تنسى نفسك سوف لن تجرب أيّ شيء جديد، وإذا لم ترد أن تكون عبدا لنفسك عليك بتغييرها (من المفيد معرفة أن أحد معاني كلمة (بيسوا pessoa) بالبرتغالية هو: “ لا أحد “...). واضح ان الإنسان العادي وحده من يتصرف بشخصية واحدة، من يعيش حياة نباتية تكون هي هدفه الوحيد. وهنا الفارق بين البيسوات وبينه. فهؤلاء يمارسون الحياة، رغم أنهم لا يطيقونها عادة...
في الثامن من آذار عام 1914 كانت قد نشرت الأجزاء الأولى من (كتاب اللاطمأنينة) مما كان حدثا حاسما في حياة بيسوا. ويكتب حينها بتلك الصورة المحمومة، ثلاثين وبضعة أبيات من (راعي القطيع O Guardador dos Rabanhos ). شعر حينها بأن من كتب الأبيات ليس هو بل شخصية غامضة منحها على الفور الإسم. بهذه الصورة يظهرلنا ألبرتو كاييرو Alberto Caeiro . وبعدها بسنوات يكتب الى صديق له: „ المعذرة على عبثية هذه الجملة لكن أستاذي ظهر فيّ “. وكان قد كتب، من دون تردد، وهذه المرة بإسمه، ست قصائد بعنوان مشترك (مطر منحرف Chuva Obliqua). بدا الأمر كأنه رد فعل بيسوا على (لامجهوليته) إزاء كاييرو...
عندما تم خلق كاييرو سرعان ما قرر بيسوا، وكما قال: غرزيا ومن دون وعي، أن يخلق له تلامذة: ريكاردو رييس (هوراسي الذي يكتب بالبرتغالية)، ونقيضه ألفارو دي كامبوس. بهذه الصورة تنشأ (عصبة غير كائنة) لا يشعر بيسوا بصحبتها بأنه وحيد. بهذه الصورة تخرج الى الوجود الهيتيرونيموسات heteronymouses البيسوائية الشهيرة. أكيد أن واحدها ليس بإسم مستعار ولا شخصية وهمية ولا ندّا متخيلا (هكذا فسر بعض كتابنا الشخصيات البيسوائية)، واحدها ليس كينونة تجريدية إخترعت لإيهام الآخرين (وليس كما فعل فاليري حين خلق مسيو تيست Monsieur Teste) بل هناك إسم يختفي وراءه (شخص آخر) له سيرة ومظهر وعقائد أخرى (مثلا كامبوس كان يشكك بوجود بيسوا نفسه !). الإختصاصيون الذين نبشوا في صندوق بيسوا (وكانت فيه 27 ألفا و 543 من الوثائق التي لايزال الكثير منها غير منشور) عثروا على 72 من تلك الهيتيرونيموسات...
في تلك الرسالة المعروفة الى صديقة أدولفو كاسايس من الثالث عشر من كانون الثاني عام 1935 يكتب بيسوا: (منذ أن كنت طفلا صغيرا شعرت بجاذب يدعوني الى خلق عالم وهمي حواليّ وأن أحيط نفسي بالأصدقاء والمعارف الذين لم يكن لهم أيّ وجود إطلاقا). وكان أول هيتيرونيموس بيساوي هو شيفاليه دي با
Chevalier de Pas الذي كتب رسائلا بالفرنسية الى فرنداندو بيسوا البالغ من العمر ست سنوات ! بعده ظهر على ذاك المسرح الغريب تشارلز روبرت آنون
Charles Robert Anon مؤلف نصوص مكتوبة بالإنكليزية ثم ألكسندر سيرتش
Alexander Search الذي أحتفظ فرناندو الشاب ببطاقاته الشخصية... ثم جاء أ. أ. كروس A. A. Crosse المروّج للثقافة البرتغالية باللغة الإنكليزية، وبشكل خاص كان ينقل إليها أعمال ألبرتو كاييرو ويعلق عليها (كان دي كامبوس قد كتب تعليقا على أحد هذا الأعمال...)
ومن الشخصيات البيسوائية الأخرى هناك أنتونيو مورا António Mora مؤلف العديد من النصوص الفلسفية المكرسة لموضوع الوثنية، ورافائيل بالدايا Raphael Baldaya المنجّم، شأن بيسوا نفسه، والمأخوذ بالغيبيات، مؤلف (رسالة في النكران) حيث تكون فرضيته الأساسية أن الوجود وهم، والرب هو أكبر كذبة. هناك أيضا البارون دي تايفه Baron de Teive الذي عرف بمؤلفه الصغير(تعليم الرواقي) الذي عبر فيه، شأن بيسوا أيضا، عن إحباطاته بسبب عجزه عن إنهاء أي عمل، وفي النتيجة يفكر بالإنتحار. وبعده تأتي ماريا خوزيه Maria José العاشقة (الحدباء) كاتبة رسالة الى عامل تشاهده كل يوم من نافذتها، إلا أن الرسالة لم ترسل. في الأخير يأتي المخلوق البيسوائي الأخير برناردو شواريس مؤلف (كتاب اللاطمأنينة)...
لم يكن بيسوا من الصنف الضائع في عالم مشكوك في فعليته بل كان من صنف آخر لم يشك أبدا في لافعلية كل شيء لكنه رغم ذلك واصل البحث وليس في الخارج بل في الداخل، داخله. كان يعرف أيضا بأنه بحث يقارب الفعل السيزيفي لكنه لم يتراجع أبدا، ولربما من بين الأسباب أن في رحلة البحث رافقه مثل هذا العدد الكبير من رفاق الطريق.
وكان قد دوّن في (كتاب اللاطمأنينة): (إذا كان يوجد في الحياة شيء علينا أن ندين بالفضل عليه للأرباب - عدا الحياة نفسها –، فهو هبة أننا لا نعرف النفس: لا نعرف النفس ولايعرف أحدنا الآخر)...

عن إيلاف GMT 6:00:00 2008 الأحد 5 أكتوبر
*abdelhafid
12 - أكتوبر - 2008
 2  3  4