كسبو تحلم كن أول من يقيّم
لم أتمكن من مشاهدة السدر على الروابط التي أتيت بها مولانا ، وشكراً لك هذه التصويبات . أنقل لكم في هذه المشاركة مقطعاً آخراً من رواية " الريش " لسليم بركات يروي فيه حلماً طريفاً عاشته كسبو مربية النحل ، فيه الكثير من الخيال الذي يحاول بأن ينفذ إلى عمق الأشياء بطريقة تبدو غريبة أحياناً ، إلا أن الحلم يعود ليختلط فجأة بالواقع ، الذي يحاول بأن ينفلت من أيدينا بمكر ودهاء .... غير أن كسبو لم تستغرق في الحلم ، ولم تستلم لألاعيبه ، وعرفت كيف تلحق بنحلاتها لتمسك بها قبل أن تهرب منها : هدوء راكد غطى غرفة العائلة المسدلة الستائر على شبابيكها لعزل هواء الداخل عن وهج الخارج . أما الساحة ، في ما وراء باب تلك الغرفة غير الموصد ، فكان لها شأن آخر تحت مراوح القيظ الثقيلة . حتى أن شجرتي الكينا الضخمتين تهدلتا ، وتزاحمت العصافير على الأركان الظليلة بين أوراقها متوعدة . وفي الجهة الشمالية من الساحة ، كان لحقل كسبو وضع قلق ، فما تكاد زهرة أن تنام حتى تفيق مجفلة . فالنحل ـ بما في طبعه من بِدَع ، وقيافة للعبث ، ـ يؤثر أن يدحرج الزهر النعسان إلى الهاوية المفتوحة كقرص عسل . فكلما زيَّن القيظ شهوته ، وأسال سراباً من " مخاط الشيطان " ، تأجج النحل ، وبات على مزاج يرى معه الزهر صفاقة نباتية ، فيلقي مواعظ من طنين ، مبشراً بقيامة كل ما فيها غمام ، وكواكب صغيرة من شمع تدور على إهليلجها قفران شفيفة . ولا يسع زهور كسبو إلا أن تسمع ، بحكمة قدرية ، ما يفصله النحل من خطبته وما لا يفصله ، مضحية كل ظهيرة ـ على مضض ـ بقيلولتها التي ستبقى مفقودة إلى الأبد ، ما دامت الأزاهر تترعرع في الفصول ذاتها التي تكتمل للنحل فصاحته المصنفة للكون تصانيف ستة ، مثل شكل الخلية في قرص الشمع . لكن ، لو قدر لكسبو أن تلتقط ، في فراغ ما من الفراغات الرطبة في قيلولتها ، شكوى الحقل ، لأفاقت مشفقة ، وخرجت متجهة إلى كوخ النحل وهي تضيق ما بين أجفانها اتقاء وهج الساحة ، ولوقفت بعد ذلك في مواجهة القفران مطوقة خصرها بيديها : " ألا تستحين يا نحلات ? " . يقيناً ، لن يتنصل النحل من أنه يعبث براحة أزهار كسبو ، لكنه سيحاول تبرير ذلك ، مدفوعاً بشهوته إلى الجدال كلما ازداد القيظ : " أنتِ ترين ـ يا سيدة كسبو ـ أن أزاهيرك لم تعد صريحة " . وسترد كسبو : " بل أرى أنهن صريحات . حقلي كله صريح " . وسيتأفف النحل قليلاً من جوابها ، قائلاً : " لسن صريحات ، هذا الصيف ، يا سيدة كسبو " . وستقاطع المرأة نحلها : " وما الذي ينبغي على أزاهيري أن يصرحن به ، أيها النحل ? " ، وسيرد النحل : " اسأليهن " . لكن كسبو ستحتد قليلاً : " إنني أسألك أنت ، أيها النحل " . إذ ذاك ، سيحوم النحل في طيران دائري ، بعضه خلف بعض ، يشحذ فكرته ويصقلها : النحل : " ما الذي تظنين أننا نجمعه من حقلك ? " . كسبو : " الهواء " . النحل : " لا . ما نجمع هو فكرتنا " . كسبو : " الهواء فكرتكم ، إذاً ? ! " . النحل : " نعم يا سيدة كسبو ، ونحن لا نجمع الهواء ، بل ... " . كسبو : " أظنك تجمع القنبيط ... " . النحل : " ليس هناك من قنبيط في حقلك ، يا سيدة كسبو " . كسبو : " وما الذي تجمع ، أيها النحل ، غير العسل ? " . النحل : " يا سيدة كسبو ، نحن لا نمزح " . كسبو : " لم أعرف أن نحلي مهرج إلى هذا الحد " . النحل : " حقلك هو المهرج ، يا سيدة كسبو " . كسبو : " فلنضع حداً لهذا . ما الذي تجمعه ، إذاً ، أيها النحل ? " . النحل : " أجمع صورتك المتناثرة " . كسبو : " صورتي أنا ? " . النحل : " نعم " . كسبو : " وممن تجمع صورتي المتناثرة ? " . النحل : " من خيال أزاهيرك " . كسبو : " لا داعي لجمعها ، فلتبق صورتي في خيال أزاهيري " . النحل : " لن تتعرفي على نفسك بعد الآن ، يا سيدة كسبو " . وستتلفت كسبو إلى أزاهيرها ، بادية البرم من وقفتها أمام قفران النحل ، صارخة من مكانها ذاك : " ما الذي تعتقدين أن نحلي يريد قوله أيتها الأزاهير ? " . وسترتفع صرخة الحقل ، من الجهة الشمالية لساحة الدار : " انتبهي ، إن نحلك يهرب يا سيدة كسبو " . كانت كسبو غارقة في قيلولتها الساخنة حين جاءها صوت حقلها من أعماق حلم مشوش ، فيه الكثير من الطنين ، فاستوت قاعدة ، ثم مطت عنقها صوب باب المطبخ الموارب تصغي ، فعرفت أن ملكة جديدة هربت بأتباعها من النحل ، فهرعت حافية إلى الساحة لترى عنقوداً ضخماً من حشراتها الدؤوبة يتدلى من غصن مقصوص في إحدى شجرتي الكينا . لم تضيع كسبو ثانية واحدة ، إذ جاءت بقفير طيني معد سلفاً لمهمته ، ثم لفت يدها اليمنى بغطاء رأسها وأنزلت النحل ، حفنة حفنة ، إلى القفير من فوهته الخلفية . ولما جمعت العنقود الحشري كله في منزله الجديد ، وضعت على الفوهة غطاء دائرياً من طين أيضاً ، وأسندت القفير ـ واقفاً ـ إلى جذع الشجرة ، لتهرول فتأتي بإبريق ماء فتجبل طيناً من تراب الساحة وتلحم به الغطاء إلى جسم القفير . ثم تركته هناك ريثما يجف ، لتضعه ، بعدئذ ، فوق الصف العلوي من هرم قفرانها . |