اشتداد حرارة الأرض.. نذير الفناء وجعلنا السماء سقفا محفوظا (التنزيل الحكيم) ابيضت عين الدنيا, وامتقع لون الحياة, واضطرب الكون في سيرته, واختل النظام في هيئته, وهيهات هيهات يا قلبي هل تصلح الانسانية ما أفسدت, وترتق ما ثلمت?? . بلغ أكسيدها عنان السموات, وخرقت غازاتها أثواب الطبقات. أرأيت إلى كرة مكورة تدور آمنة في فلكها, مسترسلة في جريتها, معتدلة أجوائها, طيبة أهويتها, فإذا هي الحمم ترمي بالشرر, وإذا الأرض قمقم تغلي فيه أرواح البشر. ما الخطب جعلت فداك وعلام كل ذاك?? أيعرف أحدنا ما نحن فيه كما نحن فيه? أيدرك الفرد منا أنه من الكون سوى أنه الكون نفسه, ومن نظامه إلا أنه جزء من أجزائه, فهو لا ينفك عنه حيا وميتا, ولا يزال منه باقيا وفانيا.? أم أن المرء فينا مشغول بنفسه التي بين جنبيه, يرمي ببصره فلا يرى أبعد من متناهيات بدنه, وينظر من فوقه فلا يرى أسمى من قافية رأسه, وإلى تحته فلا يبصر إلا نسعة نعله? زه زه يا رجل.. سنة 1890 قام اليلمعي السويدي (سفانت أرينيوس) (من نوابغ أهل الكيمياء في زمنه)- يرج دنيا العلم رجا, ويقرع أذن الغفلة قرعا شديدا, منبها حس الانسانية وضمير العلم وأهله إلى اشتداد حر الدنيا, وتضاعف القيظ في الأرض أضعافا مضاعفة بسبب تعاظم غاز ثاني أوكسيد الكاربون في جو السماء تعاظما يزعج الخاطر, ويقلق الحدس, منذ ثارت الصناعة ثورتها, وكشفت للأمم عن ساقها(سنة 1750 للمسيح تقريبا). لكن صيحة العالم ذهبت في الأجواء مذهب الريشة الخفيفة تركب جناح العاصفة فتطوف بها أطراف الأرض ثم تذروها لتقع حيث تقع, فلم تلق أيامئذ آذانا صاغية وقلوبا واعية, واستبعد الخاصة والعامة لذلك العهد تأثير المصانع و المحروقات والغازات المنبعثة من وراء الوقود الأحفوري وتقليص رقعة الغابات- على جو السماء ومناخ الأرض. ولعل لهم وجه في قلة الاكتراث بفكرته, وخمول الانبعاث لدعوته, فالناس في غالب أحوالهم لا ينبعثوا للتحقيق في الأحوال الناشئة والطوارق الطارئة إلا إذا اضطرتهم الحاجة, وأحسوا بشدة الوطأة, وأدركوا حتمية القضية. ودار الزمن دورته, وخلعت الدنيا أثوابا ولبست أثوابا, وكفنت من عمر الدهر أحقابا, وتشعبت صيحة العالم إلى صيحات, وانقلب الحدس إلى شعور, وخرج الاحساس إلى علم, وتحول الشك إلى يقين, وأضحى الفذ المنفرد جماعة متكاثرة, وصار الرأي الشاذ إلى اجماع محكم. فاتسعت دائرة المفاوضة لتشمل البحوث الجامعية, والمواثيق الدولية, و المقالات العلمية في الجرائد والدوريات ونشرات الأخبار ومقررات التعليم ولا يزال العلماء والدارسون يفتشون في الأسباب والحلول العقلية للحد من تفاقم الحرارة واشتداد القيظ . وقد خصصت مجلة (التايم) الأمريكية عددها لهذا الأسبوع للتعريف بهذه الظاهرة الكونية التي أعضلت بالعلماء وغلبتهم على حيلهم, وألمحت المجلة إلى أمل الانسانية في تدارك الأمر, مقترحة على الآحاد والحكومات إحدى وخمسين حلا: من استبدال المصابيح العادية بالملوبة, إلى فتح النوافذ البيتية, وقد شحذت عقول فريق متفنن من عشرات الخبراء في شتى العلوم, من علماء البيئة إلى الحاذقين بالهندسة والرسوم البيانية. وتذكر مجلة التايم أن هذا هو اصدارها السابع الخاص بتنبيه الحس العام وايقاظ همم الغافلين, سبقته ستة اصدارات كان باكورتها عدد سنة 1987.(بيد أننا ندفع في قفى المجلة بهذا الاعتراض: إذا كانت هي قد ركبت جناح النعام حتى ألفت إحدى وخمسين وسيلة للحد من اشتداد الحر الجوي ولم تأل جهدا و لا مالا في سبيل النصح للانسانية وترشيد سلوكها العام نحو الأرض التي هي بيت البشرية الأكبر, فقد كان مجدرة بها أن تألف رأي خمسين ولاية وتسدده في سبيل حسم جرثومة الحرب الفاجرة التي لا يرتاب في أنها أساس عظيم في المشكلة. لكن المجلة لا تفتأ تأيد الحرب و تفتل للعموم الحبل على الغارب وتخلق الإفك حتى تلبس عليهم وتغرقهم في بحار من الأوهام. حقا إنه مقام حيرة وموضع عجب.) وجاء في بيان تعاضدت في اصداره سنة 2005 إحدى عشرة أكاديمية علمية وطنية (ليس منها أكاديمية عربية واحدة): '' لا يمكن التخلص من عنصر الشك في عملية فهم نظام معقد جدا كمناخ العالم. لكن يتوفر دليل قاطع على أن حرارة الأرض ترتفع فعلا ينتج هذا الدليل عن القياسات المباشرة لحرارة الهواء عند سطح الأرض وحرارة مياه المحيط دون مستوى السطح وكلاهما في ارتفاع, وعن بعض الظواهر كارتفاع معدل مستويات البحر وتراجع أنهار الجليد والتغيرات التي طرأت على عدد كبير من الأنظمة الفيزيائية والبيولوجية. من المرجح نسبة ارتفاع الحرارة بأغلبه في العقود القليلة الماضية إلى النشاطات البشرية.وقد أدى ارتفاع الحرارة هذا إلى تغيرات في مناخ الأرض.'' واختتم البيان كلمته بدعوة '' الشعوب بالتدخل فورا للحد من أسباب تغير المناخ وبالتكيف مع آثاره وبالتأكد من ادراج هذه المسألة في كافة الاستراتيجيات الدولية والوطنية ذات الصلة. '' ومخلقة بنا أن نشير إلى (اللجنة الحكومية الدولية للتغير المناخي) التي أنشأتها الأمم المتحدة سنة 1988 لترصد الوضع المناخي والجوي للأرض رصدا علميا وتقنيا ووضع الخطط ذات النتائج والغايات, والخوض في الأسباب والعلل وتبينها وتتبع العقد وفحصها وتقرير الحلول واختبارها. هذا وإنه من واجب الأجيال الحاضرة على القرون القادمة حفظ سقف الأرض وأجوائها وأن لا يتوانوا في أداء هذه الفريضة بما أتوا من علم ومال وعزائم وأفكار, حتى لو اضطرت الانسانية إلى الاستغناء عن بعض مظاهر مدنيتها وآلاتها وما هو بسبيل من ذلك. وإن الله جل شأنه قد جعل لهذه المدنية مخرجا حسنا, ولم يقصر أسباب الحضارة والرقي على النفط والغاز الطبيعي والوقود الأحفوري, وإنما جعل لنا غنية وفسحة في الطاقة المتجددة والتقنية وغيرها. وبعد هذا, فإن أكثر الناس يمر نظره على مثل هذا الكلام فإذا به يهز رأسه, ويحك لحيته, ويبرم سبلته, ثم ينبعث مترنما مع الموسيقار: انسى الدنـــيا... وريـــح بــــــالك |