البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الجغرافية و الرحلات

 موضوع النقاش : الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 سعيد 
27 - يناير - 2007
 
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، منشورة في مجلة المنار: المجلد 23 الجزء 2 جمادى الآخرة 1340 / 1922 ، في سبع حلقات على التوالي في المجلد 23 الصفحات: 114 ـ 306 ـ 383 ـ 441 ـ 553 ـ 635 ـ 696 .
  أحببت نشرها كاملة لما فيها من الفوائد (أدبية علمية سياسية...).
  وسأنشرها في حلقات متتابعة بحول الله وقوته، من غير تصرف في النص بزيادة أو نُقصان، وهذا أولها:
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
يتبع:    كن أول من يقيّم
 
  أما بعد : فإن غرضنا من الإلمام بهذا البحث تنبيه القراء إلى ما يجب على المسافر من بلاده إلى أوربة وغيرها من الدقة والاقتصاد في النفقة ، وحفظ ماله أن يضيع فيما لا يفيد صاحبه حمدًا في الدنيا ، ولا ثوابًا في الآخرة ، بل هو من إسراف الغباوة الذي يحتقر فاعله كل عاقلٍ وقف على حاله .
  إن مَن لا يعرف ميشيل لطف الله إذا سمع أنه يساوم في أثمان طعام الفنادق ، وينبه مَن يوليه أمر نفقته إلى أمثال هذه الدقائق - يظن أنه ممن يصح أن تُكتب أخبارهم في نوادر البخلاء ، أو أن الدافع له إلى مثل هذا التوفير الفقر والإملاق ، أما وكُلُّ مَن يعرف الرجل يعلم أنه من أكبر أهل النعمة والثراء ، ومن أشهر الأجواد والأسخياء ، وأنه مُقري الضيوف ، ووهَّاب الألوف ، فكيف يفهمون بعد هذا منه ، ما روينا من هذه الدقة في التوفير عنه ? !  لا شك أن سفهاء الوارثين المعروفين في هذه البلاد - وهم لا يعقلون معنى لكلمتي التوفير والاقتصاد ، الذي عليه مدار ثروة الأمم والأفراد - يعدون ذلك من الهنَّات المستهجَنَات ، ويكثرون التنادُر بها ، واختراع النكات لها ، وأما أهل العلم والبصيرة فهم الذين يقدرونه قدره ، ويعلمون أنه من العقل والحكمة ، والشكر الذي تدوم به النعمة ، وإنني - قبل التثريب على أولئك السفهاء المسرفين - أذكر لهم مثلاً من قصد الأجواد المتقدمين والمتأخرين .
  روي في مناقب الإمام الحسن السبط - عليه السلام - أنه جاء المدينة المنورة تاجر من العراق بأحمال من أجود الثياب ، فاشتراها منه الحسن بعد أن بالغ في المساومة معه ، ولم يترك له من الربح إلا القليل ، ثم أخذ منها ثوبًا أو ثوبين ، ووزع الباقي على الحاضرين ، فقال له التاجر : يا ابن رسول الله ، لقد بالغت في مساومتي حتى لم يكن لي من الربح على تعبي إلا القليل ، وقد كنت أحق من هؤلاء الناس بمثل ما أعطيتهم - أو ما هذا معناه - فقال له الحسن : ( المغبون لا محمود ولا مأجور ) ، أي لا هو مهدي هدية فيُحمد ، ولا متصدق فيُؤجر ، وهذا حديث مرفوع رواه الخطيب عن أبيه والطبراني عنه وأبو يعلى عن أخيه الحسين - عليهم السلام - .
  وما رأيت أحدًا من الأغنياء العقلاء أشبه بالأمير ميشيل في إنفاقه وتوفيره ، من الشيخ قاسم آل إبراهيم التاجر العربي الشهير في بومبي ( الهند ) ؛ فقد عهدناه ينفق من سَعَته في الأعمال العامة كالمدارس ، والإعانات للدولة العثمانية ، فيهب المئات والألوف من الجنيهات ، ولا يطمع أهل الكدية والاستجداء منه بدينارٍ ، ولا درهم ، وإن وقف على بابه طول النهار ، وأطراه بالبليغ من الأشعار ، على أن ميشيل لطف الله كثيرًا ما يعطي الشعراء والأدباء ، ولكن دون ما يهب للمدارس والجمعيات الخيرية والأعمال السياسية .
  فأمثال هؤلاء الأغنياء هم الذين يعرفون كيف يحفظون نعمة الله عليهم بالثروة ، ويكونون أهلاً للمزيد ، والزكاء فيها على كثرة النفقة .
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
تابع...    كن أول من يقيّم
 
  هذا ، وإن ما يمكن توفيره من نفقات السفر في أوربة من غير إزراء بصاحبه ، ولا نقص في تمتُّعه - ليس بالشيء التافه الذي لا يُعتَد به ، وناهيك باختيار المواقع ، ومساومة أصحاب المنازل والفنادق ، وقد علمنا أن أهم سبب غلاء المواد الغذائية في سويسرة وغيرها وارتفاع أجور الفنادق - هو جعْل ورقها النقدي ( بنك نوت ) بسعر الذهب لا ينقص شيئًا ، وقد كان هذا سببًا لقلة قصد السائحين إليها بعد الحرب ، كما كان يعهد قبلها ، حتى سائحي الإنكليز والأميركيين الذين هم أكثر الشعوب سياحةً وأوسعهم فيها نفقةً ، فقد تجولنا بعد فضّ مؤتمرنا في أشهر بلادها ، ورأينا أشهر فنادقها ، فلم نجد إلا القليل من السائحين فيها ، ولما ذهبنا إلى ألمانية وجدنا الفنادق غاصَّة بالناس من أهل سويسرة وغيرهم ، حتى إنك لَتطوف على الكثير منها ، فلا تجد لك حجرة فيها ، كما سيأتي في محله ، وإنما كثر الغرباء في مدينة جنيف وحدها لما ذكرنا من اجتماع جمعية الأمم فيها ، وكثرة قصد المشتغلين بالسياسة إليها .
  الفرنك السويسري كالفرنك الفرنسي ، والليرة الإيطالية وغيرهما من نقد دول الاتحاد اللاتيني ، كلها متساوية في وزنها الفضي وسعرها الذهبي ، ولكن التعامل العام قد انحصر منذ اشتعلت نار الحرب في الورق ، وهو مختلف السعر الآن ، حتى في البلاد التي يُطبع فيها بحسب الثقة المالية قوةً وضعفًا ، والمعيار العام في أوربة لهذا الورق ( البون ) الإنكليزي ؛ لأن مالية إنكلترة أثبتُ من غيرها من الدول الأوربية التي اشتركت في الحرب ، ولا يعلوها في ذلك إلا الولايات المتحدة وسويسرة ؛ فإنها كالولايات المتحدة في سعر القطع ، ففرنكها لا يقل عن أربعة قروش مصرية صحيحة .
  وإن شئت مثالاً من أمثلة غلاء الفنادق الغريب في سويسرة ، فاعلم أن ثمن البيضة في السوق قرشان مصريان ، كما أخبرنا توفيق أفندي اليازجي ، وهي في الفندق أغلى ، وأن أجرة غسل بعض الثياب في شهر واحد قد يزيد على ثمنها ضعفًا أو ضعفين أو أكثر ؛ فإن أجرة غسل كل من المنديل والجورب وكيّه لا يقل عن فرنكين سويسريين كأجرة القميص واللباس ، وقد يكون في بعضها أكثر ، أفليس شراء جديد بدلاً من المتَّسخ هنالك خيرًا من غسله ، كلما استعمل كما هي العادة ? ، وقد هال رياض بك صلح أنه دفع جنيهين أجرة لغسل ثيابه في الفندق الذي نقيم فيه ( أوتيل دي برج ) ، ومتوسط نفقة الطعام في سويسرة جنيه إنكليزي أو مصري في اليوم وفي فندقنا وما ماثله أكثر ، وفي بعض مطاعم السوق أقل .
  وهذا الفندق من أغلى الفنادق أجرةً وطعامًا إن لم يكن أغلاها ، والطعام فيه أجود وأكثر منه في فندق فيكتوريا الذي نزلنا فيه أولاً ( وكتب أولاً فندق إنكلترة سهوًا وطُبع ) ، فالألوان هنالك قليلة ، وهنا كثيرة جدًّا ، ولكن لكل يوم بل كل وجبة- ألوانًا معدودة لها ثمن معين ، ومن طلب غيرها مما يوجد دائمًا رهن الطلب كالفراخ والسمك والطير وسائر اللحوم بأنواعها فعليه أن يدفع ثمنه ، ومن عاف شيئًا من طعام الوجبة فله أن يطلب بدلاً منه بغير ثمن جديد ، وكنت دائمًا أطلب بدلاً من الألوان التي يدخل فيها لحم الخِنزير ، والجبنُ من متممات الطعام يجوز أن يستبدل به بعض الفاكهة ، وهي كثيرة وجيدة الا التين ؛ فإنه قليل ورديء ، وقيل لنا إنه يأتي من أسبانية وأكثر العنب غير جيد أيضًا .
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
*** استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين :    كن أول من يقيّم
 
 *** استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين :
  هؤلاء الأغنياء المسرفون هم الذين يبذرون الأموال في سبيل الشهوات المحرمة والفخفخة ، الجديرون بأن يُسلبوا ما وُهبوا من النعمة ، يتوهم الجاهل المغرور منهم أن الشرف والفخار ، في استمالة الفواجر والفجار ، وتملق سماسرة الفسق من قواد وخُمار ، وشخوص الأبصار على موائد القمار ، وإطراء المخادعين من الطامعين والشطار ، وتغرير السماسرة الأشرار ، فتراه بينهم يعطي باليمين واليسار ، ويشتري سلعة الدرهم بالدينار .
  إلا أن هؤلاء الأغنياء الأغبياء ، والمبذرين السفهاء ، هم أعداء الله تعالى وأعداء دينه ، وأعداء أوليائه من فضلاء الناس وخيارهم ، وأولياء أعدائه من أشرارهم ، وأعداء أمتهم ووطنهم ، وأعداء ذوي قُرباهم ، ولا سيما أزواجهم وأولادهم ، فهم إذًا أعدى أعداء أنفسهم .
  أما كونهم أعداء الله وأعداء دينه ، فهو أنهم يكفرون نِعَمه عليهم بالمال وبالجوارح ، والمشاعر ، والحواس باستعمالها فيما يخالف شرعه الحكيم ، ويضل عن صراطه المستقيم ، وقد وصفهم في كتابه بقوله : [ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ]( الإسراء : 27 ) ، ويدخلون في عموم قوله : [ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ]( غافر : 43 ) ، ولا نطيل في تذكيرهم بآيات ربهم ؛ فهم عن ذكره معرضون .
  وأما كونهم أعداء أولياء الله أهل الفضائل ، فهو أن الإسراف قد هبط بهم إلى أسفل دركات الرذائل ، وإنما يحب الإنسان شبيهه ، ويكره بمقتضى الطبع مخالفه وضده ؛ ولهذا وصفهم الله بأنهم إخوان الشياطين ، وهو يصدق بشياطين الإنس والجن ؛ ولذلك جمع ، فأما شياطين الجن فهي ما يجدون أثره في خواطرهم ، ووساوس أنفسهم ، التي تزين لهم الفسق وتلبِّس عليهم الحقائق ، بتسمية الرذائل بأسماء الفضائل ، كتسمية الإسراف جودًا وكرمًا ، وتملق المنافقين ( النصابين ) جاهًا ومجدًا ، وتهافت العواهر وخدمة الحانات والمواخير عِزًّا وشرفًا ، وأما شياطين الإنس فهم قرناء السوء المنافقون المتملقون الذي يتهافتون على الأغنياء المسرفين ، ولا سيما الشبان الوارثين ، فيزينون لهم في الظاهر ، ما يوسوس به الشيطان في الباطن ، فهم شر منه وأقدر على الإغواء ؛ لأن التناسب بين شيطان الجن والشرير من الناس نفساني فقط ، وأما التناسب بينه وبين شيطان الإنس فهو نفساني وجسداني ، ذاك يشغل قلبه وخاطره ، وهذا يملك باطنه وظاهره ، فيشغل سمعه وبصره ، وذوقه ولمسه ، ويكون قدوة سيئة له في جميع الرذائل ، وشاغلاً ، بل منفِّرًا له عن معاشرة الأفاضل .    وأما كوْنهم أعداء وطنهم وأمتهم فله مظاهر كثيرة أدبية : كسوء القدوة في إفساد الأخلاق ، وشرحه يطول ، واقتصادية كتحويل ثروة البلاد إلى الأجانب ، أنبأني نخلة باشا المطران في القسطنطينية سنة 1329 ، قال : أنبأني رجل من كبار الماليين في باريس أن متوسط ما تربحه باريس وحدها من المصريين في كل صيفٍ ثلاثون مليون فرنك ( وهو مليون ونصف مليون دينار ( بنتو ) إفرنسي من الذهب ) ، ومثل هذا الإحصاء خاص بما يمكن العلم به، ويتناوله الإحصاء عادة كأجور الفنادق ، والملاهي ، والملاعب ، والحانات ، وربما كان منه مواخير البغاء الرسمية دون ما يُعطَى للأخدان ، ويقال : إنه قلما يوجد رجل من الذين اعتادوا الاصطياف في أوربة من المصريين ؛ لأجل التمتع بالشهوات ، ليس له خِدن يكثر الاختلاف إليها في بيتها ، أو تختلف إليه في البيت الذي يقيم فيه من الفنادق العامة أو الدور الخاصة التي يُعرف واحدها ( بالبنسيون ) .
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
القمار...    كن أول من يقيّم
 
وللقمار مَقامِر عامة يمكن إحصاء ربحها وخسائر الشعوب فيها ، ولكن المبتلين به لا يحصرون مقامرتهم فيها ، بل يقامرون أصدقاءهم وأخدانهم من النساء والرجال في البيوت والملاهي والمنتزهات ، وقد بلغنا أن عمر باشا سلطان قد خسر بالمقامرة في صيف سنة واحدة ( لعلها السنة التي مات فيها ، أو السنة التي قبلها ) ثلاثين ألف جنيه مصري .
  إن أكثر الأغنياء الأغبياء - ولا سيما الشبان الوارثين منهم - يخوضون بحار هذه الموبقات بغير عقلٍ ، ولا حساب ، ولا تقدير ؛ فهم ليسوا كالإفرنج الذين لهم من العلم والتربية ما يقف بهم عند حدود من الاقتصاد فيها كغيرها من النفقات المشروعة ، بلغني أن المقامرين منهم يضعون في ميزانية نفقاتهم السنوية مبلغًا معينًا من الدخل ، يوزعونه على الشهر ، لا يتجاوزون قسط الشهر ربحوا أم خسروا .
 والمقامرون - ولا سيما المسلمين الجغرافيين أو الرسميين من أهل بلادنا - قلما يقف أحد منهم عند حد ، أو يتقيد بنظام، وإن خسر دخل السنة كلها في أسابيع أو أيام ، بل يقترض بعد ذلك بالربا الفاحش ، ويرهن أملاكه لعدم قدرته على كبح جماح نفسه ، والوقوف بها عند حد من شهواته ، ولو أن الجرائد تنشر أخبار هؤلاء السفهاء ، وما يخسرون في القمار وسائر طرق الفسق والفجور - لكان لها تأثير عظيم في ردعهم ، واعتبار الناس بسوء حالهم .
  إن آخر ما سمعت من أخبار هؤلاء المسرفين خبر شاب من الوارثين كان قد أنفق مبلغًا عظيمًا في سبيل العلم ، فظننت أنه سيكون كالشيخ قاسم إبراهيم في جده وعقله في بذله ، وبُعده عن اللهو الباطل وأهله ، أو كالأمير لطف الله في جمْعه بين منتهى أبهة التمتع بزينة الدنيا وطيباتها ، وبين أعمال البر والمعروف مع النظام والتدبير فيهما ، ولكن خاب الأمل فيه ؛ إذ علمت أنه غلا في الإسراف والتبذير غلوًّا كبيرًا ، لعله لا يدَع له فتيلاً ولا نقيرًا ولا قِطْمِيرًا ، فهو ينفق أضعاف ما ترك له والده الحريص من الدخل الكبير ، وطفق يقترض بالربا الفاحش ، ويرهن ويبيع ، فحزنت وأنا لا أعرفه عليه ، وتمنيت لو تخلُص مثل هذه النصيحة إليه ، وأن لا يكون إن نصح ممن قال الله فيهم : [ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ]( الفرقان : 44 ) ، ومَن قال فيهم : [ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ ]( الأنفال : 23 ) .
  وكذلك ما ينفقه هؤلاء في وطنهم يتسرب أكثره إلى جيوب الأجانب أيضًا ؛ فإنه إنما يذهب في الفجور ، وأكثر الفواجر منهم ، والخمور وجميعها من صادرات بلادهم ، والقمار وهم أصحاب القدح المعلى فيه ، أَوْ رِبا الديون وهم أصحاب المصارف ورؤوس الأموال له .
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
عداوة الوطن:    كن أول من يقيّم
 
  أي عداوة للوطن وجناية عليه أكبر من نزح ثروته منه وإعطائها للأجانب ? ، ولو أن هؤلاء السفهاء يجعلون ما ينفقون في غير الضارّ لهم من شهواتهم ، وفيما ينفع الوطن من المشروعات العلمية والعملية لأمكن لمصر أن تضارع أوربة ، وتباريها في زمن قصير ، سواء كان هذا البذل تبرُّعًا في سبيل المصالح العامة ، أو استغلالاً للمال فيما يرقي الزراعة ، والصناعة ، والتجارة ، ويحفظ ثروة البلاد من الضياع ، ولو أنهم يشترون به سندات دَيْن الحكومة وسهام الشركات والمصارف العقارية وغيرها - لأمكنهم إعتاق حكومتهم وأمتهم من استرقاق الإفرنج الاقتصادي لها ، وجعْلها حرة مستقلة في إدارة ثروتها ، والاستقلال الاقتصادي أنجح ذرائع الاستقلال السياسي إذا كان مفقودًا ، وأقوى دعائمه إذا كان موجودًا .
  وأما عداوة هؤلاء الأغنياء الأغبياء لأهلهم وأولادهم فهي أنهم أسوأ الناس قدوةً لهم في الفساد الذي أشرنا إليه ، وأقلهم عنايةً بتربيتهم الصالحة ، فكثيرًا ما يفنون ثروتهم كلها في حياتهم ، فلا يتركون لأولادهم ما يعيشون به كما اعتادوا ، فيكونون أشقى الناس ، ونتيجة ما ذُكر أنهم أعدى أعداء أنفسهم ، والجناة عليها في دنياها وآخرتها .
  إننا بالتجوال في أوربة ورؤية مناظرها الجميلة والتمتع بهوائها المعتدل في فصل الصيف ، ووجدان جميع أسباب الراحة - عرفنا تجربة ذوق ، واختبار عذر أغنيائنا في إقبالهم على الاصطياف فيها هربًا من حر قطرهم وغباره ، ولكننا لا نرى لأحد منهم عذرًا ما في إنفاق شيء من ثروة الوطن في غير أثمان ما يتمتعون به من طيبات الرزق ، وأجور السكن ، والتنقل في البر والبحر ، إلا أن يكون فيما فيه منفعة معنوية لهم أو لأمتهم ووطنهم في علم ، أو ثروة ، أو سياسة ؛ فإن في أوربة من ينابيع العلم ، ومصادر المعارف ، ومجال الأعمال السياسية ما ليس في مصر ولا في غيرها من البلاد ، ولكن لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من اللذات الجسدية لا يوجد مثله في مصر ، وسيأتي بيان ما تمتاز به في مكان آخر .
 
________________________
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
 1  2