البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الجغرافية و الرحلات

 موضوع النقاش : الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 سعيد 
27 - يناير - 2007
 
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، منشورة في مجلة المنار: المجلد 23 الجزء 2 جمادى الآخرة 1340 / 1922 ، في سبع حلقات على التوالي في المجلد 23 الصفحات: 114 ـ 306 ـ 383 ـ 441 ـ 553 ـ 635 ـ 696 .
  أحببت نشرها كاملة لما فيها من الفوائد (أدبية علمية سياسية...).
  وسأنشرها في حلقات متتابعة بحول الله وقوته، من غير تصرف في النص بزيادة أو نُقصان، وهذا أولها:
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الرحلة الأوربية ( 1 )    كن أول من يقيّم
 
الرحلة الأوربية ( 1 )
مقدمة :
  كادت أوربة تسود العالم الأرضي ، وتستعبد جميع شعوب البشر ، وتسخرها لخدمتها ، ولولا أن تفلَّت جل العالم الجديد في غربي الكرة ( أميركة ) من قبضة يدها ، وتلاه الشعب الياباني في شرقيها ، فساوى الشعوب الأوروبية في العلم ، والصناعة ، والنظام ، وإتقان فنون الحرب وآلات القتال ، ووسائل الثروة وتدبير المال ، وأما سائر بلاد المشرق من آسيوية وإفريقية ، فكانت خاضعة خانعة لدول الاستعمار الأوروبية على تفاوت بينها في هذا الخضوع ، فمنها ما يعد مُلكًا خالصًا لهن ، ومنها ما يسمى التصرف فيه حمايةً أو احتلالاً ، ومنها ما يسمى مناطق نفوذٍ سياسية أو اقتصادية أو امتيازات دولية ، دَعْ النفوذ العلمي الذي سيطروا فيه على الأفكار بتأثير مدارسهم ، وانتشار لغاتهم ، وبثّ مطبوعاتهم ، والنفوذ الديني الذي سيطروا فيه على القلوب ، والأرواح ببعثاتهم الدينية ، وما أُنشِئ لها من المدارس ، والمستشفيات ، والأندية ، وما يطبع لها من الكتب ، والصحف المنشرة ، ولا تنس في هذا المقام تأثير تجارهم وسيَّاحهم ، ولا تأثير عاداتهم وأزيائهم ، ولا أتحامى ذكر تأثير بغاياهم ، وفواجرهم في إفساد الأخلاق ، وحاناتهم ومقامرهم ، واستنزاف الأموال .
  فبهذه المزايا ، والصفات ، والمظاهر ، والأفعال ( حسنها وقبيحها ) - تنجذب قلوب الناس إلى رؤية بلاد هؤلاء الناس على اختلاف المقاصد ، والنيات ؛ فهي كعبة طلاب العلوم والفنون والصناعات ، كما أنها هيكل عُباد الشهوات ، والتمتع باللذات ، فترى الناس يرحلون إليها من جميع أقطار الأرض ، أفرادًا وثُبَاتٍ وأكثرهم يبتغون بالرحلة إليها التمتع بمشاهد عمرانها ، واحتساء كؤوس لذاتها ، ومنهم من يؤمها للاستشفاء بهوائها ومياهها المعدنية ، أو لِعرْضِ نفسه على أطبائها أُولِي الأخصاء في فروع الطب والجراحة ، ومنهم مَن يلمّ بها لاستبضاع عروض التجارة أو غير ذلك من الأعمال المالية ، ومنهم من يهاجر إليها لطلب العلوم الكونية والقانونية ، والفنون والصناعات المختلفة ، ومنهم من يتسلل إليها للقيام بأعمال سياسيةٍ .
  ولعل أقل زائريها مَن ينوي تكميل عقله ، وتجارِبه بالاختبار ، والاعتبار بما يرى ، ويسمع ، وأرجو أن أكون من هذا القليل ، وإن كان المحرك لهذه الرحلة والداعي إلى جعْلها في الزمن الذي وقعت فيه ، وإلى المكان الذي كان جلها فيه - ليس إلا الخدمة السياسية لوطن المولد والتربية .
  ذلك بأن حزب الاتحاد السوري - وهو أحد الأحزاب السياسية التي كنت من مؤسسيها والعاملين فيها - قد قرر برأيي وموافقتي أن يدعو الأحزاب السورية الاستقلالية إلى عقد مؤتمر سوري في مدينة ( جنيف ) من بلاد ( سويسرة ) ؛ حيث تجتمع جمعية الأمم لأجل المطالبة بحق سورية في الحرية ، والاستقلال الصحيح المطلق من كل قيدٍ ينافيه ؛ ولأجل جمع كلمة هذه الأحزاب ، وتعاونها على العمل دائمًا ، وبناءً على هذا القرار نشر الحزب المنشور الآتي :
*سعيد
27 - يناير - 2007
أنا فى شوق    كن أول من يقيّم
 
أنا فى شوق متزايد للقراءة
 
بارك الله فيك 000ياأخى سعيد 0
*عبدالرؤوف النويهى
27 - يناير - 2007
*** دعوة الحزب إلى عقد مؤتمر سوري :    كن أول من يقيّم
 
 
*** دعوة الحزب إلى عقد مؤتمر سوري : ( إن لجنة حزب الاتحاد السوري المركزية بمصر واثقة أنكم كنتم وما زلتم مواظبين على مبادئكم القويمة الوطنية ، ومساعيكم الشريفة إلى أن تكلل بالنجاح ، ويتحرر الوطن المحبوب ، ويصبح كما يريد أبناؤه الأحرار العاملون وطنًا حرًّا مستقلاً ، زاهرًا برجاله ، ناهضًا بهممهم ، سائرًا كل يوم إلى الأمام ، بفضل ما يبذله الأحرار العاملون في سبيله مِن التضحيات العديدة ، والمساعي الجليلة .
وبعد : فقد رأت لجنة حزب الاتحاد السوري التي كانت - وما زالت - تجاهد بجميع الطرق المشروعة للحصول على استقلال البلاد التام الذي هو أمنية كل سوري أَبِيّ النفس - أن تتآزر جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي تعمل لغاية الاستقلال التام ، ووحدة البلاد سواء في سورية نفسها ، أو في المهاجر البعيدة المتفرقة ، وتتفاهم فيما بينها على أسس المبادئ والمساعي معًا ، وترفع صوتها في وقت واحدٍ للعالم المتمدن بأسره بجميع الطرق المشروعة ، طالبة الحصول على حقها الوطني الطبيعي المؤيد بكثير من العهود والوعود من أقطاب السياسة في العالم المتمدن كله .
ولما كان مجلس عصبة الأمم سيجتمع قريبًا ، وينظر في شروط الوصاية المفروضة على سورية ، وغيرها من البلاد المنفصلة عن تركيا - فقد قررت لجنة حزب الاتحاد السوري أن تدعو الجمعيات ، والأحزاب السورية إلى عقد مؤتمر سوري عام في ( جنيف ) - مركز عصبة الأمم - في 10 حزيران ( يونيو ) المقبل ؛ لتبرهن بكل ما لديها من الوثائق ، والحجج ، والأدلة على ما لسورية من الحق بالحرية ، والاستقلال ، وتتوصل بالوسائل المشروعة لدى مجلس عصبة الأمم - لسماع رأي البلاد قبل إبرام الحكم عليها ، فلجنة حزب الاتحاد السوري تدعوكم ،وتدعو سائر الجمعيات السورية للاشتراك في هذا المؤتمر ، وترجو منكم إشعارها بأسماء مندوبيكم ، وبميعاد سفرهم ، وبما ترغبون الاشتراك فيه مِن نفقات المؤتمر العامة ، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام ، والسلام ) .
نائب الرئيس رئيس حزب الاتحاد السوري / محمد رشيد رضا / ميشيل لطف الله.
*سعيد
27 - يناير - 2007
*** المانع والمقتضي والتعارف والترجيح :    كن أول من يقيّم
 
 
*** المانع والمقتضي والتعارف والترجيح : اتفق في أثناء نشرنا لهذه الدعوة أن مرض أولادي ، واحد بعد آخر ، ثم توفي صغيرهم ، وكنا أرجأنا السفر انتظارًا للعلم بموعد اجتماع عصبة الأمم الرسمي الذي كان عُيِّنَ ، ثم أُرجِئ ، ثم قرر أن يكون في أواخر شهر أغسطس ؛ فتقرر أن يسافر وفد حزبنا من الإسكندرية في 12 أغسطس ، ثم اتفق أن أصيب ولدي محمد شفيع في أول أغسطس بحمى معدية ، يحتاج علاجها إلى دقةٍ وعلمٍ ؛ فكنت أتولى معالجته ، وتغذيته بنفسي ، على أن والدته كانت نُفَسَاء ، وقرب الموعد ، ولما ينقه من مرضه ، فترددت في السفر ، ثم رجحت أن أتربص ريثما يَنقَه الغلام ، وأسافر ، فلما حل الموعد رأيت أن مصلحة خدمة الوطن ينبغي ترجيحها على الأهل والولد ، فعزمت ، وتوكلت ، وأزمعت الرحيل ، تاركًا الأسرة تستقبل عيد الأضحى في حزنٍ ، ونفاسٍ ، وتمريضٍ ، كما تركت أعمال المطبعة التي هي مادة المعيشة ، وغادرت القاهرة في اليوم الثامن من ذي الحجة ( الموافق لليوم الثاني عشر من أغسطس ) ، وهو يوم التروية ، ويليه يوم عرفة ، فعيد الأضحى ، فشق عليَّ ، وعلى الأهل ، والعيال ، ولكن سفري لم يكن منه بدٌّ باتفاق الإخوان من أعضاء الحزب وغيرهم ، وقد زارني قبله بيومين رئيس الحزب ، وبالغ في وصف ما يراه من ضرورة سفري ، وما في تأخيره عن هذا الوقت من الضرر .
سافرت في قطار الضحى السريع من القاهرة ، فألفيت في المركبة - التي ركبتها من الدرجة الأولى - ثلاثةً مِن أصحابي علماء الشرع الأذكياء المشهورين ، وهم الشيخ محمد حسنين العدوي مِن هيئة كبار العلماء بالأزهر ، والشيخ محمد المراغي مِن قضاة المحكمة الشرعية العليا ، والشيخ محمد الضواهري شيخ الجامع الأحمدي بطنطا ، فجلست إليهم ، وقطعنا المسافة في البحث ، والمذاكرة في المسائل العلمية ، والاجتماعية ، ولا سيما مسألة ضعف المسلمين ، وأسبابه ، ووسائل معالجته ، وأهمها الإصلاح الديني.
*سعيد
27 - يناير - 2007
*** سفر البحر من الإسكندرية :    كن أول من يقيّم
 
 
*** سفر البحر من الإسكندرية :
ولما بلغت الإسكندرية ذهبت إلى أحد فنادقها المجاورة للبحر ؛ فتغديت فيه ، ثم سألت بالمسرّة ( التليفون ) عن الأمير ميشيل بك لطف الله [] ، فعلمت أنه قد ذهب إلى الباخرة التي اتفقنا على السفر فيها ، وأنها تسافر من المرفأ عند انتهاء الساعة الثالثة بعد الظهر ، فيمَّمتها ، فألفيته هو ورفيقنا جورج أفندي يوسف سالم ينتظران ، وكانا قد أرسلا رسولاً للبحث عني ، فصادفني بالقرب من الميناء ، فساعدني على إنهاء العمل المعتاد في الجمرك ، كالنظر في جواز السفر ، ورؤية الطبيب ، وما دون ذلك .
ثم ركبت الباخرة .
الباخرة طليانية اسمها ( كليوبطرة ) ، وهي من البواخر المتوسطة في الكبر والإتقان ، فهي أكبر مِن بواخر الشركة الخديوية ، ودون الباخرة ( عثمانية ) منها إتقانًا ، ولكنها دون أكثر البواخر التي تنقل الركاب بين مصر وأوربة .
وكانت لدولة النمسة فأُخذت منها ، فيما أخذته دول الأحلاف من غنائم الحرب ، وكان مجراها مِن مرساها في الموعد المضروب لها ( الساعة 3 بعد الظهر ) .
كان الرفيقان في شكٍّ من سفري معهما ؛ لما علما مِن الموانع التي أهمها تمريض ولدي ، ولكنهما استأجرا مخدعين في الدرجة الأولى ، في أحدهما سريران لي ، وليوسف سالم إن حضرْتُ ، وإلا كان له وحده ، وهو واسع يمكن أن ينام فيه آخرون ، وهذه الشركة في المخدع خيرٌ لي مِن الانفراد الذي كنت أفضِّله لو كنت أعرف لغة أصحاب الباخرة ؛ فرفيقي يتكلم بلغتهم كما يتكلم بالفرنسية ، والإنجليزية وإتقانه للأخيرة أتم .
كان الهواء عند سفرنا لطيفًا ، لا يشكو منه الجالس على ظهرها ، ولكنه لا أثر له في مخادع النوم منها ، فلم أطق النوم في سرير مخدعنا لشدة الحر ، فنمت على ظهر الباخرة ، وفي مساء اليوم الثاني ( السبت ) برد الهواء قليلاً ، وطفقت أحشاء البحر تضطرب على ما كان من خفة الهواء ، وضعف حركته ، فارتأى بعض الناس أن هذا أثر نوءٍ سابقٍ ، وبعضهم أنه مبدأ نَوءٍ جديدٍ ، وهو الصواب ؛ فقد اشتدت الريح في ناشئة الليل ، وكانت باردةً ، وأنشأ البحر يعبث بالسفينة ، فلما شعرت بالنودان لزمت كرسي الاستلقاء على ظهرها ، ولم أستطع العشاء مع الركاب على المائدة ، بل أكلت ، وأنا مستلقٍ على الكرسي خشية الدوار الذي أدركتني بوادره ، ولكنها وقفت عند حدها ولله الحمد .
على أن الريح اشتدت في اليوم الثالث ، وزاد بردها ؛ فلزمت المُستلقَى عامة نهاره ، وقد تكلفت طعام الغداء والعشاء ، وأنا عليه تكلفًا ، وصليت الظهر والعصر قاعدًا ، ولم أذهل من كونه يوم العيد ، فكبرت الله تعالى في أوقات متقطعةٍ ، وتضرعت إليه داعيًا إياه أن يشفي ولدي ، ويخلفني في أهلي ، ويلطف بنا ، وبمَن معنا ، وقيل لنا إن اضطراب البحر في هذا المكان المحاذي لقندية ( كريد ) معتاد .
وفي اليوم الرابع ( الإثنين ) هدأت شدة الريح ؛ فصارت أقرب إلى اللطف منها إلى العنف ، وزالت مقدمات الدوار ، ولله الحمد ، وجملة القول أن السفينة لم تضطرب من هذه الريح ؛ لأنها شماليةٌ غربيةٌ ، تناطح رأسها مناطحةً ، ولو صدمتها مِن أحد جانبيها لكان النودان شديدًا ، والدوار عتيدًا .
كنت شرعت في كتابة بعض المقالات للمنار ، وكتاب مطوَّل لأهل البيت ، فلما اضطرب البحر ، وكان مِن تأثيره ما ذكرت تركت الكتابة ، ثم أتممت ذلك كله في يوم الثلاثاء ؛ إذ كان لطيف الحركة ، معتدلاً بين البرد والحرارة ، حتى كنا كأننا في جزيرةٍ لا في سفينةٍ ، فطاب لنا الطعام والكلام .
لم يكن معنا مِن وجهاء المصريين في الباخرة غير أمين باشا يحيى أحد وجهاء الإسكندرية وهو أشد أنصار عدلي باشا ووفده الرسمي في الإسكندرية ، وكان قد اشتد سخطه على سعد باشا زغلول ، وكثر تحامله عليه ، فخالف في ذلك والده أحمد يحيى باشا الذي ما زال أقوى أنصار سعد باشا في الإسكندرية ، ومعه السواد الأعظم من جميع الطبقات ، وبيني وبين كل من أحمد باشا ، وأمين باشا مودة قديمة ، فكنت أكلم أمين باشا في المسألة المصرية بلسان الصديق له المعتدل في المسائل العامة ، لا يطلب إلا الحق ، وذكرت له أنني قد حررت القول في المسألة المصرية تحرير مَن يرجح الحق والمصلحة العامة على كل شيءٍ كما يعهد ، وأنني وصفت كُلاًّ من سعد باشا ، وعدلي باشا وصفًا لم أبخس فيه أحدًا منهما شيئًا من حقه ، وذكرت له بعض ما قلته فأَحَبَّ أن يرى جزء المنار الذي نُشر فيه ذلك قبل عودته مِن أوربة إلى مصر ، وقد اتفقنا على أن شدة التطاعن والتشاحن بين الأحزاب والزعماء مما يزيد في الشقاق ، وهو أفتك أسلحة الخصم ، ويَذْهَبُ بالوفاق ، وهو أمنع معاقل الأمة .
وأما طعام الباخرة فقد كانت أنواعه كثيرةً ، أجودها السمك الطري ، والدجاج وأردَؤُها وأقلها الخضر ، وقد كان جورج يوسف سالم يقرأ لي جريدة الطعام عند الجلوس على المائدة ، ويبين لي ما يخالطه منها لحم الخِنزير لأَختار بدلاً منه ؛ ليطلبه لي ، فكان هذا خير ما أشكره له من آداب الصحبة والمساعدة على أعباء السفر ، وهو من أخبر الناس بها على ما أُوتي من النشاط والهمة والمروءة في خدمة أصحابه .
قطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية و تريسته في خمسة أيامٍ بلياليها إلا ثلاث ساعات ، ويقطعها غيرها من البواخر الجيدة في ثلاثة أيام وثلاث ساعات ، فقد كانت بطيئة السير ، والبحر رهوٌ ، فلما اضطرب زاد بطؤها ، حتى لم تكن تقطع في الساعة إلا زهاء 12 ميلاً .
قلما يحتاج المسافر إلى أوربة في هذه البواخر إلى بذل شيءٍ من الجهد في معرفة القبلة ؛ فإن عامة سيرها إلى جهة الغرب الشمالي ، فتكون مستدبرة للقبلة ، فالذاهب إلى أوربة يتجه إلى مؤخر السفينة ، والعائد من أوربة إلى مصر يتجه إلى مقدمتها ، وقلما يتغير هذا الوضع .
*سعيد
27 - يناير - 2007
*** تريسته وجمركها:    كن أول من يقيّم
 
 
*** تريسته وجمركها:
وفي ضحوة يوم الأربعاء ( 13 ذي الحجة - 17 أغسطس ) قابلنا ميناء (تريسته ، ثم أرست السفينة في مرساها مِن المرفأ في وقت الظهر ، وكانوا قد هَيَّئُُوا طعام الغداء للركاب قبل موعده ، فتغدينا قبيل الظهر ؛ لنتمكن من النزول عند الوصول .
فلم نلبث أن نزلنا ، فدخلنا إدارة الجمرك ، ففتح عماله بعض صناديقنا وأسفاطنا دون بعض ، وقد فُتح لي اثنان من خمسٍ ، ولم يُفَتش منهما شيءٌ ، ولأولئك العمال فراسة في الناس ، وفي متاعهم ، وأهم ما يبحثون عنه - فيمَن يجيء من مصر - ( سجاير الدخان ) ، وكان الأمير ميشيل حمل معه صندوقًا كبيرًا فيه ألوفٌ من هذه السجاير المصرية ، ربما يبلغ مكسها ألوفًا من الليرات الطليانية لو كانت محمولة لتُستهلك في إيطالية ، وإنما هي محمولة إلى سويسرة ، وما يمر من بلاد إلى أخرى يعطى المكس عنه في البلد المحمول إليه دون البلاد التي يمر منها ، وقد مكثنا في إدارة الجمرك زمنًا طويلاً لحل الرفيقين هذه المشكلة كما وقفونا لأجلها عندما بلغنا نهاية حدود إيطالية ، وأول حدود سويسرة ، فقبَّح الله هذا الدخان ، ما أعظم ضرره ، وأكثر غوائله .
( تريسته ) حاضرة من أعظم حواضر البحر في سواحل أوربة ، على شاطئ الشمال الشرقي مِن بحر الأدرياتيك ، مرفأ واسعٌ ، وثغرٌ باسمٌ ، في سَفْح جبلٍ شامخٍ ، فهي كبيروت أو جونية مِن سفح لبنان ، وأين مرفأ بيروت الصغير من مرفئها الكبير ذي الأرصفة الكثيرة ، وكانت لدولة النمسة ، فلما مزقتها الحرب الأخيرة آلت فيما آل إلى إيطالية مع بواخرها ، وهي - في الأصل - من حواضر بلادها .
كان أول عملٍ عملناه بعد الخروج من المكس أن أودعنا متاعنا في فندق سافواي من فنادقها الكبرى ، وبادرنا إلى إرسال البرقيات إلى أهلينا بمصر للإعلام بوصولنا سالمين ، وقد طلبت في برقيتي أن يخبروني بحالة محمد شفيع ببرقية يرسلونها إلى جنيف ، وأودعنا في البريد ما كتبنا إليهم من تفصيل أخبار سفرنا ، وما كتبته من المقالات للمنار ، ثم طوّفنا في البلد ساعةً مِن الزمان وعدنا إلى الفندق ، وقد عهدنا إلى يوسف بك سالم بأن يأخذ لنا تذاكر السفر في صبيحة اليوم التالي في السكة الحديدية ؛ لما له مِن الخبرة ومعرفة اللغة ، ففعل .
وأقول في هذا المقام : إن الإنسان لا يعرف قدر معرفة اللغات الأجنبية كما يجب إلا إذا سافر إلى بلاد يعرف لغات أهلها ؛ فإن معرفته بذلك في بلاده بين قومه لا تعدو النظريات الفكرية ، وشهوة التكمل والتوسع في العلم ، فإذا سافر وصار بين قوم لا يعرف لغتهم شعر بنقص الجهل بتلك اللغة ، ورأى أن ما كان يعده كماليًّا فقد صار من الحاجيات أو الضروريات : من الحاجيات إذا كان معه من الرفاق مَن يقضي له حاجة تارة ، ويترجم له كلام القوم أخرى ، ومن الضروريات إذا فقد مثل هذا الرفيق ، وإذا كفاه المترجم ما لا بد منه في شؤون طعامه وشرابه ، وتنقله من مكان إلى آخر في البر والبحر ، فهو لا يكفيه كل ما يحتاج إليه من إفادة واستفادة ، وقلما يوجد مترجم بين متحاورين يستطيع أن يوصل إلى كل منهما ما في نفس الآخر من علمٍ ورأيٍ وحجةٍ وشعورٍ ، بل كان الأستاذ الإمام يخبرهم بأن المرء قلما يستطيع أن يوصل إلى نفس غيره بالخطاب أكثر من 80 في المئة ، وبالكتاب تنعكس النسبة ، فإذا كان تبليغ المترجم عنه وسطًا بين تعبيره عن نفسه بالخطاب وتعبيره بالكتاب - فقد يؤدي النصف أو أقل من النصف من نظريات السياسة والاجتماع ، والفلسفة ، والدين ، وإنما يؤدي المراد كله في الأمور القطعية التي لا تختلف فيها الأفكار كأثمان السلع وجهات الطرق ومواعيد السفر وما أشبه ذلك .
________________________
 
*سعيد
27 - يناير - 2007
الرحلة الأوربية ( 2 )السفر من تريسته :    كن أول من يقيّم
 
الرحلة الأوربية ( 2 )
السفر من تريسته :
  سافرنا من تريسته يوم الخميس في الربع الأخير من الساعة السابعة صباحًا ( 6 س و45د ) في قطار أوربة الأكبر ، وكان موعده قبل ساعة ، ولكنه تأخر لتأخر مجيئه من الآستانة .
  سار بنا القطار في خيف شجير ، من ذلك الجبل النضير ، فكانت شجراؤه عن يميننا في الجبل ، وعن يسارنا فوق البحر ، وما زال يتسلق بنا متلويًّا كالأرقم في الأجم ، حتى استوى على تلك السهول الفيحاء ، والسهوب الشجراء ، ذات المروج الخضراء ، والرياض الغَنَّاء ، الكثيرة النوار ، والمفتَّحة الأزهار ، حتى كأن الزمان قد استدار ، فتحوَّل الشطر الثاني من آبَ إلى مثله من نيسان ، وأوائل آيار ، وهي السهول المعروفة بسهول لومباردية ، وبعد أربع ساعات وصل إلى مدينة البندقية ( فينيسية ) ، وهو يدخل إليها على طريق يبس في رقراق من الماء ، يسير فيه خمس دقائق ، يقطع فيها زهاء أربعة أميال ( أو 5 كيلو ) ، ثم عاد بنا القهقرَى في ذلك الماء بعد وقوف دقائق في المحطة ، ثم وصلنا إلى مدينة ( ميلان ) وقت العصر ( الساعة 3 و45 دقيقة ) ، ومكث في محطتها نصف ساعة ، تزود فيها ما يحتاج إليه من الفحم والماء ، وبين البندقية ، وميلان بلاد وقرى كثيرة عامرة ، لا يقف عليها القطار العام السريع ، وإنما المواصلات بينها بالقُطُر الوطنية .    وأما هاتان المدينتان فهما من أعظم المدن ذات الصناعات الجميلة ، والآثار التاريخية التي يقصدها السياح من الأقطار ، ولو شئنا لنقلنا من كتب التاريخ شيئًا من وصفها ، كما يفعل كثير من الناس فيما يكتبون في رحلاتهم ، ولسنا من مستحسِنِي هذه الطريقة بإطلاق ، وإنما يحسن فيها تقييد بعض الشوارد المبعثرة ، والنوادّ التي لا تنال باليسير من المراجعة ، والنوادر التي تزدان بها المحاضرة ، وما يستنبطه السائح من العبرة والفائدة ، حتى فيما صوَّرته الفكاهة والتسلية .
  ومما لاحظته في نبات هذه الأرض أن أكثر شجرها صغير ، ومتوسط العمر لعل أكبره لا يتجاوز عشر سنين ؛ وذلك أنهم يتناولونه بالقطع للاستفادة من خشبه ، ولكن بالقرب من ميلان أدواحًا عظيمة باسقة ، كأنهم يستبقونها للزينة ، ورأيتهم يختلون خلاها ( أي يقطعون حشيشها ) بآلات تستأصله من وجه الأرض ويجففونه، ويجعلونه أكداسًا كأكداس حصيد القمح والشعير ، ولا يلبث أن ينمي مكانه ، ويطول ؛ لأن المكان مجاج الثرى ريَّان بالماء .
  ولم أَرَ في تلك الحقول الخضراء زرعًا غير الذرة ، وهي غضَّة حسنة النماء فيما قبل ميلان من الأرض ، وأكثرها ضئيل فيما بعدها ، وبالقرب من المدن والقرى حقول ، وبساتين مزروعة بقولاً كالفاصوليا ، والكرنب ، والطماطم ، وأما شجرها فمنه التفاح والكمثرى ، وقد أينع ثمره ، وطابت فاكهته .
  وأجمل مناظر هذه البلاد - على الإطلاق - البحيرات فقد مررنا ببعضها عن بُعد ، وببعضها من كثب ، ولم أنسَ لا أنسى أصيل ذلك اليوم ؛ إذ بلغنا بحيرة ماجور أو ( ميجارو ) ، فراعني ذلك المنظر البهيج ، الذي لم أَرَ له فيما سبق من عمري من شبيه ولا نظير ، وإنما رأيت نظيره بعد ذلك في سويسرة ، فأقول : إن مثل هذه البحيرة وبحيرة لوسرن من البحيرات التي بين الجبال هو أجمل ما خلقه الله في هذه الأرض .
  البحيرة واسعة ، بين جبال شاهقة ، مزدانة بالجنات الألفاف ، والأجم الغبياء ، من أدنَى الغور المساوي للماء ، إلى الشماريخ التي تناطح السماء ، وترى فيما يدنو منك من هذه الجنات ، المعروشات منها وغير المعروشات ، أصناف الأعناب وأنواع الثمرات ، وهي ذات تعاريج كثيرة ، وفيها جزائر صغيرة ، بُنيت فيها قصور نضيرة ، يصلون إليها بزوارق جميلة ، ومياهها زرقاء صافية ، وهي تتسع في مكان ، وتضيق في آخر ، وأخياف الجبال المحيطة بها تمتد على بعض الضفاف ، وتتقلَّص عن بعض ، ولبعضها ألسنة مستطيلة فيها ، ورؤوس مقنعة في بعض نواحيها ، والقطار يسايرها في جوانبها ، ويلتفُّ على معاطفها ، فيدنو ويبعد ، ويغير وينجد ، ويصوب ويصعد ، ونحن فيه متلعو الرؤوس شاخصو الأبصار ، نقلب الطرف ذات اليمين وذات اليسار ، فمنظر البحيرة العجيب عن أيماننا ، ومنظر الجبال الغريب عن شمائلنا ، وفي كل منهما آيات للناظرين ، ومعانٍ للمتفكرين ، تثير في الخيال هواجس الشعر ، وتنفث في الوهم رقي السحر ، وتُلقي في العقول معاني الفنون ، وتوحي إلى القلوب حقائق الإيمان بمَن يقول للشيء كن فيكون .
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
تابع الرحلة 2...    كن أول من يقيّم
 
  تذكرت برؤية تلك الجنات الغَنَّاء ، والغابات الغبياء ، والرياض الفيحاء - وَصْفي لروضة من روضات الوطن في مقصورتي ، وهو :
وروضةٍ تجلى بثوب سندس *** رصَّعها النَّوْرُ بأصناف الحُلَى [[1]]
ما صوَّح البارحُ غضَّ نجمها *** وناضرُ الأفنانِ منها ما ذَوَى [[2]]
والباسقاتُ رفعت أكفَّها ***  تَسْتَنْزل الغيث وتطلب النَّدَى [[3]]
 تمتلجُ ( الكربون ) من ضرع الهوا *** تؤثرنا بالأكسجين المنتقَى [[4]]
مدَّت على الصعيد ظلاًّ وارفًا *** فلا ذَأَى العودُ ولا الظلُّ أَزَى [[5]]
 والشمسُ تبدو من خلال دوحها *** آونةً تخفَى وتارة تُرَى [[6]]
كغادةٍ وضَّاحةٍ قد أتْلعَتْ *** من خَلَلِ السُّجوف ترنو والكُوى [[7]]
 تلقي على الروض نَثِير عسجد *** فتسحب الروض عروسًا تُجتلَى [[8]]
  وأين هذا الوصف القاصر ، من هذا المنظر الناضر ، والجمال الساحر ، وأَنَّى لي بتخيل مثله في طرابلس والقلمون ، وإن كانت كثيرة الجنات جارية العيون .
 
  كل هذا الجمال والجلال ، الذي تجلى علينا بمناظر البحيرة ، وما يحيط بها من الجبال ، وما يزين ضفافها ، وجزائرها من القصور والفنادق ، والجنات والحدائق ، والفُلْك والزوارق ، وما تولده من المعاني الشعرية ، والخواطر الاجتماعية والروحية ، لم تكن لتنسيني أن ولدي مريض ما أدري ما فعل الله به ، ولا لتصرفني عن الخوف عليه ، والدعاء له ، ولا سيما في أعقاب الصلوات ، وما وفقت له من تلاوة القرآن والوضوء والصلاة في هذه القطر من أسهل الأمور ، ومعرفة سَمْت القبلة فيها ميسور .
 
  وانتهينا عند الساعة السابعة مساءً إلى محطة وقف فيها القطار نصف ساعة لانكسار مركبة الطعام هنالك ، وقد ظننا أنها أصلحت في تلك المدة ، ولكن خاب الظن ، وبقينا بغير عشاء ، على أننا مكثنا زمنًا طويلاً في المحطة التي بعدها ، وهي آخر محطة طليانية ، وفيها مطعم عام ، إلا أننا شغلنا عن الطعام فيها بعرض جوازات السفر وتفتيش الصناديق ، وبما اتخذ من المعاملات الجمركية بشأن لفائف التبغ التي يحملها الرفاق .
 
  ثم سار القطار بنا ، ولم يلبث أن دخل في النفق الكبير الفاصل بين إيطالية وسويسرة ، ومكث في بطن الأرض 25 دقيقة ، ثم تجاوزه ، ووقف بنا بعد نصف ساعة في أول محطة سويسرية ، فمكثنا فيها مدة ؛ لأجل معاملات الأجوزة ، وقد أخذوها منها واعدين بإعادتها لنا في جنيف ، ثم سرنا فوصلنا إلى مدينة لوزان في منتصف الليل ، فلم ندرك القطار الذي يسافر ليلاً إلى جنيف لتأخرنا عن الموعد ، فبيتنا بقية ليلتنا في فندق فيكتوريا بقرب المحطة ، وقد طلبنا فيه طعامًا ، فقيل لنا إن المطعم قد أقفل ولا طعام إلا الخبز ، والجبن ، والزبد ، والمربى ، والفاكهة ، فجاءونا من ذلك بأفضل أنواعه مع الماء المثلوج والثلج لتبريد الفاكهة ، وهي موز وتفاح وكمثرى ، فكان هذا العشاء أشهى وألذّ من كل طعام أكلناه في أوربة ؛ إذ كان عقب جوع صحيح وتعب طويل .
 
  أكلنا طعامًا لطيفًا لذيذًا ، ونمنا نومًا هادئًا مريحًا ، على سُرُر مرفوعة وفُرُش وثيرة نظيفة ، ولكل حجرة من حجرات النوم حمام خاص ، تمتعنا بها في ليلنا وفي صبيحته .
 


[1] الروضة : الموضع المعجب بالزهور قاله في المصباح ، وأصله مجتمع الماء ، ثم أطلق على ما يُحْدثه الماء من النبات والزهر ، وهو الترويض والنَّوْر بالفتح : زهر النبات ، والشجر واحِده نورة ، فهو كتمر وتمرة ، وجمعه أنوار ونوار بوزن تفاح ، والحلَى بالكسر وبالضم جمع حلية بالكسر ، وهو ما يتزيَّن به النساء من الجواهر ، والترصيع تزيين الحلي ، والحلل بالجواهر التي شبه بها هنا أصناف النوار .
[2] البارح : الريح الحارة وتصويحها للنبات تجفيفه ، والنجم : النبات الذي لا ساق له ، ويقابله الشجر ، وأشير إليه بالأفنان ، وهي الأغصان وذَوَى يذوي : ذبل .
[3] الباسقات : جمع باسق وباسقة ، وهو ما ارتفع وذهب في الأفق طولاً وارتفاعًا ، وأكثر ما استعمل في وصف النخل والسحاب ، والمراد هنا كل ما ارتفع من الشجر كالحور والسرو ، وأكفها أغصانها المورقة ، وارتفاع الشجر سبب من أسباب المطر ، والندى : المطر أو ما دون الغيث من ماء السماء ، أي ما يتكاثف من بخار الماء بالتدريج فيُحدث بللاً ، ومنه الندى بمعنى : الجود والسخاء ، وفي اللفظ هنا تورية لطيفة ، على ما فيه - وفيما قبله - من استعارات طريفة .
[4] ـ تمتلج : ترتضع ، والكربون : عنصر كيماوي يكثر في الفحم ، والأكسجين : عنصر آخر يدخل في تركيب الهواء والماء ، وهو علة أو سبب من أسباب حياة الحيوان والنبات ، وباستنشاقه في الهواء يطهر الدم من المواد السامة ، والشجر ينتشق حمض الكربون السام من الهواء ، ويفرز الأكسجين النافع المطهر للدم منه ومن غيره .
[5] ـ ) الصعيد : وجه الأرض والظل الوارف المتسع الممتد ، وذأى ذأيًا وذأوًا : ذبل كزوى ، وأزى يأزي وأزا يأزو : تقبض وتقلص .
[6] ـ الدوح : جمع دوحة ، وهي الشجرة العظيمة .
[7] ـ ) الغادة : الحسناء الناعمة الليِّنة العنق والقوام ، وأتلعت : مدت عنقها متطاولة لتنظر ، والسجوف : جمع سجف بفتح السين وكسرها ، وهي الستور التي تُنصب على الأبواب والنوافذ ، مؤلفًا كل منها من سِترين ، بينهما فرجة ، وقيل السجف : الشق بين السترين المقرونين ، والكوى بالضم : جمع كوة ، وهي النافذة الصغيرة والخلل بالتحريك : ما بين الأشياء من فرجة ، ورنا إليه وله رنا ورنوا : نظر ، بل هو إطالة النظر مع سكون الطرف كنظر العاشق .
[8] ـ العسجد : الذهب ، والنثار والنثير : ما يُنثر أي يُلقَى متفرقًا ، وكانوا ينثرون الدنانير حول العروس .
*سعيد
13 - فبراير - 2007
تابع الرحلة 2....    كن أول من يقيّم
 
  كان الجو في ذلك اليوم الذي قطعنا به أرض إيطالية يوم صيف معتدل ، وإن كانت أرضها أرض ربيع مُدْبرٍ ومقبلٍ ، ولولا غمام رقيق كان يكفكف بعض أشعة الشمس - لعُدَّ هنالك من أيام الحر ، وقد تغير الجو علينا في سويسرة بعد نصف الليل ، فهبَّ الهواء البليل ، ولما أصبحنا رأينا السحاب يتكاثف في الأفق ، ثم طفق يجود برذاذ لطيف ، ثم تكاثف السحاب قبل الظهر ، واشتد المطر بعد العصر ، فكان كما وصفه ابن دريد بقوله :
 جَوْن أعارته الجنوبُ جانبًا *** منها وواصتْ صَوبه يَدُ الصَّبا [[1]]
نَاءَ يمانيًّا فلما انتشرت *** أحضانُه وامتدَّ كِسراه غَطا [[2]]
 وجلَّل الأفْق فكل جانب *** منها كأنْ من قُطره المُزْنُ حبا [[3]]
وطبّق الأرضَ فكل بقعة *** منها تقولُ الغيث في هاتا ثوى [[4]]
 إذا خَبَتْ بروقه عنَّت له *** ريحُ الصَّبا تَشُبُّ منه ما خبا [[5]]
 وإن وَنَت رعودُه حدا بها *** حادي الجنوب فحدتْ كما حدا [[6]]
كأن في أحضانه وبَرْكه *** بَرْكًا تداعى بين سَجْرٍ ووَحَى [[7]]
 لم تَرَ كالمُزْن سَوامًا بُهَّلاً *** تحسَبها مَرعيَّة وهي سُدى [[8]]
 يقول للأجْرَاز لما استوسقت *** بسَوْقه ثِقِي بِرِيٍّ وحيا [[9]]
 فأوسع الأحداب سَيْبًا مُحسِبًا *** وطبَّقَ البُطنان بالماء الرِّوَى [[10]]
كأنما البَيْدَاء غِبَّ صَوْبه *** بحرٌ طما تياره ثم سجا [[11]]
   هذا ، وإننا كنا نريد أن نسافر إلى جنيف قبل الظهر ، ولكن جاء منها لاستقبالنا مَن كان فيها من إخواننا السوريين - نجيب بك شقير ، وصلاح الدين أفندي قاسم ، وتوفيق أفندي اليازجي - الذي كان سبق من قبل حزبنا للاستعداد للمؤتمر ، فتأخرنا إلى المساء ، ولم نتمكَّن من التجوال في لوزان لشدة المطر ، ثم سافرنا عند انتهاء الساعة الخامسة مساءً ، والمطر يهطل ، والريح تمنعنا من فتح نوافذ القطار ، ومناظر سويسرة تأخذ بأبصارنا ذات اليمن وذات اليسار ، فوصلنا إلى جنيف في خمسين دقيقة .
 
________________________


[1] ـ قوله : جَوْن : صفة لمحذوف تقديره سحاب جون ، وهو فاعل لقوله سقى العقيق إلخ في بيت سابق ، والجون الأسود - ويطلق على الأبيض - فهو من أسماء الأضداد التي يتعين المراد منها بالقرينة ، والمراد بالجنوب : الريح التي تهب من جهة الجنوب ، فتجيء بالمطر ، والصبا : الريح الشرقية ، وهي تتحد مع الجنوبية كثيرًا ، وتُشْبهها ، كما أن الريح الغربية تتحد مع الشمالية ، وتشبهها ، ويكثر مجيء المطر بعدهما في نصف الأرض الشمالي ، كما يكثر مجيء المطر بعد الأوليين في النصف الجنوبي ، ووصاه : واصله ، والمعنى أن هذا السحاب بدأت الجنوب بإثارته بحركتها ، وبتلقيحه ببردها ، ثم واصلت الصبا بهبوبها ما بدأت به أختها .
[2] ـ ناء : نهض بثقل وجهد وبالأمر : نهض به بتعب ، ومشقة ، وأحضان الشيء : نواحيه ، وأصله ما دون الإبط إلى الكشح من الإنسان ، والكسر بكسر الكاف وفتحها : ما تكسَّر وتدلى من الخباء إلى جهة الأرض ، وهو استعارة جميلة ، وغطا يغطو : ارتفع وقيل انبسط ، والمعنى أن هذا السحاب الجون ناء بحمل الماء حال كونه يمانيًّا ؛ إذ اليمن من بلاد العرب في الجنوب ، وقد بدأ ظهوره منها ، فلما انتشرت جوانبه بمواصاة الصبا ومواصلتها لعمل الجنوب فيه ، وامتد كسراه الجنوبي والشرقي في سائر الأفق : ارتفع إذ خفَّ حمله بما أفرغ من ثقله ، أو انتشر ، وصار عامًّا ، كما صرح به في البيتين التاليين لهذا .
[3] ـ جلل الأفق : غطَّاه وعمَّه بستره إياه ، والمزن : السحاب الممطر ، وحبا : زحف ودنا يقال حبا الصبي إذا زحف ، والمعنى أنه بعد أن عَمَّ الأفق ، وجلله ، صار كل قَطْر من أقطاره كان المزن قد زحف بصَيْبه منه ؛ إذ لم يعد خاصًّا بالجنوب ، حيث نهض ، ولا بالشرق حيث امتد .
[4] ـ ) طبَّق الأرض : غطاها وجللها بمطره كما طبق هو الأفق بنفسه - وعدَّه في الأساس مجازًا - فكل بقعة منها تقول إن الغيث قد ثوى في هذه دون غيرها ، كما يؤخذ من تقديم الظرف والمعنى يقتضيه ، وهاتا : اسم إشارة للمؤنث معروف كهذه وهذي ، وتُستعمل كلها بدون هاء التنبيه أيضًا .
[5] ـ خبا البرق : سكن كالسراج إذا طفئ يقول إذا خبت بروق هذا الجون عنت ، وعرضت له ريح الصبا ، فأعادت وميضه ولمعانه ، كما تشب النار السراج بعد انطفائه .
[6] ـ ونت : ضعفت أو فترت ، وحدا الإبل وحدا بها : غنَّى لها ينشطها على السير ، وحادي الجنوب - وفي رواية راعي الجنوب - معناه الجنوب الذي هو كالحادي أو الراعي للإبل ؛ لأنه هو الذي يسوق السحاب ، يقول : وإن ضعفت أو فترت رعوده انبرى له من ريح الجنوب عاصفة ما يصيح به ، كما يصيح حادي الإبل بها إذا ونت وضعف سيرها ، فعادت تجلجل بصوتها ، كأنها تجيبه عن حدائه بمثله ، وليس المراد أن البرق ومض بتأثير ريح الصبا وحدها في السحاب والرعد يقصف بتأثير ريح الجنوب وحدها ، بل المراد أن هذا السحاب الذي تعاونت الجنوب والصبا على إثارته ، ولفحته ببردها ، فحمل القطر ، ثم ألقى حمله على الأرض تتعاون الريحان في شب بروقه ، وقصف رعوده بجمْعهما بين زوجَيْ الكهربائية الإيجابي والسلبي ، الذي يشب البرق ، فيحدث بشبوبه تفريغ الهواء الذي هو سبب الرعد ، وفي الكلام من ظريف الاستعارات ما ترى وتسمع ، وقد فسر الاستعارات من مكنية وتمثيلية بالتشبيه الصريح في البيت التالي ، وبما بعده .
[7] ـ البرك الأول : الصدر ، والثاني جماعة الإبل الباركة ، وإنما يقال برك البعير ؛ لأنه يُلقي بصدره إلى الأرض ، وتداعى : أصله تتداعى ، أي يدعو بعضها بعضًا ، والسجر والسجور حنين الناقة ، وجعله الراغب استعارة من سجر النار لالتهابها في العدو ، وفي مجاز الأساس : سجرت الناقة سجرًا، وسجرت تسجيرًا : أمدت حنينها في أثر ولدها ، وملأت به فاها ، قال : حنت إلى برق فقلت لها قري بعض الحنين فإن سجرك سائقي وإنما قيد الحنين هنا بالممتد الذي يملأ الفم ؛ لأن حقيقة السجر الملء ، يقال سجر التنور إذا ملأها لهبًا ، وسجر المطر الوادي ؛ إذ ملأه ، والبحر المسجور : الممتلئ ، وقوله : (قري) في الشاهد : أمر من الوقار والسكون ، يقول للناقة : لا تجعلي حنينك ممتدًا دائمًا ، بل اكتفي ببعضه ، والتزمي أقله ؛ فإن سجرك يشوقني إلى وطني ، ومَن أحب فيه ، فأحن إليه كما تحنين إلى فصيلك ، والوَحَى- كفَتَى - الصوت الذي ينقضي بسرعة ، والعجلة والسرعة ، ويقال : الوحى الوحى والوحاء الوحاء : في طلب النجدة والإغاثة السريعة ، والمعنى : كأنَّ ما في جوانب ذلك الجون وفي صدره وهو وسطه من قطع السحاب التي تجتمع ، وتفترق ، وتتحول من جانب من جوانب الأفق إلى آخر بين وميض البروق وقعقعة الرعود التي تمتد وتقوى أحيانًا ، وتنقضي أحيانًا بسرعة - كأن في ذلك - إبلاً باركة، يدعو بعضها بعضًا إلى التحول والانتقال ، فتنتقل بين حنين خفي قصير وحنين ممتد طويل .
[8] ـ  السوام : الإبل السائمة أي الراعية ، وأسامها رعاها فهو مسيم ، والبُهل : التي لم تُحلب ، فهي ملأى الضروع بالألبان ، وناقة باهل غير محلوبة ، ولا مصرورة أي : ولا مربوطة الضرع ، يحلبها مَن شاء ، وقيل المتروكة الرعي ، والسدى : المهملة التي لا راعي لها ، والمعني أن هذه السحب الممطرة في كل مكان - التي تشبه السوام البهل المبذول لبنها لكل إنسان - تحسبها في انتقالها وحركاتها بتأثير الرياح كالمرعية التي يسوقها الراعي إلى حيث يشاء ، وهي في نفس الأمر سدى مهملة لا راعي لها ؛ لأن الرياح ليس لها إرادة في تحريكها وسوقها .
[9] ـ  الأجْرَاز : جمع جُرُز (بضمتين) : وهو الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لجفافها ، واستوسقت: حملت من أوساق الماء ما جمعت ، والتوسق : جمع المتفرق ، ومنه الوسق بالضم : للكيل المعلوم ، والري بالكسر : الشبع من الشرب ، والحيا بالقصر : يطلق على المطر ، وعلى ما ينشأ عنه من النبات والخصب والمعنى ظاهر .
[10] ـ  ) الأحداب : جمع حدب : وهو ما ارتفع من الأرض ، والبطنان بالضم : جمع بطن ، والسيْب : العطاء ، والمُحسب : الكافي الذي يحمل المعطى على أن يقول : حسبي حسبي ، والماء الروى - بكسر الراء المشددة والقصر - : الغزير المروي كروي ورواء بالفتح ، والمعنى : أنه أروى ظاهر الأرض وباطنها ، وأحدابها وأيفاعها التي ينحدر عنها الماء ، فلا ترتوي إلا بالغزير المتصل .
[11] ـ البيداء : الصحراء ، وصوب المطر : نزوله وانحداره ، وطما : ارتفع ، وتياره : موجه ، وسجا : سكن ، والمعنى : أن البيداء كانت غب نزوله - أي بعده - كبحر ارتفع موجه واضطرب ، وسكن بعد ذلك ، ثم ذهب ؛ وبذلك كان رحمة لا نقمة .
*سعيد
13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية ( 3 )الفنادق في سويسرة :    كن أول من يقيّم
 
الرحلة الأوربية  ( 3 )
الفنادق في سويسرة :
 
 كان الأمير ميشيل بك لطف الله أوصى توفيق أفندي اليازجي بأن يحجز لنا حجرات في فندق من أرقى فنادق ( جنيف ) وأحسنها ؛ إذ كان بلغنا أن هذه الفنادق ستكتظ على كثرتها بالمسافرين عند اجتماع عصبة الأمم ، وأن يستأجرها إذا توقف حجزها على استئجارها ، وصح ما قيل من تسابق الناس إلى مثل ذلك .
 فلما وصلنا إلى جنيف ذهب بنا إلى فندق إنكلترة ، وهو من الفنادق الوسطى ، وموقعه أمام البحيرة جميل ، فلم يعجب الأمير ميشيل بك ، وعاتب توفيقًا على إنزالنا فيه ، فاعتذر بأن الخديوِ كان ينزل فيه ، فقلنا لعله كان يراه أعون له على التنكر ، وقد نزل فيه في وقتنا الأمير عزيز حسن .
 ثم عهد الأمير ميشيل إلى جورج أفندي يوسف سالم بأن يبحث لنا عن 4 حجرات في فندق من الدرجة الأولى ، يكثر فيه كبار أعضاء جمعية الأمم ؛ ليسهل التعرف بهم ، ويكون وجودنا معهم مذكِّرًا لهم دائمًا بوجود وفد سوري يطالب باستقلال بلاده ، وبعد جهد في البحث والتجوال وجد لنا مطلوبنا في فندق ( دي برك ) ، وكان الأمير ميشيل قد أوصاه بأن يساوم صاحب الفندق في أجرة الحجرات ، وثمن الطعام وأجرة غسل الثياب ، فلم يُعنَ بالتدقيق في ذلك بل رضي بأن نعاملهم بالتعريفة التي يطلبونها ؛ لظنه أن ذلك محدود كما يقولون ، ثم تبين أن الأمير ميشيل هو المصيب ، وأنه أعلم بشئون البلاد من سالم الذي هو أكثر منه أسفارًا وتجوالاً في الممالك كما قلنا من قبل ، وأنه كان يمكن أن يقتصد بالمساومة مبلغًا من الجنيهات ، لا ينبغي التسامح في مثله !  وقبل أن أبيِّن الفائدة التي أقصد إليها من ذكر هذه المسألة أذكر دقيقة أخرى للأمير ميشيل هي دونها في باب الاقتصاد ، ولكنها تدل على حذقٍ ، وذكاءٍ ، واختبارٍ ، وهي أن أصحاب فندق فيكتوريا في مدينة لوزان لما قدموا لنا جريدة الطعام - وهي مطبوعة - ألفينا فيها الأثمان المطبوعة مرمجة ، وبجانبها أثمان مكتوبة بالحبر هي أكثر منها ، فلم ينتبه أحد منا إلى سبب ذلك غيره فقد قال : إن هذه الأثمان المطبوعة هي أثمان الطعام لأهل البلد ، وإنهم إنما زادوا فيها لأجلنا ؛ فإن لأهل سويسرة حِذقًا في اجتلاب الأموال من السياح ، لا يضارعهم فيه غيرهم ، وسبب ذلك أن ما يربحونه من الأجانب معظمه من الذين يقصدون بلادهم من جميع أقطار العالم المدني للتمتع بمناظر جبالها ، ومروجها الخضراء ، وبحيراتها الزرقاء ، واستنشاق نسيمها العليل ، وتفيُّؤ ظل حدائقها الظليل ، فما ينفقه فيها السائحون والسائحات هو عند أهلها من قبيل دخل الصادرات ، وأما الصادرات التي تخرج منها إلى غيرها - فهي قليلة ، أهمها الساعات من المصنوعات المعدِنية ، فهي أشهر بلاد أوربة إتقانًا لها ، والزبدة والجبن والفاكهة من نتائج الزراعة .    هذا ، وإن جميع الأسعار في بلاد سويسرة محدودة لجميع أنواع البضائع ، وأهلها يغلب عليهم الصدق والأمانة ، وقد قيل لنا : إن أكثر بلاد أوربة ، ولا سيما العواصم والثغور العظيمة كباريس ومارسيلية يبيعون الغرباء بأسعار أعلى من الأسعار التي يبيعون بها الوطنيين ، وأما سويسرة فقلما تجد هذه المعاملة فيها للغرباء في غير الفنادق ، ومن أسباب ذلك أن أكثر أصحابها من اليهود .
 
*سعيد
13 - فبراير - 2007
 1  2