قَدِما من نفس القرية، من مكان ما في تخوم ترانسلفانيا، لكنهما كانا "مُقنزحين" في نفس الوقت، كما هو الحال مع باقي شعب السَيْكَيين. كانا مرحين على الدوام، رائقي المزاج، ووقفا في الصف بجنب بعضهما البعض دوماً، إلى أن أصبح لهما اسماً واحداً في آخر الأمر، وسمع منتسبو الفيلق كله بخبرهما، وكان اسم أحدهما شامو كِش، والثاني يوشكا شامو، لكنهما سوية كانا يوشكا شامو كِش.
- يا أخي – قال شامو كش –، بدأت أحس بالجوع.
وقتها لم يتذوقا الطعام ليومين. لم يكن لديهما أي شيء على الإطلاق. أرسلوهما إلى حواجز الأسلاك الشائكة، وكان هناك خلفهما مرج كبير، ولم يتسلل عبره بعض الجنود زاحفين إلا خلال الليل، وحتى هؤلاء لم يجلبوا إليهما سوى العتاد دون الزاد.
- ماذا سنأكل، أخي? - قال يوشكا شامو.
- ما لديك?
- عندي ماء.
- أما أنا فلدي الملح.
- لكن هذا شيء عظيم، لنطبخ حساء.
- من ماذا?
- من العشب.
- وهل سيكون هذا الحساء جيداً?
- بالتأكيد.
- تمهل، لن يكون جيداً. سأطهي حساء الحمّيض، هذا أحسن.
- لكن ما عندنا حمّيض.
- نقطف شيئاً منه. لابد من وجوده في هذا المرج الواسع. ما أن تخرج أمي هناك في القرية، إلا وتجلب منه طبخة على الفور.
- هذا رائع إذن.
حتى أنهما ضحكا لذلك. غير أنهما عبثاً زحفا على بطنيهما في المرج الذي سحقته البساطير، لم يجدا حمّيضة واحدة تستحق أن توضع في القدر.
- إذن، يا أخي، سأذهب خلف الأسلاك الشائكة، لم يطأ العشب هناك أحد، فلا يزال نضراً، سأجد هناك شيئاً منه...
- أذهب معك.
- لا تأتي، فلو بقي هناك واحد منا، لا يذهب معه الآخر من أجل حفنة حميض!
- أتعلم ماذا، سأذهب أنا في هذه الحالة.
- أتريد أن تأكل الحقل من أمامي? أعرفك أنا.
وبهذا انسل شامو كش تحت الأسلاك الشائكة على الفور.
زحف إلى الأمام ببطء، مثل الخلد الكبير السمين. كان يتحسس كل ورقة من أوراق الحشيش، يتشممها، تذوق كل عشب بري، لكنه لم يعثر على شيء مما اعتادت امه تجميعه في البلد، أعشاب طرية حلوة؛ غير أمه كانت بعيدة وكذلك البلد العزيز.
زحف وزحف، وتقدم زحفاً أكثر فأكثر، طاب له الزحف ببطء في الكلأ الأخضر، بنعومة وبصمت، متشبثاً بأصابعه خافضاً رأسه في العشب العالي الذي حان وقت حشّه بالمنجل.
لم تكن مواقع الروس بعيدة حقاً. كان خندق الرماة الروس على مبعدة مائة متر عنه فحسب، لكن توجد في الوسط شجيرات كثيفة الأغصان، وعشب عالٍ بحيث لا يراه أحد حتى لو وقف على ركبتيه. شامو كش تقدم إلى الأمام وتقدم. لم يعرف لِمَ يمضي، وإلى أين، انزلق كما الحلزون، حتى أنه لم يفتح عينيه إلا بالنزر اليسير، ولم تتبين العين تقدمه، سوى ما رآه هو، عندما انحنت سيقان الأعشاب النحيفة المنتصبة تنوء تحت ثقل جسده.
فجأة مسّ أذنه صوت خشخشة غريب.
للوهلة الأولى تنصت بفزع، ثم طفق يضحك بصوت خفيض، كي لا يصدر صوتاً.
سمع شخيراً.
ما العمل الآن?
من الذي ينام بهذه الطمأنينة تحت قبة السماء الواسعة? لو يرفع عينيه لا يرى سوى السماء الزرقاء الغامقة. تطفو فيها غيوم بيضاء في جهة الشرق. يا إلهي، كيف يستطيع الرجل النوم في الغربة هذه، بين الأعادي... الجسم يطلب حقه من الراحة. أما كيف يخلد المرء إلى النوم في بيته، عندما ينجز العمل اليومي، وكيف يتمدد على القش الناعم الذي حشي به الفراش، فلا يعرف ما الحياة حتى الصباح... إلا في منتصف الليل، عندما تبدأ الخيول بالزنخرة، فيتنبه ويقوم بواجبه وهو نصف نائم: يضع أمام الخيل علفاً طازجاً... ثم كيف يعتاد الإنسان على كل ذلك? أما الآن، فتكاد أجفانه تنطبق من النعاس، لكنه لا يقوى على النوم... وكأن فيضاً من النعاس قد شعّ من ذلك الرجل النائم بعمق وهدوء، ليغمره هو أيضاً، فتتلاصق أهدابه بعسلٍ حلوٍ كثيف، وليملأ جبهته بخدر لذيذ فيكاد يتوسد برأسه كومة تراب ناعم حفرها خلد، حتى ينسى كل شيء؛ كل ما يتعلق بهذه العالم وأوجاعه والتعب والجوع المخدّر، ويستسلم لأغلى إغفاءة...
لكن الآخر خطر فجأة في باله: صاحبه يوشكا شامو الذي ينتظره خلف السلك الشائك وينتظر الوريقات الطرية التي يمكن تجهيز الحساء منها.
طار كل نعاسٍ من جفونه على التو... حياته ليست مهمة، فقد مات آخرون كثيرون، بالآلاف وبعشرات الآلاف أيضاً، ولا أحد يعلم كم الذين ماتوا منذ الخليقة حتى اليوم، وبعد الآن سيموت الجميع يوما ما.. لكن يوشكا شامو ينتظر الوريقات الطرية.
فكر شامو كش عميقاً.
حفز في داخله كل حبه للحياة وتقدم زاحفاً، كالضب.
أمامه الجندي الروسي نائم هناك على العشب، متمدد بثيابه الخضراء، وقد انزلقت القبعة عن رأسه، وهطل شعره البني الأشقر الطويل على جبينه المتعرق الحار. فمه مفتوح قليلاً، ووجهه وديع مسالم وهو نائم على كومة من الحشائش. سقط السلاح من يده، وهذا جراب الخبز إلى جانبه، كان نائماً مثل الرضيع الذي تحتضنه أمه، سعيداً ومطمئناً للحماية الأمومية. لا يعبأ بما قد يحصل له، فقد يُقتل غيلة، أو يقتل تقبيلاً، قبل أن يستيقض... هذا الروسي، علام اتكل?.. تموج الأرض المقدسة تحته، تكاد ترى نبضها الدافئ يتماهى مع تنفس البطل الروسي المنتظم الهادئ.
لمعت عينا شامو كش. صفا بصره، راقب، تفحص كم عميق هو نوم المسكوفي هذا.
ثم مد يده، وبيده حربة البندقية الحادة المدببة..
عندما لم تفصله سوى سنتمترات عن جسد الروسي، عن صدره المنكشف المشعر أحمر البشرة الملتهث، توقف... كما لو من توقف هو ذاته الحديد الصلب، القاتل القاسي، كما لو تردد، ارتعش تحت تأثير فكرة جميلة وعادلة ما. ثم تراجع، وتحول إلى اليد الثانية.
أمسك شامو كش بيده العارية بندقية الروسي الطويلة، ورفعها من العشب... ياله من كائن مطيع
هذا السلاح، هذا الجهاز، عندما لا يرتبط بروح الإنسان الحية. كان الموت الروسي في القبضة المجرية... والآن تراخت القبضة وانفتحت، وامتدت اليد المجرية: التقطت جراب الخبز الأسمر...
ما كان بحاجة إلى سواه.
جال ببصره على الرجل الضخم المحمر النائم مرة ثانية. لم يعد شاباً، برزت شعرات لحيته البنية الشقراء الطويلة المتفرقة في وجهه، كانت تقاسيمه متعبة، مثل ملامح الآباء الذين طحنتهم معارك الحياة.
- نم، يا أخ – دمدم شامو كش مع نفسه؛ ولبس البندقية والجراب في عنقه وأخذ يزحف عائداً.
سمع شخرة، فاعتراه الفزع. فزع بشدة: لو يفيق عاثر الحظ، يصبح لزاماً قتله.
ترقب بصمت، مثل دودة الحنطة التي تتظاهر بالموت عند أدنى حركة، ولا تنطلق لسبيلها إلا بعد برهة...
هكذا انطلق هو أيضاً لسبيله، عائداً فوق نفس العشب الذي وطئه... وكيف لا يمكن التعرف إلى دوس الأرنب على الثلج، أقدام زوجي الأرانب، زوج يافع إلى الأمام يتبعه زوج ناضج خلفه. أو خطو الثعلب، كيفما يخبب بغير انتظام، ماسحاً بذيله الثلج الطري.. طريق الإنسان أثقل وطأة، يكسر العشب الحي ويحفر خندقاً في المرج المعشوشب.
عندما انسل تحت السلك، وجد يوشكا شامو في مكمنهما. كان جالساً، نام وهو جالس. نام، مثل المسكوفي، ولم يستيقظ.
من ينام يعرض نفسه إلى عقوبة شديدة: الضرب بالسوط، أو الربط على عمود، وفي أيام الخطر طلقة في الرأس... لكن كيف أخلد هذا الآخر إلى النوم... لم يقدر المسكين على انتظار العشب الطري اللذيذ.