للغة العربية خاصية القدرة على التجريد : هي القدرة على تجاوز الرؤية الحسية - الواقعية والنزوع بها إلى رؤية جوهرية منزهة للأشياء والموجودات ، هي محاولة تجاوز ما يدرك بالحواس ويرى بالعين المجردة إلى ما يدرك بالوعي والمتخيلة .
يرمز العربي إلى وعيه بالتاريخ والعالم بالكلام ، وكان الكلام أو اللغة ، ولعصور طويلة ، هو متاعه شبه الوحيد، ينقله معه في ترحاله الدائم . هذا يفسر ، ربما ، أن تكون اللغة العربية هي أثمن ما أنتجته الصحراء ، وأغنى ما أورثته الأجيال بعضها لبعض .
وفي ذروة اللغة والكلام ، يأتي الموروث الشعري العربي ليعبر عن هذه اللغة بأبهى حللها ، وليرمز إلى وعي الإنسان العربي بعالمه وبيئته ، ونفسه وتاريخه، وذلك على مدى حقبات طويلة من الزمن كان للشعر فيها وما يزال ، موقع الريادة .
فالشعر عدا كونه قيمة جمالية أكيدة ، هو شأن له أغراض : المدح ، الهجاء ، الرثاء ، الفخر ، الحكمة ، الوصف ، الغزل ..... ومن أغراضه أنه سجل للتاريخ ، وسبر للغور ، وترميز للحدث .
الحدث هو ما يولد الانفعال في قلب الشاعر وفكره ، وهو ما يسعى للتعبير عنه ، سواء كان ذلك الحدث في مجال الواقع المعاش أم في وجدان الشاعر وعاطفته . لذلك فإنه سوف يسعى إلى ترميز هذا الحدث وتحويله إلى فكرة ، أو صورة ، ويجسده في قوالب لغوية وألفاظ موسيقية فيغدو ما كان حسياً - واقعياً ، مجرد صورة عن الواقع ، تحمل من صفاته الذاتية ، وتحمل نظرتنا إليه ، وتحمل معها الحلم الذي نرتجيه من هذا الواقع .
فاللغة الشعرية هي صلة الوصل ما بين ما ندركه بشعورنا الباطن ، وبالمتخيلة الوهمية ، الفردية منها والجماعية ، وبين الحدث الواقعي أو الحالة الشعورية الحقيقية التي نعيشها في اليومي ، الإعتيادي ، والمباشر . كلما ضاقت المسافة بين الحالتين ، كلما كان الشعر إلى الشعر أقرب ، وهذا هو حال المتنبي .
شعر المتنبي هو مرآة روحه ، وهو مرآة عصره : شعره هو ملحمة حياته التي عاشها بكل ما اضطرب فيها من أحداث ، وما شابها من تغيرات . من يقرأ شعر المتنبي يعيش في أحداث عصره ، ويتتبع سيرة حياته ، ويرافقه في تقلبات روحه بحزنها ومرارتها ، قوتها وشغفها ، نبلها وطموحها ....... تطابق فصول حياته مع كل ما قاله في قصائده ، وحكمه على ما جاء فيها من أحداث ، وتصويره لما كان يعتمل في نفسه من ردود فعل عليها ، كل هذا متأت من إحساسه العميق بنفسه ، وتجذر هذا الإحساس في وعيه لدرجة أنه لا يفصل بينه وبين الحدث بل أن شعره الذي يرويه ، يجعل منه شفافاً مرئياً ما بين السطور . كل هذا يعطي لشعره هذه المصداقية التي هي صلة وصل بينه وبين جمهوره ، ويقضي بأن يكون بينه وبين المتلقي وثاقاً من الثقة لم ينفصم عراه أبداً .
ولقد اخترت هذه الأبيات ، وكان من الصعب جداً علي ان أختار ، للتدليل على بعض ما قلته ، كي نرى المتنبي ، داخل أحداث عصره ، إنما بكل طموحه وذاتيه وتفرده ، يرسم خيال عالمه الذي كان يعيش فيه والذي هو قمة ما كان يعتمل في داخله من انفعالات ، وقمة المقدرة في التعبير عنها :
أُطاعِنُ خَيلاً مِن فَوارِسِها الدَهرُ |
|
وَحيداً وَما قَولي كَذا وَمَعي الصَبرُ |
|
|
|
وَأَشجَعُ مِنّي كُلَّ يَومٍ سَلامَتي |
|
وَما ثَبَتَت إِلّا وَفي نَفسِها أَمرُ |
|
|
|
تَمَرَّستُ بِالآفاتِ حَتّى تَرَكتُها |
|
تَقولُ أَماتَ المَوتُ أَم ذُعِرَ الذُعرُ |
|
|
|
وَأَقدَمتُ إِقدامَ الأَتِيِّ كَأَنَّ لي |
|
سِوى مُهجَتي أَو كانَ لي عِندَها وِترُ |
|
|
|
ذَرِ النَفسَ تَأخُذ وُسعَها قَبلَ بَينِها |
|
فَمُفتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمرُ |
|
|
|
وَلا تَحسَبَنَّ المَجدَ زِقّاً وَقَينَةً |
|
فَما المَجدُ إِلّا السَيفُ وَالفَتكَةُ البِكرُ |
|
|
|
وَتَضريبُ أَعناقِ المُلوكِ وَهامِها |
|
لَكَ الهَبَواتُ السودُ وَالعَسكَرُ المَجرُ |
|
|
|
وَتَركُكَ في الدُنيا دَوِيّاً كَأَنَّما |
|
تَداوَلُ سَمعَ المَرءِ أَنمُلُهُ العَشرُ |
|
|
دَعاني إِلَيكَ العِلمُ وَالحِلمُ وَالحِجى |
|
وَهَذا الكَلامُ النَظمُ وَالنائِلُ النَثرُ |
|
|
|
وَما قُلتُ مِن شِعرٍ تَكادُ بُيوتُهُ |
|
إِذا كُتِبَت يَبيَضُّ مِن نورِها الحِبرُ |
|
|
|
كَأَنَّ المَعاني في فَصاحَةِ لَفظِها |
|
نُجومُ الثُرَيّا أَو خَلائِقُكَ الزُهرُ |
|
ثم حول ملحمية الوصف عنده أذكر هذه الأبيات الخالدة :
|
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَها |
|
وَتَعلَمُ أَيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ |
|
|
|
سَقَتها الغَمامُ الغُرُّ قَبلَ نُزولِهِ |
|
فَلَمّا دَنا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ |
|
|
|
بَناها فَأَعلى وَالقَنا تَقرَعُ القَنا |
|
وَمَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ |
|
|
|
وَكانَ بِها مِثلُ الجُنونِ فَأَصبَحَت |
|
وَمِن جُثَثِ القَتلى عَلَيها تَمائِمُ |
|
ولي عودة أخرى ، إن شاء الله ، إلى المتنبي الإنسان في غربة روحه .