*** سفر البحر من الإسكندرية : كن أول من يقيّم *** سفر البحر من الإسكندرية : ولما بلغت الإسكندرية ذهبت إلى أحد فنادقها المجاورة للبحر ؛ فتغديت فيه ، ثم سألت بالمسرّة ( التليفون ) عن الأمير ميشيل بك لطف الله [] ، فعلمت أنه قد ذهب إلى الباخرة التي اتفقنا على السفر فيها ، وأنها تسافر من المرفأ عند انتهاء الساعة الثالثة بعد الظهر ، فيمَّمتها ، فألفيته هو ورفيقنا جورج أفندي يوسف سالم ينتظران ، وكانا قد أرسلا رسولاً للبحث عني ، فصادفني بالقرب من الميناء ، فساعدني على إنهاء العمل المعتاد في الجمرك ، كالنظر في جواز السفر ، ورؤية الطبيب ، وما دون ذلك . ثم ركبت الباخرة . الباخرة طليانية اسمها ( كليوبطرة ) ، وهي من البواخر المتوسطة في الكبر والإتقان ، فهي أكبر مِن بواخر الشركة الخديوية ، ودون الباخرة ( عثمانية ) منها إتقانًا ، ولكنها دون أكثر البواخر التي تنقل الركاب بين مصر وأوربة . وكانت لدولة النمسة فأُخذت منها ، فيما أخذته دول الأحلاف من غنائم الحرب ، وكان مجراها مِن مرساها في الموعد المضروب لها ( الساعة 3 بعد الظهر ) . كان الرفيقان في شكٍّ من سفري معهما ؛ لما علما مِن الموانع التي أهمها تمريض ولدي ، ولكنهما استأجرا مخدعين في الدرجة الأولى ، في أحدهما سريران لي ، وليوسف سالم إن حضرْتُ ، وإلا كان له وحده ، وهو واسع يمكن أن ينام فيه آخرون ، وهذه الشركة في المخدع خيرٌ لي مِن الانفراد الذي كنت أفضِّله لو كنت أعرف لغة أصحاب الباخرة ؛ فرفيقي يتكلم بلغتهم كما يتكلم بالفرنسية ، والإنجليزية وإتقانه للأخيرة أتم . كان الهواء عند سفرنا لطيفًا ، لا يشكو منه الجالس على ظهرها ، ولكنه لا أثر له في مخادع النوم منها ، فلم أطق النوم في سرير مخدعنا لشدة الحر ، فنمت على ظهر الباخرة ، وفي مساء اليوم الثاني ( السبت ) برد الهواء قليلاً ، وطفقت أحشاء البحر تضطرب على ما كان من خفة الهواء ، وضعف حركته ، فارتأى بعض الناس أن هذا أثر نوءٍ سابقٍ ، وبعضهم أنه مبدأ نَوءٍ جديدٍ ، وهو الصواب ؛ فقد اشتدت الريح في ناشئة الليل ، وكانت باردةً ، وأنشأ البحر يعبث بالسفينة ، فلما شعرت بالنودان لزمت كرسي الاستلقاء على ظهرها ، ولم أستطع العشاء مع الركاب على المائدة ، بل أكلت ، وأنا مستلقٍ على الكرسي خشية الدوار الذي أدركتني بوادره ، ولكنها وقفت عند حدها ولله الحمد . على أن الريح اشتدت في اليوم الثالث ، وزاد بردها ؛ فلزمت المُستلقَى عامة نهاره ، وقد تكلفت طعام الغداء والعشاء ، وأنا عليه تكلفًا ، وصليت الظهر والعصر قاعدًا ، ولم أذهل من كونه يوم العيد ، فكبرت الله تعالى في أوقات متقطعةٍ ، وتضرعت إليه داعيًا إياه أن يشفي ولدي ، ويخلفني في أهلي ، ويلطف بنا ، وبمَن معنا ، وقيل لنا إن اضطراب البحر في هذا المكان المحاذي لقندية ( كريد ) معتاد . وفي اليوم الرابع ( الإثنين ) هدأت شدة الريح ؛ فصارت أقرب إلى اللطف منها إلى العنف ، وزالت مقدمات الدوار ، ولله الحمد ، وجملة القول أن السفينة لم تضطرب من هذه الريح ؛ لأنها شماليةٌ غربيةٌ ، تناطح رأسها مناطحةً ، ولو صدمتها مِن أحد جانبيها لكان النودان شديدًا ، والدوار عتيدًا . كنت شرعت في كتابة بعض المقالات للمنار ، وكتاب مطوَّل لأهل البيت ، فلما اضطرب البحر ، وكان مِن تأثيره ما ذكرت تركت الكتابة ، ثم أتممت ذلك كله في يوم الثلاثاء ؛ إذ كان لطيف الحركة ، معتدلاً بين البرد والحرارة ، حتى كنا كأننا في جزيرةٍ لا في سفينةٍ ، فطاب لنا الطعام والكلام . لم يكن معنا مِن وجهاء المصريين في الباخرة غير أمين باشا يحيى أحد وجهاء الإسكندرية وهو أشد أنصار عدلي باشا ووفده الرسمي في الإسكندرية ، وكان قد اشتد سخطه على سعد باشا زغلول ، وكثر تحامله عليه ، فخالف في ذلك والده أحمد يحيى باشا الذي ما زال أقوى أنصار سعد باشا في الإسكندرية ، ومعه السواد الأعظم من جميع الطبقات ، وبيني وبين كل من أحمد باشا ، وأمين باشا مودة قديمة ، فكنت أكلم أمين باشا في المسألة المصرية بلسان الصديق له المعتدل في المسائل العامة ، لا يطلب إلا الحق ، وذكرت له أنني قد حررت القول في المسألة المصرية تحرير مَن يرجح الحق والمصلحة العامة على كل شيءٍ كما يعهد ، وأنني وصفت كُلاًّ من سعد باشا ، وعدلي باشا وصفًا لم أبخس فيه أحدًا منهما شيئًا من حقه ، وذكرت له بعض ما قلته فأَحَبَّ أن يرى جزء المنار الذي نُشر فيه ذلك قبل عودته مِن أوربة إلى مصر ، وقد اتفقنا على أن شدة التطاعن والتشاحن بين الأحزاب والزعماء مما يزيد في الشقاق ، وهو أفتك أسلحة الخصم ، ويَذْهَبُ بالوفاق ، وهو أمنع معاقل الأمة . وأما طعام الباخرة فقد كانت أنواعه كثيرةً ، أجودها السمك الطري ، والدجاج وأردَؤُها وأقلها الخضر ، وقد كان جورج يوسف سالم يقرأ لي جريدة الطعام عند الجلوس على المائدة ، ويبين لي ما يخالطه منها لحم الخِنزير لأَختار بدلاً منه ؛ ليطلبه لي ، فكان هذا خير ما أشكره له من آداب الصحبة والمساعدة على أعباء السفر ، وهو من أخبر الناس بها على ما أُوتي من النشاط والهمة والمروءة في خدمة أصحابه . قطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية و تريسته في خمسة أيامٍ بلياليها إلا ثلاث ساعات ، ويقطعها غيرها من البواخر الجيدة في ثلاثة أيام وثلاث ساعات ، فقد كانت بطيئة السير ، والبحر رهوٌ ، فلما اضطرب زاد بطؤها ، حتى لم تكن تقطع في الساعة إلا زهاء 12 ميلاً . قلما يحتاج المسافر إلى أوربة في هذه البواخر إلى بذل شيءٍ من الجهد في معرفة القبلة ؛ فإن عامة سيرها إلى جهة الغرب الشمالي ، فتكون مستدبرة للقبلة ، فالذاهب إلى أوربة يتجه إلى مؤخر السفينة ، والعائد من أوربة إلى مصر يتجه إلى مقدمتها ، وقلما يتغير هذا الوضع . |