البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الرواية والقصة

 موضوع النقاش : القصة القصيرة    قيّم
التقييم :
( من قبل 7 أعضاء )

رأي الوراق :

 salwa 
24 - مايو - 2007
في صباح يوم من الشهر الفائت ، جرت مناقشة بيني و بين صديق عزيز و أخ كريم لي حول كتاب قرأه . و تطرق النقاش الى الإبداع القصصي العالمي كإشراقة في سماء الأدب ، متفرداً بذاته ، و محتلاً موقعاً متميزاُ بين شتى الإبداعات المعروفة ..
لكنـه ذهب إلى أبعد من ذلك عندما تناول موضوع القصة القصيرة التي تأخذ بالأنفاس و تُطلقها قبل أن يجد الملل الى عقولنا طريقاً ..
 
القصة القصيرة أصبحت فناً خالصاً لا شريك له في عمقه و رصانته و بهجته و شموخه .. هذا ما قاله صديقي و هذا ما آمنت به بعد قراءة قصة قصيرة أهداني إياها ..
سأحاول اليوم أن أتجول في حديقة القصة القصيرة العالمية ، قاطفة بعض زهورها اليانعة ، واثقة من العثور على عقود بنفسجية ثمينة ، مقدمة إياها بكل حب و تقدير "للـوراق" ، آمـلة أن يشاركني الجميع بتقديم ما يستطيع من قصة مترجمة أو يقوم بترجمتها ، لعمالقة هذا الأدب القصصي الرفيع ، المنتشرين في بقاع العالم و المتكلمين بلغاته، و لتتسع بيننا دائرة الحوار و النقد البناء .
 2  3  4  5  6 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
قتل الأرانب 000للروائى الإنجليزى /ريفنسكروفت (2)    كن أول من يقيّم
 
لم أستطع النوم تلك الليلة. سقطتُ في النوم للحظات قليلة، فإذا بالذي سوف أفعله في الصباح يقفز في أحلامي على هيئة شبح أرنب مخبول يتلوى، طوله 15 قدم، يترنح في خطوته على طريقة مشاهد أفلام الرعب.
رقدت في الفراش، عيناي شاخصتان، أحملق في الظلام، أفكّر، أتذكّر.
 
أعود بالزمن إلى الوراء، حين كان قرار الانتقال إلى الريف مازال في طور المناقشة، كان أصدقاؤنا يستمتعون باستجوابنا حول طبيعة حياتنا الجديدة والنتائج التي سنتورط فيها بناءً على ذلك. اهتموا على نحو خاص بالجزء الخاص بعملية الذبح. بدا أن أحدا  لا يعاني مشكلة كبيرة في التعامل مع الدجاج، أو الإوز أو الخراف، غير أن الكثير منهم روّعتهم فكرة أن نربّي، نقتل ثم نأكل الأرانب.
 
صديقانا الحميمان، "ستيف و بولين"، كانا يربيان زوجًا من الأرانب المنزلية الأليفة غزيرة الشعر ذات الحيوية التي تنطق بالجمال واللطف، اقتنى الصديقان هذين الأرنبين من أجل تسليّة أطفالهما- ولذا لم يكن مدهشا أن يكون انزعاجهما شديد الخصوصية.
 
-   " لن تقدر مطلقا أن تفعل ذلك،" هكذا قال "ستيف" في إحدى ليالي لقائنا في الحانة. " ليس حين تنظر إلى الأسفل فتجد هاتين العينين البنيّتيْن الواسعتيْن تنظران إليك، وذاك الأنف الصغير المرتجف...."
-   " الأرانب النيوزلندية البيضاء لها عيون حمراء." قلت له.
 
هزت "بولين رأسها. " ستيف معه حق، مازلت أذكر الحال التي انتابتك حين تعثرت وانقلبت فوق قطتنا."
أجفلتُ. دهسي لقطتهما كان أسوأ ما مرَّ بي في حياتي كلها. أدركت منذ عهد بعيد أن "بولين" لن تتركني أنسى ذلك الحدث أبدًا.
 
-   " الأمر مختلف،" أجبتُها بينما أختبئ خلف كأس البيرة، "الأمر مختلف تماما."
-   " ياللكائنات الصغيرة التعسة! " قالت بابتسامة نصفُها غضبٌ ونصفُها استهزاء. " على الأقل لا تتوقع مني أن أكون لطيفة معك بعد أن تكون قد اغتلت ملايين من الأرانب الرضيعة البريئة، هذا كل ما في الأمر. أنا أتكلم عن الدماء التي تلوّث يديك..."
 
كانا على حق بلا ريب. أدركت دائما أنني سأواجه معضلةً مع عملية القتل تلك، لكني استطعت أن أطمئن نفسي مادام الأمر مازال رهنًا بالمستقبل البعيد.
 
بوسعك أن تصنع حالة ذهنية تمكنّك من الكلام عن القتل، سلخ الجلد، التقطيع الخ...، مستخدما تلك المصطلحات العملية الهادئة ذاتها التي تتداولها كتب الزراعة. بوسعك أيضا أن تتعلم كيف تلهي نفسك عن المظهر الريفيّ غير المبهج عن طريق أن تتخيل كم هو رائع أن تعيش في مكان ريفي بسيط مع  " فليسيتي كاندال". (3)
 
غير إني عدلت تماما عن فكرة النوم، ومع بداية تسلل الضوء الخافت عبر الستائر، كان عليّ قبول حقيقة أني لن أستطيع مجددا أن ألهي نفسي أو أصرف تفكيري بالأمر. الوقت الحاسم. أما فيما يخص " فليسيتي كاندال" – فلم تكن في أي مكان حتى تُرى.
 
حول الخامسة صباحا، انزلقتُ من السرير، ارتديت ملابسي وتسللتُ ببطء إلى الطابق الأسفل، تاركا "ماري" تتنازعها أحلامها الخاصة . وددتُ أن أنهي الأمر بأسرع ما يمكن، ومن الأفضل أن يتم بينما هي مازالت في نومها.
 
في الخارج، كانت شبورة الصباح الباكر تتدفق وتغطي الأرض. بدا ذلك مناسبا على نحو ما.
 
كان كل من " راج، وتاج، وبوبتيل" في أقفاصهم المنفصلة في الحظيرة الصغيرة خلف الكوخ. كانت أنوفهم تختلج تجاهي كلما اقتربت أكثر، بينما أخذ "بوبتيل" يضرب الأرض بأقدامه.
 
إذا قُدِّرَ لك أن تقتل أرنبا، فإليك ما يجب أن تفعله:
تأخذ ساقيه الخلفيتيْن بيدك اليسرى، تقبض على رأسه بيمناك، ثم تلوي الرأس إلى الوراء. في ذات الوقت تضغط يدك إلى الأسفل كي تشدَّ العنق. إذا أديت الخطوات على نحوٍ صحيح، ستنكسر عظمة العنق ويحدث الموت تقريبا في لحظة.
 
*عبدالرؤوف النويهى
24 - مايو - 2007
قتل الأرانب000للروائى الإنجليزى / جون ريفنسكروفت(3)    كن أول من يقيّم
 
قرأت التعليمات عشرات المرات. أحفظها عن ظهر قلب. بل إني مارست كل تلك الخطوات من قبل على منشفة الصحون باعتبارها أرنبًا ! غير إني بمجرد أن أخرجت "تاج" من قفصها،..... ارتعشت يداي.
 
حملتها إلى الخارج حتى لا يتمكن "راج و بوبتيل" من رؤية الذي سوف يحدث. داعبتها، أخبرتها أني آسف، ثم، بأسرع وأدق ما يمكن،...
قتلتها.
 
***
كان الأمر رهيبا، سوف لا أنساه مطلقا. ولن أنسى أبدًا كمَّ القسوة التي كان عليّ أن أجذب بها.
 
غير إني أنجزت الأمر على نحو صحيح. نعم على الأقل أنجزته على نحو صحيح. إذا كانت قد تألمت، فلم يكن ذلك إلا  لثوان قليلة.
 
بعدما قتلتها، كان عليّ أن أنجز عمليتيْ السلخ والتقطيع. أعرف النظرية – عليك أن تحزم ساقي الأرنبة الخلفيتيْن فوق  مفصل القدم مباشرة ثم تعلقها على خطافيْن. بعدها تشقُّ قَطعًا صغيرا أعلى مفصل كلِّ كاحل من ساقيها الخلفيتين، ثم تمد القطع حتى فتحة الإست. بعدئذ تنزع طبقة الفراء عن الجلد عند ساقيها ثم تقشرُّها عن سائر الجسد.
 
فعلت كل ذلك، فعلته على نحو جيد. لقد هيمنت على الموقف الأساسي ، جابهت الأمر الذي طالما أفزعني ، تصرفتُ كرجلٍ. وكنت بالفعل راضيًا عن نفسي.
 
***
 
حين فتحتها لأفرّغ أحشاءها، تبخرت كل مشاعر الغبطة.
 
***
 
هبطت "ماري إلى الطابق الأسفل ووجدتني جالسا في المطبخ.
 
-   " ماذا هناك?" قالت
أخبرتُها.
 
تعرفت على الكبد، القلب، الكليتيْن، لكن ثمة أشياءَ أخرى في الداخل لم أستطع التعرف عليها مطلقا. أشياء لم تكن في الكتب.
 
عشرة أشياء.
 
- " كان يجب أن أنتظر يا ماري، "تاج" كانت ملأى بالصغار."
كانت "تاج" حُبلى. بعد كل هذا
 
--------
1 - انتهاء العطلة الأسبوعية وبداية العمل (ت)
2 - The Good Life  فيلم كوميدي بريطاني يتناول حياة أسرة من الطبقة المتوسطة. (ت)
3 - Felicity Kendall  - ممثلة إغراء أمريكية . (ت)
 
---------
* إحدى قصص المجموعة المترجمة التي تصدر قريبا عن دار" شرقيات" وتحمل ذات العنوان "قتل الأرانب: تأليف جون ريفنسكروفت وترجمة فاطمة ناعوت
** قاص وروائي إنجليزي معاصر ولد عام1954  في بريمنجام بإنجلترا ، يعيش في " لينكون شاير" بالمملكة المتحدة. يشارك في تحرير مجلة "كادينزا" Cadenza Magazine . له العديد من الأعمال مثل ( نبتة صغيرة -  المشي بالمقلوب- الأشياء التي تركتها وارءكِ - هديةٌ من أجل باكو - أحوال المادة- البومة  الجين المدمر الزنبقة المدهشة).
حاصل على عدة جوائز من بينها جائزة الكومنولث. كما فاز العام الماضي بجائزة رفيعة في لندن هي Writer of the Year
*** كاتبة وشاعرة ومترجمة مصرية
                                           موقع مجلة المهاجر
*عبدالرؤوف النويهى
24 - مايو - 2007
جيغموند موريتس: الكرايتسارات السبعة    كن أول من يقيّم
 
Móricz Zsigmond: Hét krajcár
 
الكرايتسارات السبعة - الجزء الأول
 
 
حسناً فعلت الآلهة عندما قضت بأن للفقير الحق في القهقهة.
لا تسمع البكاء والعويل فقط من الكوخ الحقير، بل ما يكفي من القهقهة الصادرة من القلب أيضاً. لا بل الصدق أن الفقير كثيراً ما يضحك عندما يتطلب الموقف البكاء.
أعرف هذا العالم جيداً. فقد خبر ذلك الجيل من عائلة شوش الذي ينتمي إليه أبي أيضاً، الحالة الأكثر شدة من العوز كذلك. في ذلك الوقت كان أبي يعمل بالأجرة اليومية في ورشة ميكانيك. وهو لا يتبجح بتلك الأيام، ولا غيره. لكنها حقيقة حدثت.
وكذلك حقيقة أنه حتى في حياتي المقبلة لن اقهقه بقدر ما قهقهت في تلك الأعوام القليلة من سنوات طفولتي.
كيف اقهقه عندما لا أجد أمي المرحة بوجنتيها الحمراوين، التي كانت تضحك بحلاوة إلى أن يطفر الدمع من عينيها، ويخنقها السعال لفرط الضحك...
وحتى هي لم تضحك أبداً كما ضحكت ذات مرة، عندما جمعنا في عصر  أحد الأيام سبعة كرايتسارات[1]. بحثنا سوية ووجدناها. ثلاثة وجدناها في درج من أدراج ماكنة الخياطة، وواحد في الخزانة، والباقي وجدناه بصعوبة.
الكرايتسارات الثلاثة وجدتها أمي بنفسها، فأعتقدت بوجود المزيد منها في الدرج، إذ اعتادت الخياطة بالأجر، وكانت تضع هناك ما يدفعون عادة. بالنسبة إليّ، كان درج ماكنة الخياطة منجماً للكنوز، وما كان على سوى أدسّ يدي فيه حتى "تفتح يا سمسم".
وتعجبت كثيراً عندما بحثت أمي هناك، نبشت بين الأبر والمقص وقطع الشريط والخيوط والأزرار وكل شيء، وفجأة قالت بسهو:
-       اختبأت!
-       ما هي?
-       القطع النقدية - قالت أمي بضحكة رنانة.
سحبت الدرج.
-       تعال يا ولدي، لنبحث عن الأشرار. الكرايتسارات الخبيثة اللعوب.
جلست على عقبيها، ووضعت الدرج على الأرض وكأنها تخشى من طيران النقود، ثم قلبته دفعة واحدة، كما لو كان المرء يصطاد فراشة بقبعته.
ما كان من الممكن عندئذ الإمتناع عن القهقهة.
-       ها هي في الداخل - تضاحكت ولم تتعجل في رفع الدرج -، لو كانت قطعة واحدة فقط، فعليها أن تكون هنا.
جلستُ على عقبيّ، وترصدتُ، هل تظهر قطعة نقود لامعة في مكان ما?
لم يتحرك أي شيء. في الواقع لم نكن نؤمن بوجود شيء منها هناك.
تلاقت نظراتنا وضحكنا للمزحة الطفولية.
مددت يدي لألمس ظهر الدرج المقلوب.
-       شش – أفزعتني أمي – بهدوء، فقد تهرب. أنت لا تعلم بعد، فالكرايتسارات كالحيوانات الماهرة. انها تعدو بسرعة، وتتدحرج. أما كيف تتدحرج...
تمددنا ذات اليمين وذات اليسار. لقد خبرنا سرعة تدحرج الكرايتسار. عندما نهضنا، مددت يدي مجدداً لأقلب الدرج.
-       ياي.. – صاحت عليّ أمي مجدداً وأنا ارتعت، سحبت أصابعي كما لو أنها مسّت فرناً ساخناً - احذر، أيها العاق الصغير. كيف تمهد لها الطريق. وما دامت تحت الدرج فهي تحت رحمتنا. اتركها هناك لبعض الوقت. هل تدري? أريد أن أغسل الملابس، ولكي أغسل الملابس، أنا بحاجة إلى الصابون، ولذلك أنا بحاجة إلى سبعة كرايتسارات، فالصابون لا يبيعونه بأقل من سبعة كرايتسارات، عندي الآن ثلاثة، وأحتاج لأربعة أُخرى، وهذه موجودة هنا في هذا البيت الصغير: تسكن فيه، لكنها لا تحب أن يزعجوها، لأنها لو زعلت، عندئذ تذهب بحيث لن نراها ثانية. احذر اذن، لأن النقود حساسة جداً، عليك التعامل معها، مثل الأوانس الراقيات... آها، هل تحفظ شعراً يمكننا به استدراجها لتخرج من قوقعتها?
كم ضحكنا خلال هذه الدردشة? لا أدري. لكن عملية استدراج الحلزون كانت غريبة جداً.
 
عمو كرايتسار اخرج لنا
بيتك يحترق اخرج هنا[2]
 
عندئذ قلبت البيت.
وجدنا تحته ألف نوع من الأوساخ، أما النقود فلم تكن بينها. نبشتها أُمي بوجه متجهم وشفتين مشدودتين، من دون جدوى.
-       من المؤسف – قالت – أننا لا نملك منضدة. لو قلبنا الدرج على مضدة لكان ذلك أكثر احتراماً، ولوجدنا النقود هناك.
جمعت الأغراض ووضعتها في الدرج. خلالها كانت أُمي تفكر. عصرت دماغها لتتذكر، ألم تضع يوماً في مكان ما بعض النقود، فنسيتها?
لكن شيئاً كان يوخز جنبي[3].
*ثائر
24 - مايو - 2007
الكرايتسارات السبعة - 2    كن أول من يقيّم
 
الكرايتسارات السبعة - الجزء الثاني
 
 
-       أُمي العزيزة، أعرف مكاناً يوجد فيه كرايتسار واحد.
-       أين يا ولدي? لنبحث عنه قبل أن يذوب كالثلج.
-       كان في الخزانة الزجاجية، في درجها.
-       آه أيها الولد التعيس، لو ذكرت ذلك من قبل، فقد لا نجده في مكانه الآن.
نهضنا، وذهبنا صوب الخزانة الزجاجية التي ليس فيها زجاج منذ زمن. لكن الكرايتسار كان في الدرج، إذ كنت أعرف بوجوده. لثلاثة أيام كنت أتهيأ لسرقته، لكني ما جرؤت. كنت أود شراء بعض الحلوى به، لو أنني تجرأت على ذلك أيضاً.
-       إذن، أصبح عندنا أربعة كرايتسارات. لا تحزن يا ولدي، لدينا الآن النصف الكبير من المبلغ. نحتاج إلى ثلاثة فقط. ثم لو كان العثور على هذا الكرايتسار قد استغرق ساعة واحدة، فالعثور على الثلاثة الباقية لن يدوم حتى المساء. تعال بسرعة علّنا نجد كرايتساراً في كل درج من الأدراج الباقية.
لكن لو كان في كل درج كرايتسار واحد، لأصبح المبلغ أكثر من المطلوب. والخزانة الشائخة كانت تخدم في شبابها في مكانٍ توافر فيه ما كان يمكن تخزينه. لكن عندنا ما كان لليتيمة من حمل ثقيل، فالخزانة ليست مريضة ينخرها السوس ناقصة الأسنان دونما سبب.
أمي كانت تلقي موعظة قصيرة عند فتح كل درج جديد.
-       هذا الدرج غنياً ... كان. هذا لم يكن له أي شيء. أما هذا فكان يعيش بالدَيْن. أنت يا متسول يا سيئ يا مسلول، أما عندك كرايتسار? آها، لن يكون عند هذا، فهو يخزن فقرنا. أما أنت، فعسى ألاّ يعطيك الله، لم أطلب منك إلا الآن فقط فما أعطيت. هذا يمتلك أكثر من الباقين، أنظر ...
صاحت ضاحكة عندما سحبت الدرج الأخير الذي ما كان له قعر.
علّقته على رقبتي، ثم جلسنا على الأرض لفرط الضحك.
-       انتظر – قالت فجأة – سنحصل على النقود فوراً. سأجدها في ملابس أبيك.
في الحائط دُقّت مسامير، على هذه المسامير تعلقت الملابس. ولعجب العجاب، ظهر كرايتسار واحد حالما دست أُمي يدها في الجيب الأول.
لم تصدق ما رأته عيناها إلا بصعوبة.
-       هاهو – صاحت – هذا هو. كم أصبح عندنا الآن? لا نستطيع حتى عدّها. واحد إثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة... خمسة. ينقصنا إثنان فقط. هه، إثنان لا شيء. حيثما توجد خمسة كرايتسارات، يمكن أن نجد كرايتسارين.
فتشت كل الجيوب بهمّة كبيرة، لكن للأسف دون طائل. لم تعثر على شيء. حتى أحسن الطرائف لم تستدرج كرايتساراً واحداً.
عند ذلك توهجت وجنتا أُمي كزهرتين حمراوين كبيرتين من الإثارة. ما كان يُسمح لها بالعمل، لأنها كانت تمرض على التو. بالطبع، هذا كان عملاً آخر، إذ لا يمكن منع أحد من البحث عن المال.
جاء وقت العشاء، ومضى. وسرعان ما اقترب المساء. يحتاج أبي قميصاً نظيفاً ليوم الغد، لكن لا يمكن غسل الملابس. أما ماء بئر البرية فلا يزيل الأوساخ الزيتية من القميص.
وقتها ضربت أُمي جبينها بكفها:
-       آه، كم أنا غبية! لم أفتش جيبي بعد. وما دمت قد تذكرت ذلك، لأدس يدي في جيبي.
بحثت، وهاكم تفضلوا، وجدت في جيبها كرايتساراً. السادس.
-       دعني أرى جيوبك أيضاً. علَّني أجد هناك شيئاً.
جيوبي! هه. يمكن ذلك. ما كان فيها أي شيء.
غربت الشمس، وكنا هناك مع ستة كرايتسارات، ناقصة، وكأنها غير موجودة. ما كان اليهود يبيعون بالدين، أما الجيران فكانوا فقراء مثلنا، ثم أننا لن نذهب لنقترض كرايتساراً واحداً.
ما كان بالإمكان عمل شيء سوى أن نضحك على بؤسنا من أعماق القلب.
عندئذ جاء متسول. سأل بصوتٍ عالٍ باكٍ.
كادت أُمي أن تفقد صوابها لكثرة ما ضحكت.
-       دعك من هذا أيها الرجل الطيب – قالت – طوال ظهر اليوم لم أعمل شيئاً، ينقصني كرايتسار واحد من قيمة نصف رطل من الصابون.
حدّق المتسول، وكان رجلاً عجوزاً صالحاً، حدّق في وجهها.
-       كرايتسار واحد? سألها.
-       بلى.
-       أعطيك أنا.
-       هذا ما ينقصنا، حسنة من متسول.
-       دعي عنك هذا يا بنيتي، لا ينقصني القرش. ما ينقصني هو شيء واحد، حفنة تراب، بها يستوي كل شيء.
أعطاني الكرايتسار في يدي، وانصرف.
-       الحمد لله - قالت أُمي – أسرع إذن.
لكنها توقفت لبرهة، ثم ضحكت ضحكة عالية، عالية.
-       اكتمل المال في الوقت المناسب، تأخر الوقت ولا يمكنني غسل الملابس، حلّ المساء، ثم ما عاد عندي زيتٌ للمصباح. اختنقت من شدة الضحك. أختناق مرير قاتل، وحيث وقفتُ تحتها لأسندها عندما دفنت وجهها بكفيها، اندلق على يدي شيء ساخن. دماً كان، دمها الغالي. دم أمي التي كانت تستطيع الضحك على نحوٍ ما كان ليقدر عليه سوى القليل من الفقراء.
 
1908
 
 
جيغموند موريتس (1879-1942): أحد أهم الكتاب الروائيين المجريين في القرن العشرين.
(ترجمة ثائر صالح)
*ثائر
24 - مايو - 2007
هوامش    كن أول من يقيّم
 
1  مفردها كرايتسار، وهو وحدة نقدية نمساوية صغيرة من النحاس كالقرش أو الفلس، وأصل الكلمة ألماني هو كرويتسر، وهو عملة عليها نقش الصليب.
2  تحوير لترديدة أطفال شعبية لإخراج الحلزون من قوقعته، أشبه بالترديدة الشعبية العراقية: زَلَنْطَح، زَلَنْطَح طلّع قرونك وأنطح. والزَلَنْطَح هو الحلزون.
3  تعبير مجري شائع، هو وخز الضمير.
*ثائر
24 - مايو - 2007
محيميـد و جـده – 1 -    كن أول من يقيّم
 
 
 
ملأ صدره بالهواء ، و ترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر . لكن روحه لم تنتعش . تريث قبل أن ينحدر في الأرض المسواة الممتدة، وراءها غابات النخل ، ووراء ذلك النهر ، يلوح هنا و هنا بين فرجات الشجر . المنظر ، كأن "محيميد" يراه آخر مرة. وجهه متوتر كأنه يقاوم رغبة جارفة للبكاء . أنظر يميناً . هناك . أين غابة الطلح الكثة التي كانوا يلعبون فيها أيام الطفولة ? رائحة البرم ، زهر الطلح ، خصوصاً أيام الفيضان . و هناك عند منعطف الدرب حذاء الجدول الكبير كانت تشمخ شجرة حراز ضخمة معرشة ، تلمع ثمارها الصفراء كأنها حلقان الذهب . ذلك الماء كان له طعم آخر . بـلا غطاء ، ذلك السبيل ، عليه قرعة تتأرجح فوق الماء ، تضرب فـم الزير يسرة و يمنة ، يشرب منه الغادي و الرائح . مـن أقامه ? لا أحـد يذكر . لكنه لـم يعدم أحداً يملؤه صباح مساء . طعم الجلد المدبوغ ، طعم الماء فـي القربة المدلاة من الشعب في سقيفة جـده . و طعم ماء النيل أيام الفيضان ، طعم الأخشاب المبتلة ، و أوراق الشجر ، و الطيـن . طعم المـوت . صافي في أماكن الرمل ، عكر في محلات الطين .
 
عصارة الحياة كلها في "ود حـامد" . مشدد قبضته على المقبض العاجي ، مقبض عصا الأبنوس ، و مضى بعزم يضعف و يقوى . غريبة تلك العصا ، الآن ، كأنها إمـرأة عارية وسط رجـال . يحس ملمسها و يتذكر "مريـم" . ذلـك الصوت . ذلك الشباب . ذلك الحلم . يخرج من داره كل يوم عند الفجر ، و يمشي هذا المشوار حتى النهر . يسبح و يعود مع الشروق . يحاول أن يوقظ الأشباح النائمة في روحه . أحياناً الحظ يؤاتيه ، فيسمع و يرى . الرؤى و الأصوات كأنها تنبع من تحت قدميه و مع خبط عصاه على الدرب . هنـا كان مكان النورج أيـام الحصاد . رائحة التبن . رائحة القمح . رائحة روث البقر . رائحة اللبن أول ما يُحْلَب . رائحة النعناع . رائحة الليمون .
 
محجوب و عبد الحفيظ و الطـاهر و سعيد وهو . يغمض عينه . يراهم كما كانوا . متحركين أبداً ، يجرون ، يقفزون ، يتشعلقون ، ينطون من الفرع ، يتمرغون في الرمل ، يعيشون مثل الماء و الهواء . ينقر بعصاه على جذع شجـرة . يسمع ضحكة جـده . يرى وجهه واضحـاً . العينان الصغيرتان الغائرتان . الحنـك الناتىء قليلاً . الجبهة البارزة . الخدان الممصوصان . الفم الصغير . الشفتان الرقيقتان . وجـه أسود ، ناعـم السواد مثل القطيفة ، و عينـان تزرقَّـان و تخضـرَّان و تحمـرَّان و تسودّان ، حسب الظروف و الأحوال . لا يتخيله مفرداً أبداً . دائماً يـراه في جماعة ، على يمينه مختار "ود حسب الرسول" ، و على يساره "حمد ود حليمة" ، في وسط الجمع . يتذكره الان بخليط من الحـزن و الحقـد . لقد إختاره دون سائر أبنائه ليكون ظلاً  لـه على الأرض ، و خلف لـه الدار و فروة الصلاة و إبريق النحاس و المسبحة من خشب الصندل ، و هـذه العصا . مـاذا تعكس المرآة الآن ? كان قد إجتاز الدرب الكبير المؤدي إلى السوق. رأى النخلة عند تقاطع الطريق فقصدها بلا تفكير . تهالك عندها و أسند قامته إلى جذعها . كانا مثل إخوين توأمين ، كأنهما إقتسما حصيلة أعمارهما بالتساوي ، فلا هـو يصغر جده و لا الجد يصغر حفيده . ما كان أعجب ذلك ! يتسابقان و يصلان معاً كتفاً بكتف . يشركـان للطير معاً ، و يصطادان السمك ، و يتباريان في تسلق مستعصيات النخل . يتصارعان ، يـوماً لـه و يـوماً عليه . يدخلان حلقة الرقص معاً فلا يثبت أمامها راقص أو مصفق ، و ترقص الفتاة بين الجَـد و حفيده في دائرة جذب مغناطيسي مدمر . تكثف الحلقة ، و يشتد التصفيق ، و تتأرجح الراقصة  كأنها مشدودة بخيوط غير مرئية ، بين قطبي البوصلة ، ترمي شعرها المعطر على وجـه الماضي مرة و على وجـه المستقبل مرة . يقتسمان الغنيمة فيما بينهما لا غالب و لا مغلوب . تلمع عيونهما و يزعقان ، يطيران في الهواء و يحطان مثل نسرين جارحين . ما كان أعجبه منظراً . لكـن الحفيد في ذلـك الصباح ، ذهب أبعد ، و لعـل صوت الجد في تلك اللحظة ، كمـا يتخيل "محيميد" الآن ، لـم يخل من رنة غيـرة . حينئذ أحس نحوه بكراهية مريرة ، و لـو أن القارب إنقلب بهم و غرق ، لما مد الحفيد في تلك اللحظة يداً لمساعدته .
 
 لقد تقفى أثره خطوة خطوة ، و صار مثله ، حذوك النعل بالنعل . كانت الفـكرة تخطر لجده ، فإذا هي قد خطرت له فـي عين اللحظة ، و يقول أحدهما الجملة فيكملها الآخر ، و يتقاصصان أحلامهما فإذا هي تنبع من مصدر واحد . كان في نظره أشجع الناس و أكرم الناس و أذكى الناس و أكثرهم حكمة و هيبة . و كان أبوه أصغر الأبناء ، و أكثرهم خيبة أمل لأبيه و أكثرهم تعرضاً لسخريته . و كـان الإبن الأكبر "عبدالكريم" اسطورة قائمة بذاتها قبل أن يظهر الحفيد . هو الذي سافر بالجمال محملة بالتمر إلى ديار الكبابيش ، و عاد يسوق أمامه قطعان الإبل و الضأن . هو الذي جلب البضائع من حدود الريف و بلاد تقلى و الفرتيت . هـو الـذي أضاف أرضاً إلى الأرض و بيوتاً إلى البيوت ، و عمارة إلى العمارة . هـو الذي أقام اليوان الكبير ، و جـاء لأبيه بإبريق النحاس ذي النقوش ، و مسبحة الصندل ، و عصا الأبنوس ، و فروة الصلاة المعمولة من جلود ثلاثة نمور . كانا في الديوان وقت القيلولة حين جاء بنبأ طلاقه و زواجه . قال لعمه نيابة عـن جده أنه رجل باطل ، كل همه الجري وراء النساء . كان دون الخامسة عشرة و عنه في الأربعين ، تضاربا و الجد مستلق على سريره لا يقول شيئـاً ، و كاد الإبن يضرب أباه . بعد ذلك ذهب و لم يعد . و نفضوا كلهم واحداً واحداً . و لما مات الأب لم يحضره أحد من أبنائه . و كان الحفيد قد ذهب أبعد ، فوصل بعد فوات الأوان . مـا كـان أعجـب ذلـك .ً
                                                عن كتاب الطيب صالح ، بنـدر شـاه(مريود)
 
jamal
24 - مايو - 2007
البستان 000فرجينيا وولف00ترجمة /فاطمة ناعوت    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
البستان (1)
(فرجينيا وولف)
ترجمة: فاطمة ناعوت*
 
غفَتْ ميراندا في البستان، فيما كانت مستلقيةً فوق مقعدٍ طويل تحت شجرة التفاح. كان كتابُها قد سقط داخل حشائش العشب، وإصبعها مازال كأنه يشير إلى جملة (2):" هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم، نعم، ضحكةُ البناتِ تبهجُ على نحو أفضل...."، وكأنما قد سقطت في النوم عند هذه النقطة بالضبط. أحجار الأوبال(3) في إصبعها كانت تتلألأ بضوء أخضر، ثم بضوء ورديّ، ثم تشعُّ ضوءًا برتقاليًّا من جديد حين تتسرب إليها أشعةُ الشمس عبر أشجار التفاح، وتملأها. في ذلك اليوم، وبمجرد أن يهبَّ النسيم، كان فستانُها الأرجوانيّ يترقرقُ متموّجًا مثل زهرةٍ عالقة بغصنٍ؛ تحني الحشائشُ رؤوسها؛ وتحوّمُ الفراشات البيضاءُ دافقةً من هذا الطريق ومن ذاك الطريق، بالضبط فوق وجهها.
 
على مسافة أربعة أقدام في الهواء فوق رأسها كانت التفاحات معلّقةً. وفجأةً، علتْ ضجةٌ حادّةُ النغمةِ كأنما رنينُ نواقيسَ من نحاسٍ مشقوق تُقرَع بعنف، بغير انتظام، وعلى نحوٍ وحشيّ. لم يكن ذلك سوى أطفال المدرسة يرددون جدول الضرب مجتمعين في صوت واحد، يُستوقَفون من قِبَل المعلّمة، يوبَّخون بغلظةٍ، ثم يبدأون من جديد في تسميع جدول الضرب مرّة بعد مرّة.
لكن هذا الصخبَ مرَّ على ارتفاع أربعة أقدام فوق رأس ميراندا، مخترقًا أغصان التفاح، ثم ضاربًا رأسَ الولد الصغير ابن راعي البقر الذي كان يجمع ثمارَ التوت الأسود من سياج الشجيرات، بينما من المفروض أن يكون في المدرسة الآن، ما جعله يجرحُ إبهامَه بالأشواك.
 
في الجوار، ثَمَّ نحيبٌ منعزلٌ وحيد--حزينٌ، بشريٌّ، وحشيّ. بريسلي العجوز كان في الواقع شديدَ الثَمَلِ حدَّ العماء.
آنذاك، الأوراقُ الأكثر ارتفاعًا في قمّة شجرة التفاح، منبسطةٌ مثل أسماك صغيرة في مواجهة زرقة السماء الحزينة، على ارتفاع ثلاثين قدمًا فوق الأرض، كانت الأوراق تحفُّ بصوت جرسٍ يدق برنينٍ موسيقيٍّ عميق وحزين. ذاك هو الأرغن في الكنيسة يعزف أحد التراتيل القديمة والحديثة. الصوتُ حلّق سابحًا في العلا ثم تشظّى إلى ذرّاتٍ دقيقة بأجنحةِ سربٍ من عابري الحقول كان يطير بسرعة هائلة -- من مكان لمكان.
ميراندا كانت ترقد نائمةً على بعد ثلاثين قدما لأسفل.
 
وإذن، أعلى شجرتيْ التفاح والكمثرى، على ارتفاع مائتي قدم من ميراندا التي كانت ترقد نائمةً في البستان، ثمة أجراسٌ تقرع على نحوٍ متقطّع مكتوم، عظاتٌ نكِدة، لأن ستَّ نساءٍ بائساتٍ من الأبرشية كُنَ يؤدين صلاةَ الشكر بينما كبير القساوسة يرفع الدعاء للسماء.
 
وأعلى ذلك، وبصوتٍ ذي صريرٍ حادٍ، كان السهمُ الذهبيّ لبرج الكنيسة، الذي يشبه ريشة الطائر، يدور من الجنوب إلى الشرق. الرياح تغيّرت. وفوق كل شيء آخر كانت تدمدم وتطلق أزيزها، فوق الغابات والمروج الخضر والتلال، وفوق أميال من ميراندا التي كانت ترقد في البستان نائمةً. كانت الرياح تجرفُ كلَّ شيء دون تمييز، بلا عينين ولا عقل، لا شيءَ قابلته كان بوسعه الصمودُ أمامها، إلى أن، دار السهمُ إلى الجهةِ الأخرى، الرياحُ تتحوّل إلى الجنوب مرّة أخرى. على مسافة أميال للأسفل، في فراغٍ بسعةِ ثقبِ إبرة، كانت ميراندا تقفُ منتصبةً وتهتفُ بصوتٍ عالٍ: "أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي!"
 
ميراندا نامت في البستان -- أو ربما هي لم تكن نائمة، لأن شفتيها كانتا تتحركان خفيفًا خفيفًا كأنما تهمسان :" إن هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم . . .  نعم، ضحكة البنات . . .  تتوهجُ. . .  تتوهجُ..... تتوهجُ." (4) بعد ذلك ابتسمت ثم تركت جسدها يغوص بكامل وزنه فوق الأرض الهائلة التي أخذت تصعدُ، ميراندا تفكر: كي تحملَني فوق ظهرها كما لو كنتُ ورقةَ شجر، أو،  ملكةً،  (هنا كان الأطفال يرددون جدول الضرب)، أو، تستأنفُ ميراندا، ربما أجد نفسي ممددةً في استرخاء فوق منحدر شاهق ومن فوقي تصرخ النوارسُ. كلما طارت لارتفاعاتٍ أعلى وأوغلتْ في السماء أكثر، تكملُ ميراندا، بينما المعلّمة توبّخ التلاميذ وتضرب جيمي فوق مفصلات أصابعه حتى تدميها، كلما بدا انعكاسُها(5) أعمقَ داخل البحر – داخل البحر ، أخذت تكرّر، بينما راحت أصابعُها تسترخي وشفتاها قد أُغلقتا بلطفٍ كأنما بدأت تطفو فوق صفحة البحر، آنذاك، حين علت صيحةُ الرجل السكران في الأفق، سحبت ميراندا شهيقًا عميقًا بنشوةٍ غير عادية، إذ تخيّلت نفسها تسمعُ الحياةَ ذاتها تصرخُ عبر لسان خشن فظ داخل من فم قرمزيّ داعر، خلال الرياح، خلال الأجراس، وخلال الأوراق الخضراء الملتوية لثمار الكرنب.
 
بطبيعة الحال كان حفل زفافها حينما عزف الأرغن لحن الترانيم القديمة والحديثة، وعندما قرعت الأجراس بعد أن أقامت النساء الستُّ الفقيرات صلاة الشكر في الكنيسة، راح الصوتُ المتقطّع المكتومُ النَكِدُ يدفعُها أن تفكر أن هذه الأرض ذاتَها ترتعد تحت حوافر الحصان الذي كان يركضُ نحوها بسرعة ( "آه، يجب عليّ أن أنتظر وحسب!"، تنهدت بحسرة)، وبدا لها أن كل شيء قد بدأ الآن يتحرّك، يصيح، يمتطي صهوةً ما، كل شيء بدأ يطير حولها ونحوها وخلالها وفْق تشكيل منتظم.
 
ماري تقطّع الأخشاب، تفكّر؛ بيرمان يرعى الأبقار؛ عربات اليد قادمةٌ لأعلى من ناحية المروج؛ الرجل الراكب - -  وهي راحت تقتفي أثرَ الخطوط التي خلّفها الرجالُ والعرباتُ والطيورُ، والرجلُ الراكب، على أرض القرية، إلى أن بدوا جميعاً كأنما يُجرفون للخارج في كل اتجاه، جرفتهم دقّةُ قلبها.
 
تبدّلت الرياح على ارتفاع أميال في الهواء؛ الريشة الذهبية لبرج الكنيسة أصدرت صريراً حادًّا؛ فقفزت ميراندا عاليًا وصرخت:" أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي !"
 
ميراندا نامت في البستان، أوَ هل كانت نائمةً، أم هل هي لم تكن نائمة?
فستانُها الأرجوانيّ كان ممدودًا ومنشورًا بين شجرتيْ التفاح. كان هناك أربع وعشرون شجرة تفاح في البستان، بعضها يميل قليلا، والبعضُ الآخر ينمو مستقيمًا على نحو رأسيّ بجزعٍ منبثقٍ لأعلى، الذي يتمدد بدوره في اتساعٍ ثم يتشعّبُ إلى فروعٍ وأغصان تتحوّر إلى قطرات مستديرة حمراء أو صفراء. كل شجرة تفاح كان لديها فضاؤها الكافي. والسماء كانت على قدِّ مسطّح الأوراق بالضبط.  حين كان نسيمُ الهواء يعصفُ، كانت خطوط الأغصان المقابلة للسور تنحني قليلاً ثم تعود. أبو فصادة كان يطير حذوَ القُطْرِ من ركنٍ إلى ركن. وعلى نحوٍ حذرٍ كان طائر الحَجَل المغرّد يحجل على ساق واحدةٍ ساعيًا نحو تفاحة تسقط على الأرض؛ ومن جانب السور الآخر جاء عصفورٌ يرفرفُ فوق العشب تماماً. أغصان الأشجار العلوية كانت موصولةً بالأسفل عن طريق تلك الحركات؛ والكلُّ كان مُحكماً وموثوقًا بأسوار البستان. لعدة أميال للأسفل، كانت الأرض مشدودةً بإحكام إلى بعضها؛ متموّجًّةً عند السطح بسبب الهواء المتذبذب المتمايل؛ وعبر أحد أركان البستان كان الأزرق-الأخضر(6) مشقوقًا طوليًّا بشريط أرجوانيّ(7). الرياح تتغيّرُ الآن، عنقودٌ من ثمر التفاح كان قد قُذف عاليًا جداً حتى أنه خبط ومحا تماماً بقرتين كانتا ترعيان في المرج. ( "أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي !!"، صاحت ميراندا)،  بينما التفاحُ راح يتدلى من جديد باستقامة، فوق السور.
 
--------
1 - كُتبت عام 1923
2 - 'Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le rire des filles éclate le mieux . . .'  – الجملة بالفرنسية (ت)
3 - opals   حجر كريم  يتغير لونه تبعا للضوء الساقط عليه – يسمى أيضًا عين الشمس (ت)
4 - 'Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le rire des filles………… éclate… éclate …….. éclate ' – الجملة بالفرنسية (ت)
5 - النوارس
6 - ربما خط الأفق عند التقاء السماء بالخضرة (ت)
7 - فستان ميراندا ربما ! (ت)
 
-------
* كاتبة وشاعرة ومترجمة مصرية
                                     مجلةالمهاجر
*عبدالرؤوف النويهى
24 - مايو - 2007
ترجمة الجملة الواردة بالفرنسية    كن أول من يقيّم
 
 
أرى أن نترجم الجملة الفرنسية : 'Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le rire des filles éclate le mieux . . .'
 
على الشكل التاليهذا البلد هو حقاً أفضل مكان في العالم تجلجل فيه ضحكة البنات .... !
 
*ضياء
24 - مايو - 2007
أبي ...    كن أول من يقيّم
 
الحافلة تتجه بنا، أنا وأبي••إلى مسقط رأسه بإقليم الناظور• قبل أيام من سفرنا أبلغني والدي أنه بلغ السبعين من عمره، فنزلت من عيني دمعة•• ظلت على مدار الساعات•• تعبر خدي مرتجفة باتجاه الروح•• وقد هيمن الليل على قلبي وانطفأت نجومه الطائرة• فجأة انتبهت أن أبي أصبح كهلا ولم يعد شابا، أصبحت له السند ولم يعد هو السند، كانت كفاه وجناحاه تحضناني من البرق والرعود، فأصبحت مطالبة بجناحين يرفعانه إلى الأعلى•• كي لا يسقط وحيدا في فنائه• تمنيت لو كان بإمكاني أن أنقص من عمري •• وأزيد في عمره كي أظل أصغر•• ويظل أبي الأقوى• تمنيت لو كان بإمكاني أن أقتسم معه شبابي•• كي يظل وسيما•• تماما كما كنت أراه في طفولتي• حين كنت طفلة، ورغم قصر قامته•• كان أبي يبدو لي شاهقا وهو يطل علي من أعلى•• وسيما، بشعر أسود كثيف، وأسنان مرصعة، ناصعة في بياضها• أما ابتسامته وغمازة ذقنه•• فكانتا فتنتي وغبطتي في منتهاها• مازالت الطفولة تسكنني•• وتحملني إلى أسرارها الملونة، حيث يبدو لي خلف زجاج القلب وحبات المطر البعيدة: أن أقوى تجربة حب في حياة المرأة هي حبها الطفو لي لأبيها•• وهي لا تفعل بعد ذلك سوى أن تحمل أباها في قلبها باحثة عن رجال يشبهونه، وتجارب تشبه تجربتها معه، لذلك ربما مازلت كلما التقيت رجلا يطل علي من فوق•• بأسنان ناصعة البياض وغمازة في الذقن•• تهوي بي جبال وكثبان وشطان وأنهار•• فأصبح في ثانية طفلة•• وتشرق شموس قلبي دفعة واحدة• وما زلت لا أستطيع منع نفسي من الافتتان بذقن رجل تتوسطه غمازة، فأتمنى لو أقترب منه بخفر مجنون، وأقبل الغمازة حتى أعضها•• تماما كما كنت أريد أن أفعل مع أبي في طفولتي•• حين تصورت يوما أن شخصا عض ذقنه••فترك فيه غمازة، فأردت أن أفعل مثله وأترك لأبي غمازة أخرى•• ليمتلأ ذقنه بالغمازات• أمام افتتان كهذا أحس أن الطبيعة فقيرة جدا•• فيما خلفته لنا من أساليب التواصل للتعبير عن إحساسنا بالجمال في عفويته الطفولية, وإلا ماذا يمكن لامرأة مثلي أن تفعل أمام غمازة في ذقن رجل تحبه ? هل تقبلها ? هل تعضها ? هل تغازلها وتقول فيها الأشهى من الكلام? أم الأفضل أن تغمض عينيها وترحل إلى طفولات بعيدة حيث تكون/ أكون هناك إلى جانب القمر• لكن القمر انطفأ فجأة•• دون أن يمهلني مساحة من الحلم، كي أفهم على الأقل كيف تسرب منا أنا وأبي كل هذا الزمن الهارب ? كيف لم أنتبه لسنواته السبعين ? • يبدو أن أنبل المشاعر الإنسانية تخفي وراءها نرجسيات ضخمة، وأنني أحتاج لشجاعة أكبر كي أطرح أسئلة أعمق تعكس مرايا روحي المضببة، فهل أرفض أن يكبر أبي، لأنني أرفض أن أكبر أنا ? لأن المسؤولية جبل شاهق يخيفني وكنت أريده أن يحملها عني وبشكل دائم ? كيف لم أنتبه إلى كون أبي إنسان ومن حقه أن يتعب فنحمل عنه الصخر كي يرتاح ? بل من حق أبي أن يعود طفلا ونصبح نحن أبناؤه الآباء ? أما تلك الدمعة التي مازالت تعبر خدي مرتجفة•• باتجاه الروح، فقد خلفت وراءها تجاعيد خفيفة تحت العينين•• على الجبين •• وزوايا الشفتين، تجاعيد أصبحت تكبر وتكبر•• وتحفر بشراسة على وجهي آلاما وتجارب لا تنتمي لي ولا تعبر عني، فأستيقظ كل صباح مشوشة، مضطربة البال•• أسرع إلى المرآة، فأرى وجهي يضيع مني يوما بعد يوما دون أن أفهم لماذا ???•• إلى أن فهمت•• لم أفهم في الحافلة وأنا متجهة مع أبي إلى مسقط رأسه• بالعكس في الحافلة ازدادت تجاعيد وجهي•• وخيل لي أني أرى ظلالها على زجاج النوافذ، ولم يشغلني عنها سوى استغراق أبي في ذكرياته••عن المجاعة وشبحها المرعب كما عاشها الريف المغربي في سنوات الأربعينات من القرن الماضي•• كان أبي يتحدث كعادته بكبرياء فريد•• وتلك أقوى خصوصيات شخصيته، وصفته الكبرى التي طالما نالت إعجابي وإعجاب الآخرين •• وهي ككل الخصوصيات الأصيلة في الشخصية الإنسانية تظل أقوى من استبداد الزمن ولا يزيدها العمر كلما تقدم إلا مرونة ووهجا وعمقا • لذلك فقد ظل كبرياء أبي في جبروته أقوى من جبروت الزمن، حتى وهو يتحدث عن الجوع الذي أذل أجيالا•• وشرخ أرواحا •• ظل يتحدث بشموخ عال•• ولا يرى من التجارب سوى أقواها ضوءا بالنسبة إليه، نساء باهرات الجمال ودعن الحياة على عتبات المنازل جوعا، ورفضن أن يبعن أجسادهن، رجال أغلقوا عليهم وعلى أبنائهم الأبواب لكي لا يرى انهيارهم أحد• ترى ماذا كان يفعل أبي في زمن الجمر هذا ? كيف واجه هو وعائلته شبح الجوع ? من الصعب لرجل مثله أن يحكي عن ما ظل يسميه باستمرار >بالأوقات الصعبة< كي لا يقول أيام الجوع•• كي لا يقول أيام الحرمان• أي كبرياء هذا الذي يعرف كيف يروض الكلمات حتى لا تكشف ضعفا مضى•• ولو في زمن بعيد• التجاعيد ذاتها مازالت تحفر خطوطها على وجهي، وقد وصلنا إلى القرية التي ولد فيها أبي، بل ازدادت تشابكا مع بعضها فيما يشبه القناع•• وأنا أستمع إليه يتحدث سعيدا مع عائلته بأمازيغية لا أتكلمها، رغم كونها ظلت تناديني لسنوات طويلة• أحسست أني أهوي في مجهول بعيد، أبي شاخ ولغته وهي ذاكرة هويته و كاشفة أسرارها، لا تكشف لي من تواريخها ولسانها إلا ضوءا شحيحا، لا يكفي لرؤية زوايا القلب كلها• فكيف لي أن أحيك وسادة صوفية وأنام داخل ثقافة هي في شراييني ولست في شرايينها ? ثقافة تحتاج أن نحملها لا أن تحملنا وقد أنهكها الغياب• ولو غاب أبي كيف أحافظ عليه بداخلي إن لم أحمل لغته وتاريخه وحضارته البعيدة، ومن دونها سأبتعد أكثر فأكثر عن نفسي •تلك أسئلة حاصرتني في قرية أبي، أجهل أجوبتها فتزداد التجاعيد في وجهي•• ويزداد قلقي والسؤال• أثناء عودتنا، ونحن ننزل من الحافلة، التفت إلى أبي بشكل مفاجئ وقد خطرت لي فكرة، فتسمرت بعيني في وجهه وتجاعيده•• كانت هي ذاتها التجاعيد الموجودة في وجهي، نفس الخطوط الدقيقة ونفس المنعرجات وفي نفس الأمكنة، كدت أصرخ من الدهشة والذهول والاستغراب، وأنا أتحسس وجهي مرة أخرى أمام المرآة في المنزل• إن التجاعيد في وجهي لم تكن تجاعيدي كانت تجاعيد أبي، اختارت أن تستقر في وجهي، حين فهمت في نقطة غامضة من الروح أني لا أستطيع اقتسام شبابي مع أبي، فقررت أن نشيخ معا• يبدو أن التجاعيد لا تحب أن نكتشف أسرارها، لذلك بعد أيام قليلة فقط من فهمي لأسباب تربصها بوجهي •• اختفت تماما وعادت لوجهي نضارته وبهاؤه، أما هي•• فربما اندفعت باتجاه وجوه لم تكتشف بعد أسرارها (?)كاتبة من المغرب، مقيمة بفرنسا afrodite8_8@yahoo.fr afrodite8_8@hotmail.fr
قصة .. آبي........ فريدة العاطفي http://www.alittihad.press.ma/affdetail.asp?codelangue=6&info=52998
*abdelhafid
24 - مايو - 2007
يوميات القاصة العراقية صبيحة شبر في المغرب..    كن أول من يقيّم
 
?لائـحـة الاتــهام? تـطول لـعراق الأمـجاد
28/05/2007 | فيصل عبد الحسن

صدرت عن دار الوطن بالرباط للعراقية صبيحة شبر مجموعة قصص قصيرة بعنوان ?لائحة الاتهام تطول?، والكاتبة نشرت مجموعة قصص بعنوان ?التمثال? عندما كانت تعمل مدرسة في الكويت، ثم نشرت عام 2005 مجموعة قصصية بعنوان ?امرأة سيئة السمعة?.
صدرت للقاصة العراقية صبيحة شبر المجموعة القصصية ?لائحة الاتهام تطول?، والكاتبة نشرت مجموعة قصص بعنوان ?التمثال? عندما كانت تعمل مدرسة في الكويت عن مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976 وواصلت النشر في الصحافة الكويتية باسم مستعار ?نورا محمد? بين سنة 1980 و1986، بسبب عملها في وسط محافظ في دولة الكويت، ثم نشرت عام 2005 مجموعة قصصية بعنوان ?امرأة سيئة السمعة? عن وكالة الصحافة العربية في مصر وضمت المجموعة الجديدة ?لائحة الاتهام تطول? التي صدرت قبل أيام من دار الوطن في الرباط 20 قصة قصيرة، اتسمت بقصرها و تركيزها وحيوية أبطالها، وقد اختارت القصة التي حملت عنوان المجموعة لرواية ما يحدث في وطنها العراق، مصورة في قصتها الرئيسية أحداثا تهز الوجدان وتقرب بين فنين من فنون القول، هما فن السرد القصصي وفن الاعتراف أو ما يسمى بكتابة اليوميات، التي تنهل أحداثها مباشرة مما يحدث حولها كمادة خام ولا تضيف إليها شيئا من بنات أفكارها أو خيالها، وبعدما فتشت الكاتبة في التاريخ القديم عن فترات مشابهة تعرض فيها الناس لإحداث مشابهة، معتبرة أن العراق عبر التاريخ بأهله وحكامه قد وقعوا تحت لائحة اتهامات كثيرة تبدأ بمقولات وخطب للحجاج بن يوسف الثقفي، الذي حكم ولاية العراق بمنتهى الصرامة والقسوة في فترة الحكم الأموي، ولا تنتهي بما يحدث في العراق منذ الاحتلال الأمريكي لهذا البلد، وحتى الوقت الحاضر فإنه في واقع الأمر لائحة الاتهام تطول لعراق الأمجاد منتصرا ومنتظرا لانتصار صار وشيكا.
مدرسة تعترف
القاصة تبدأ مرافعتها في مجموعتها بقصة ?المعلم? التي تحكي قصة معلمة تحضر إلى مقر عملها وهي تشعر بأنها مستلبة ومهانة، ولا غاية حقيقية من عملها سوى ملء بطون عائلتها بالخبز، فهي لا تجد في عملها أية قيمة معنوية، مبررة لنفسها أنه لا يوجد لها عمل آخر في هذه البلاد إذا فقدت عملها في المدرسة، وأنها إذا لم تنفذ المطلوب منها وهو غير شرعي وغير مؤمنة به فان مصيرها سيكون الطرد من العمل، والقصة تبدو من خلال السرد وتداخله مع المنولوج الطويل والحوارات المتقطعة التي تجيء على لسان المعلمة تحيلنا إلى أدب الاعتراف، واليوميات التي يحكي فيها السارد كل شيء كأنما يتطهر من ذنوبه عبر الكتابة مما يعطي القارئ الإحساس بأن الحادثة حقيقية وقد يتداخل النص القصصي بواقع حياة كاتبته، وأن القصة عبارة عن لائحة اتهام أخرى تضعها أمام المجتمع لتحصل منه على عقاب مناسب لمن جنوا عليها كإنسانة فقدت معالم شخصيتها من خلال الخوف من المستقبل وما سيحيق بها من أحوال سيئة في بلد غريب عليها، لا تعرف فيه أحدا ولا أهل لها فيه ولا أقارب ولا أصدقاء.
زوج يموت حرقا
لقد وضعت القاصة خبرتها كأستاذة عملت لعدة سنوات وما زالت في حقل التعليم حيث نجد حرارة الحدث ودينامكية الموقف والكلمة المعبرة في جعل الفعل خالدا في ضمائر القراء وفي قصة أخرى معنونة –تراجع عن قرار- ص20 تضعنا أمام نموذج امرأة تقرر قتل زوجها حرقا، فهو في كل ليلة يشرب حتى  يثمل وينساها كامرأة وزوجة وقد وضع بينه وبينها حجابا، وتنقل لنا الكاتبة إحباطا كبيرا بعالم الزوجية فهي تشعر أنها زوجته وفي الوقت ذاته منفصلة عنه، ومنذ سنوات كثيرة فهو لم يعاشرها كزوجة واعتاد في كل ليلة أن يقيم طقوسه على ضوء شمعة حيث يقرأ الكتب التي يحب قراءتها حتى يوافيه النوم وهو بين الصحو الغافي والثمالة، حيث ينسى دائما أن يطفئ شمعة القراءة التي تذوب ببطء، فتعمد الزوجة في كل ليلة إلى وضع الغطاء على النائم وإطفاء الشمعة التي تحترق ببطء، وتنبثق من هنا فكرة أن تدفع الشمعة صوب فراشه وتغلق عليه باب غرفته ليموت محترقا، ونرى في هذه الغرفة وحريقها المفتعل إضافة جديدة إلى لائحة الاتهام التي تطول في هذه المجموعة، وفي حرارة السرد نرى الكلمات وكأنها استلت من مذكرات حقيقية كتبتها امرأة عانت حقا من برود زوجها تجاهها وواجهها المجتمع بكل تابواته وشروط المرأة الصالحة والمدرسة المستقيمة، التي ينبغي أن تكونها بطلات قصصها، وهن بالمناسبة كلهن مدرسات ومعلمات، ما يؤكد ما افترضناه في بداية الكتابة عن المجموعة القصصية من أنها أقرب لمذكرات مدرسة ثانوية ويومياتها الضاجة بالأحداث والشكوى والأسرار.
لص وسط الرباط
في قصة أخرى تستخدم الكاتبة لغة الإيهام والتأويل التي تستخدم عادة لطرح مسائل فلسفية كبرى، فهي تضعنا في محكمة تكون هي فيها المدعية على جارها لأنه فتح باب القفص ليطير البلبلان المحبوسان إلى الحرية.. تكتب القاصة ص 37: ?نعم سيدي القاضي، كان ضيفاي بلبلين جميلين صداحين، عندما فتح لهما الباب طارا معا و تركاني وحدي انتظر عودتهما ، فلا شك أنهما قد فقدا معالم الطريق?.
في قصة سطو تحدد الكاتب بطلتها بمكان وزمان معينين، فالبطلة مدرسة تعيش في الرباط وفي أحد أيام حزيران (يونيو) القائظ تذهب إلى مدرستها عبر الشارع الطويل الموحش الذي في وسطه أشجار باسقة، ومن وصفها للشارع يعرف ابن الرباط العارف بالعاصمة أنها تعني شارعا بعينه هو شارع النصر الذي يتوسط الرباط، حيث تتعرض المدرسة  السائرة إلى مدرستها وهي بين اليقظة والحلم للسطو ص 55: ?شيء بارد يقف على رقبتي، سكين حاد نصلها تقطع حقيبتي اليدوية وهي على كتفها صوت قهقهة مكتومة يسخر مني:
-بمن تحلمين أيتها الحلوة? اسمع صوت الدراجة البخارية يبتعد، الحظ راكبها من الخلف، يبدو مجعد الشعر أسوده يرتدي الجينز، لم أستطع تسجيل رقم الدراجة كلما فعلته إنني صرخت: أيها اللص، اعد إلي حقيبتي?.
وفي القصة يظهر حبيبها الأول الذي ارتبط بها بزواج فاشل يظهر ويختفي من خلال المنولوجات التي تتخلل القصة، حيث تحاول الكاتبة وضع اللص كمعادل موضوعي لذلك الحبيب الذي فشلت عند الارتباط به وأحال حياتها جحيما، والكاتبة تحاول في كل قصة من قصصها أن تجد التعارض المطلوب في العمل الأدبي، أي أنها تضع القبح بموازاة الجمال والخوف بموازاة الأمان والحياة بموازاة الموت والشجاعة بمواجهة الجبن والفرح بمواجهة الحزن.
لائحة الاتهام تطول
في القصة التي حملت عنوان المجموعة تتركنا الكاتبة في قاعة وسط عدد قليل من الحضور وتكون الراوية مشدودة اليدين مكممة الفم تسمع ما يقوله الادعاء في حقها ص 60:
?تهمك كثيرة سيدتي، أنت واقفة منذ دهر، تورم منك القدمان، وانتفخ الساقان وانتفض القلب، وأرعد وأزبد يبست شفتاك ثم تكمل القاصة ربطوا فمك فماذا يمكنك أن تفعلي? طالما انتفضت ثرت قاومت، قواك أوشكت على الانطفاء وعيناك المربوطتان ما زالتا وهاجتين?.
عالم القصة يذكرنا برواية ?القضية? للكاتب الألماني المعروف فرانس كافكا وبطله المستر كاف الذي يقع ضحية اتهامات كثيرة، حتى يحكم عليه بالإعدام في نهاية الرواية المعروفة اسمع للقاصة تقول عن الاتهامات الموجهة إلى بطلتها في قاعة المحكمة المفترضة:
?أثرت الشقاق والنفاق بين أفراد المجتمع الراضي المسرور، زرعت الفتنة في الأرض الخضراء فولت بورا، لسانك الطويل حول البياض سوادا فاحما والنهار الساطع ليلا بهيما والقانع الراضي ثائرا ساخرا.
-أنت نقمة سلطها الشيطان على هذه الأمة المنكودة، فسلب منها اليقين المفرح وسرق رضا الله، حين عصت ولي الأمر?، وتتداخل صرخات المدعي العام مع منولوج داخلي للمدرسة تحول كلام المدعي العام إلى جمل سمعتها من زوجها الذي هجرها من زمن طويل، ويختلط الجمهور في ذهنها بمجموعة من قاطعي الطريق والمجرمين ص 62:
?الجالسون ينظرون بشماتة، يتناولون المرطبات بسرور وبهجة.. يتفرجون على مخلوق غريب في وسط القاعة، معصوب العينين مربوط اليدين، قد خيطت منه الشفتان وتورمت القدمان، وانتفخت الركبتان والقلب قد مل من الوجيب?. نلاحظ هنا اختلاط الصور وقربها من آلام -مستر كاف العراقي- ولكن آلأمه مجموعة من الروابط جمعتها بآلام أبناء وطنه ص69:
?قومك أهل شقاق ونفاق، شقاق ونفاق، شقاق ونفاق.
وزوجها يصرخ في ذاكرتها:
تزوجنا? نعم هل تريدين احتكاري? أنا من لحم ودم. أعشق الجمال. أود من تتغنى بشمائلي، وأنت لن تعودي قادرة على العيش السليم، ورؤية ما أتحلى به من مناقب، وما أتميز به من شمائل.
-هذه المتهمة الماثلة أمامكم أم المصائب التي حلت في ديارنا أطالبكم أيها القضاة، يا رجال العدالة أن توقعوا بالمجرمة أقصى العقوبات وأن تعيدوا إلى ربوعنا المعذبة أمنها المسلوب ص? 70.
تتبارى القصص العشرون في هذه المجموعة لتكون كل واحدة منها يومية من يوميات مدرسة عراقية تعيش في المغرب تحكي مالها وما حدث لها، راسمة طيلة الوقت دمعة كبيرة بحجم خارطة العراق. تحاول بين الحين والحين أن تمسحها بابتسامة أمل ونظرة تحد إلى الغد على أمل أن يكون رحيما بأوجاع الباحثين عن الحياة في بلدان غير بلدانهم متشبثين بماضيهم مثل شراع قديم إلى الأبد.
 
** جريدة المـسـاء المغربية.
 
*abdelhafid
29 - مايو - 2007
 2  3  4  5  6