مناسك الحج كن أول من يقيّم
مناسك الحج المتأمل في أفعال الحج يلحظ فيها كلِّها أنها تظاهرة كبرى اختار القدر زمانها ومكانها لدعم التوحيد وغرسه في القلوب ،وجمع الناس في المشارق والمغارب على معانيه . وقد بدأ بذلك سيدنا إبراهيم من قرون سحيقة : " وإذ بوّأنا لإبراهيمَ مَكانَ البيت ألّا تُشركْ بي شيئاً..." (الحج/26). وقد سمِعت بعضهم يقول في المناسك : إنّ الله اختبرنا بما نعقل فآمَنّا ! فشاء أن يختبرَنا بما لا نعقل . وهذا خطأ كبير ، فليس في أفعال الحج ما يناقض العقل !! هل في مطالبة العباد بتقدير البيتالأول على ظهر الأرض ما يناقض العقل؟ . قد تقول : فما معنى الطواف به ؟ وأجيب بأن الطواف صلاة تجب له الطهارة ، ويمتلئ بالتسبيح والتحميد والابتهال! إنّ هناك فارقاً بين ما يتواضع الناس على فعله إبرازاً لمعنى معين ، أو التزاماً بمبدأ معين ، وبين ما ينافي العقل ويحكم برفضه !. فنحن نكتب من اليمين إلى اليسار ، والأوربيون يكتبون من اليسار إلى اليمين ، والصينيون يكتبون من فوق إلى تحت ، فما صلة العقل بهذا الخلاف ؟ . ونحن وكثير من الناس نلتزم اليمين في السّير ، والإنجليز يلتزمون اليسار في السّير ، ولا صلة للعقل بهذا الخلاف. إنّ ما نتواضع عليه ونجعله مقروناً بدلالة خاصة لا يحكم العقل فيه بوفاق أو خلاف ، وأفعال الحج من هذا القبيل ، فنحن نزور أول بيت بنى حصناً للتوحيد . فلماذا تنكر قيمة الأوّلية هنا ؟ ولماذا لا ترتبط المساجد في القارات الخمس به ؟ "وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعِموا البائس الفقير" ( الحج/27و28). ومن الممكن بالوسائل الحديثة إطعام الملايين المحتاجين إلى اللحوم من أهل مكة أو من سائر المدن والقرى "والبُدْن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوافّ فإذا وجبتْ جُنوبها فكلوا منها وأطعِموا القانع والمعتر..." ( الحج/36). إنّ المناسك التي شرحتْها سورة الحج توكيدٌ إنسانيٌّ قويٌّ لمعنى التوحيد ، وحشدٌ للجماهير تحت رايته " ...فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزُّور * حنفاء لله غيرمشركين به ومن يُشركْ بالله فكأنما خرّ من السماء فتَخطَفُه الطير أو تهوي به الرّيح في مَكان سحيق ..." (الحج/30و31). وفي بناء الأمم صاحبة الرسالة لا بد من اختلاط تاريخها بعبادتها ، وذكرياتها بسيرتها ، وعواطفها بفكرها " ذلك ومَن يُعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " ( الحج/32). البلاء المقرون بالحياة البشرية منذ نشأتها بلاء معقد صعب : فإنه ما قام داعٍ للحق والخير إلا انتصب أمامه دعاة للباطل والشّر يريدون إبطالَ سعيِه ، وتعويق خطوه ، وتظل الحرب بينهما أمداً يستفرغ الجهد . وقد يأذن القدر فيهذه الحرب بهزيمة الحق ؛ لحكمةٍ عُلْيا.....والمستقبل غيب ، ولكن على المسلمين أن يُثابروا ويُصابروا ، فإنّ الكلمة الأخيرة لهم ، وليسمعوا مواساة الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم " وإنْ يكذّبوك فقد كَذّبت قبلهم قوم نوح عاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكُذّب به موسى فأمليتُ للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير" ( الحج/42-44). ثم تمتد المواساة لتكشف أن للزمن حساباً آخَر عند الله ، فقد يشهد جيلٌ الهزيمة ، ثم بعد عصور يشهد جيل آخَر النصر" ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون" ( الحج/47). |