لا بد علينا منذ البداية أن نضع ما تفضل به الجابري جانبا، ونوظف مفهوما جديدا نسميه بالعقل التداولي ، الذي يمر بثلاث مراحل أساسية طردا ومراحل الحضارة كما حصرها كل من ابن خلدون ، شبنغلر ، مالك بن نبي .والمراحل التي يمر بها العقل التداولي هي على النَّحو التالي : مرحلة العقل التابع ، مرحلة العقل المبدع ، مرحلة العقل المستكين.
1- العقل التابع
إن الفكر الإنساني فكر متدرج ، يتدرج من النقص إلى الكمال ، ومن الانفعال إلى الفعل ، ومن سيطرة ما هو غيبي إلى سيطرة ما هو ذاتي موضوعي . ومنه يكون العقل في بداية نشوء الحضارة عقلا تابعا منفعلا ، يستلهم قضاياه مما يغدقه عليه مثاله أو مصدر غلبته . وهنا يمكن القول أن العقل يخضع لمقولة ابن خلدون حين يقول : " المغلوب مولوع بتقليد الغالب.. " عقل تابع لأطر متعالية عن وعيه وفهمه ، ومغلوب على أفقه التحليلي والتركيبي ، وبالتالي يصبح العقل ضمن مسيرة الحضارة الإسلامية عقلا تابعا للوحي و السنة ، وبالتالي فهو لا يحلل و لا يمارس النقد لكونه لازال لم يبلغ مرحلة الفطام الحضاري .
ومقولة العقل التابع نستشف معانيها من خلال الإشارات التالية :
1- دلالة الإقتداء :
3- دلالة التطور و النّمو :
4- العقل المبدع ( R. créative )
عندما تجتاز الحضارة عتبة التشكل والتكوّّن ، يصبح العقل في طور الإبداع والخلق ، ويصبح الإنسان هو القوة الأولى ومعيار التقدم ، وبعدما كان العقل التابع عقل منفعلا منساقا وراء الوجدان يصبح في هذه المرحلة عقلا فعالا ، يعمل ضمن معايير و أنساق التفكير ، ويصبح الوجدان و الإيمان موضوعا للتساؤل النقدي ، ويكون للبرهان الدور البارز. والعقل المبدع نحدد خصائصه من خلال ما يلي :
1- دلالة القدرة : ونقصد امتلاكه لقدرة خلق المفاهيم ، واستباط الأحكام ، وإنتاج مناهج البحث ، فهو من حيث هو قادر عقل مبدع ، لأن القدرة دالة في اللغة على الإبداع. ولقد جاء في لسان العرب ما يترجم ذلك : ".. بمعنى قادر وهو صفة من صفات الله تعالى ، لأنه بدأ الخلق على ما أراد على غير مثال تقدمه لقوله تعالى : { بديع السموات والأرض }. " ومن جهة أخرى يطلق لفظ المبدع على كل من يأتي بأمر على خلاف ما هو موجود ومعروف بحيث يشترط فيه الجودة لقول ابن منظور :" والبديع ، المبتدع و المبتدع وشيء بدع بالكسر أي مبتدع، و أبدع الشاعر جاء بالبديع ، وقد بدع بداعة و بدوعا ورجل بدع وامرأة بدعة إذا كان غاية في كل شيء . " .
2- دلالة التأسيس : فالعقل المبدع هو عقل مؤسس لكل ما يتم به حصول الأشياء والصور، أي أنه قادر على أن يكون ما يتم به الشيء من حيث هو عقل متصور للأسباب والغايات ، وبالتالي فأهم ما يميز العقل المبدع قدرته على إيجاد الشيء من لا الشيئ ، ويمكن أن نستدلعلى ذلك من خلال ما تحمله اللغة :" الإبداع إيجاد الشيء من لا شيء، وقيل الإبداع تأسيس الشيء عن الشيء."
3- دلالة الرسوخ : والعقل من حيث هو ملكة راسخة يفترض أن يكون من حيث هو راسخ عقلا مبدعا ، لأن الإبداع ( الخلق ) يفيد معنى الهيئة الراسخة : " الخلق بالضم هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بيسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا." فالعقل كالشرع يعتبر هيئة راسخة تصدر عنها الأفعال و التصورات .
5- العقل المستكين
ومن خلال مسيرة العقل التداولي ضمن حركة التاريخ يصبح مفهوم العقل المستقيل الذي وظفه الجابري هو الذي نشير إليه بالعقل المستكين ، فمادام العقل لا يقدم استقالته لكون ذلك يتناقض مع مبادئه فهو يمر بحالة استكانة أو سبات حضاري ، فلفظة الاستكانة في اللغة العربية تدل على الضعة بعد القوة، والاستراحة بعد العمل ، والعطالة بعد الحركة. ومن ثمة يغدوا فعلا خارج نطاق الإرادة ، بل يرتكز على العوامل الموضوعية التي تتحكم في سير الحضارة.
واختيارنا للفظة الاستكانة تستمد وجودها من تراثنا اللغوي ، إذ المصطلح يُشتق من فعل ثلاثي سكن ، و تقول العرب : سكن أسكن استكن تمسكن ، استكان ، أي خضع ، ونستدل على ذلك ومن خلال حديث أحد المخلفين الثلاثة ( كعب ) حين قال : " أما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما." - أي خضعا وذلا - . فالعقل بعد أن يفقد وهجه تأخذه حالة من الخضوع و الخنوع ، وتبدأ الأفكار التي أنتجها تنتقم من مشربها ، لأن الأفكار كما يقول مالك بن نبي تنتقم من صاحبها حين تُخذل تاريخيا.
ويمكن لمفهوم العقل المستكين أن يُفهم ضمن الدلالات التالية :
1- الاستكانة ودلالة الإكراه : أن الشيء لا يستكين إلا بفعل قوة أكبر من قوة تحديه الراهنة ، فالعقل عندما يكتمل حقبة الإبداع يكون قانون التداول قد بدأ في رسم معالم التحول ، عندها لا بد للعقل المبدع أن يتحول إلى طور الاستكانة أي الخضوع بفعل قوة متعالية عنه . والعرب تقول في هذا المعنى : أكانه الله ، يكينه إكانة ، أي أخضعه حتى استكان ، أي أدخل عليه من الذّل ما أكانه .و إذا كان الرجل يُكنّه الذّل فيستكين لمذّله، فإن العقل يَكن بفعل خذلان الأفكار المُميتة أو القاتلة.
2- الاستكانة ودلالة الفوضى : .
3- الاستكانة ودلالة التّواري والتّخفي :
4- الاستكانة و دلالة القيد :
5- الاستكانة و دلالة الضوي :
وبالتالي فالعقل المستكين لا يعلن استكانته من حيث هو عقل بل الاستكانة واقعة عليه من حيث هو حال وملكة . وبالتالي لا توجد لدية حالة إصرار أو إرادة كما تفضل به محمد عابد الجابري ، بل توجد به علة وعطالة ، وأن كل ملكة في الإنسان تصيبها العطالة تجنح للسكون .
__________________
وأهلا بالأستاذ القدير، د. عبد القادر بو عرفة في سراة الوراق.
أستاذي الكريم: وقفتُ مطولا عند الزاوية التي تضمنت سيرتكم الحافلة بالعطاء، أتمنى أن يكون للوراق حظ منها ، سيما كتابكم (معجم الفرق والنحل في الجزائر) أتمنى أن أراه منشورا على صفحات الوراق، وتقبلوا فائق الاحترام (المشرف) |