اعتقد أن الحضارة العظيمة التي نشأت وامتدت في الفترة ما بين القرنين التاسع والخامس عشر للميلاد والتي قدمت مئات العلماء الموسوعيين في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية, إنها حضارة لم تنشأ من الفراغ. بل قامت على أكتاف حضارات عظيمة لا تقل أهمية ومكانة منها مثل الحضارة اليونانية والفارسية والهندية والسورية والخوارزمية وغيرها. وهذا شيء منطقي وطبيعي. وبدأت تلك الحضارة بالترجمة وقد كان المترجمون من غير العرب وغير المسلمين في البداية. ثم تعلم العرب والمسلمون وأصبحوا ليس مترجمين فقط وإنما مكتشفون لنظريات جديد ودخلت أسمائهم التاريخ من بابه العريض.وقد كان هؤلاء العلماء من أجناس وقوميات مختلفة مثل الفرس (عمر الخيام) والأوزبيك (الخزارزمي والبيروني وابن سينا والفارابي و...) والسوريين (قسطا بن لوقا) والصابئيين (ثابت بن قرة الحراني) وحتى اليهود مثل السموأل المغربي (الذي أسلم فيما بعد) وابن ميمون (طبيب الخليفة - وعلى فكرة توجد جامعة يهودية في موسكو تحمل أسم ابن ميمون) وغيرهم.
ما أريد قوله هنا وهو ما كررته في محاضرات كثيرة ألقيتها في مجال تاريخ الرياضيات العربية, هو أن تسمية العلماء بالعرب والمسلمين هي تسمية ثقافية معنوية ولا تعني القومية أو الجنس أو مكان الولادة.
ولو كان هناك جوازات سفر في ظل الدولة العربية الإسلامية في القرون الوسطى لحمل هذه الجنسية كل العلماء الذين نتحدث عنهم. وهذه الحالة تشبه وضع العلماء الذين يقيمون حالياً في أمريكا وهم من جنسيات مختلفة مثل العالم أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء وهو من أصل مصري. لكنه يحمل الجنسية الأمريكية. ومنح جائزة نوبل كعالم أمريكي وليس مصري. وهذه حقيقة. رغم أن أحد لا ينكر أصل العالم وجنسيته.
الزملاء الأعزاء: اعتقد أن مشكلتنا في العالم العربي والإسلامي ليست بالتسميات بل في الاستفادة من تلك التجربة التاريخية الرائدة التي أثبتت أن العرب والمسلمين ساهموا في صنع الحضارة الإنسانية وتقدمها ولعبوا دوراً مشرفاً لا نستطيع أن نقدره الآن ولسنا جديرين على المستوى الرسمي أن نحمل رايته.
ومن المفيد أن نذكر في هذا الإطار كيف أن الأوزبيك يحتفلون بالبيروني والخوارزمي والطاجيك يابن سينا والإيرانيون بعمر الخيام على أنهم أبناء جلدتهم وليسوا عرباً بل مسلمون.
وهناك مصطلح يستخدمه المؤرخون الروس في تاريخ العلوم عند الحديث عن العلماء العرب والمسلمين بقولهم العلماء ذوي اللغة العربية (أي الذين كتبوا وتكلموا باللغة العربية) لكي يحلوا هذا الإشكال.
وهناك الكثير من المؤرخين الغربيين الذين يستخدمون عادة مصطلح الرياضيات العربية وأحياناً قليلة الرياضيات الإسلامية.
لذلك المشكلة هنا في المضمون وليست في الشكل مع أهمية التسمية.
وأنا أتفق مع الإخوة الذين قالوا أن الحضارة عربية إسلامية لأن الدولة والثقافة كانت عربية إسلامية.
وهناك مثال مفيد في هذا الإطار: اللغة اللاتينية كانت لغة العلم في أوروبا في القرون الوسطى علماً أن الحضارة لم تسمى بالحضارة اللاتينية.
ولذلك تسمية الحضارة عربية فقط فيه إجحاف لأن نسبة العلماء من أصل عربي كانت أقل مقارنة مع الأجناس الأخرى. وتسميتها بالإسلامية فيه إجحاف بحق غير المسلمين.
وكلمة أخيرة إن قوة الثقافة العربية الإسلامية تأتي من قدرتها على استيعاب وهضم كل الثقافات التي سبقتها أو احتكت معها ثم أبدعت علوماً أصيلة. ومثال ذلك حضارة الأندلس الرائعة التي تعايش في ظلها المسلمون والمسيحيون واليهود وأبدعوا. وهذه تجربة نادرة.
لذلك الثقافة هي مزيج زهي تتفاعل وتأخذ وتعطي. أما التعصب بكل أشكاله فهو دليل التخلف والضعف.
وشكراً.