رفيقي الحلزون كن أول من يقيّم
عندما نظرت إلى صحن الحلزون لأول مرة في صفحة الصور ، عادت بي الذاكرة سنوات عديدة إلى الوراء ، وتذكرت رحلة لي معه كنت عائدة فيها من العطلة الصيفية في لبنان ، وكنا على متن الخطوط الجوية الفرنسية ، وكان الحلزون فيها رفيق سفري .....
أنا لم آكل الحلزون في حياتي ، ولن آكله بإرادتي مهما أضيف إليه من التوابل والفتاوي في جواز أكله أو عدمه ، فهو بنظري هذا الحيوان الذي يزحف فوق العشب تاركاً وراءه أثراً ظاهراً هو تلك المادة المخاطية اللامعة التي تشبه البصاق ، وهو يسمى عندنا ، بدون شك ، ب : " البزّاق " لهذا السبب .
وأما الحكاية ، فهي أنني ما كدت أستوي في جلستي بيومها على مقعد الطائرة ، حتى أتت شابة شديدة الأناقة ، بالغة العناية والاهتمام بمظهرها لتجلس قربي ، وبالكاد ألقت السلام متكلفة ، حتى ألقت بين قدمي بذات الوقت ، حقيبة جلدية من النوع الذي يحمله عادة الرياضيون ، كبيرة الحجم نسبياً ، تركتها مفتوحة من الأعلى مما أثار استغرابي .
كانت جارتي تلك شديدة الحذر والتكلف في جلستها ، بل تهيأ لي بأنها كانت تتحاشى الكلام معي أو النظر إلي ، كان يبدو عليها الجفاء والتحفظ وكنت ، كلما تحركت في مقعدي ، أو لامست رجلي طرف حقيبتها الموضوعة بيننا ، نظرت إليها بهلع شديد ، ثم نظرت إلي وهي ترسم على وجهها ابتسامة متكلفة تنتزعها انتزاعاً من لهفتها على سلامة الحقيبة ، فكنت أبتعد برجلي عنها لطمأنتها فتشكرني بابتسامة أخرى صفراء ، لم أكن أفهم مغزاها تماماً ، ولقد ترددت بوقتها في تصنيفها وإذا ما كان علي أن أضعها في خانة الشك ، أم التنبيه ?
أزعجتني تلك الحال ، واستعذت بالله من هذه الرحلة التي سأقضي فيها ساعات أربع تحت المراقبة الشديدة وبصحبة جارة " مريبة " . ولطالما تساءلت في نفسي قائلة : " لما لا تقفل هذه المرأة الشريط السحاب على أشيائها الثمينة التي تضعها في الحقيبة فترتاح وتريح ? " .
وما ان أطلت المضيفة برأسها ، حتى سمعت جارتي هذه تنهال عليها بوابل من الأسئلة عن موعد وصول الطيارة وكيفية الاستعلام في المطار، فهمت منها بأنها تنوي الذهاب بعدها إلى مدينة " ليون " وبأنها تخشى عدم التمكن من تبديل الطائرة في الوقت المحدد ، وبأنها تستقل الطائرة للمرة الأولى . وكانت تتكلم فرنسية جميلة وصحيحة من النوع الذي نتعلمه عادة في المدارس ، وكانت في حديثها في غاية التهذيب .......
فجأة ، وبعد أن اطمأنت على أنها لن تضيع ، أجدها تلتفت إلي بابتسامة صريحة هذه المرة لتسألني إذا ما كنت ذاهبة مثلها إلى " ليون " زيادة في الاطمئنان . ومع أنني لم أكن ذاهبة إلى هناك إلا أنني وجدتها فرصة لإذابة الجليد وفتح حديث ودي يبدأ عادة بالسؤال اللبناني التقليدي : " من وين حضرتك ? " الذي يقول أشياء كثيرة عن الشخص المنوي التعرف إليه ، وكان الجواب الذي لم أكن لأتوقعه أبداً :
ــ " من تل عباس " قالت لي ، فهل تعرفينها ?
ومن يعرف سهل عكار أكثر مني ? ملعب الريح الشرقية ? سهل الخير والبركة بأنهاره الكريمة ، وتربته الخصبة ، وقراه البسيطة المتواضعة ، وتلاله ووهاده ، منبت السماق والزعتر ........ والهندباء والخبيزة والدويك والقرصعنة والمسيكة والحرتمنة .... وحيث يسرح الحلزون على هواه تاركاً شريطه الللامع من ورائه مدللاً فيه على وجوده في تلك الأرض البارة .... وصارت أسماء تلك القرى الوادعة تعود إلى ذاكرتي بالتوالي : الكنيسة ، سعدين ، دارين ، الحيصة ، المسعودية ، تل بيبية ، الشيخ زناد ، السماقية ...... وتل عباس الشرقي ، والغربي ، وتخيلت جارتي تمشي بالكعب العالي في تلك الحواكير فتستعصي علي الصورة ، حتى سمعتها تسألني :
ــ هل تظنين بأنه من المسموح لنا بأخذ " البزاق " معنا على الطائرة ?
ــ عن أي " بزاق " تتحدثين ? وأين هو " البزاق " ? سألتها .
ـ هنا ! قالت وهي تشير بيدها إلي الحقيبة " المريبة " الموضوعة بيننا والتي كنت أظن بأنها تحتوي على كنز التيتانيك .
ــ ولماذ تأتين بالبزاق إلى فرنسا ? سألتها بكل استغراب .
ــ لأنني ذاهبة إلى أخي الذي يدرس الطب في " ليون " ، وهو يحبه كثيراً لكنه لا يأكل سوى " البزاق البلدي " ولا يحب البزاق الفرنسي .
حقيقة ، كانت مفاجأة لا تخطر على البال ولم أكن لأتوقعها أبداً ، ولم يكن ليخطر لي بأن حرص هذه الفتاة كان على " بزاقات " أخيها ، وأنها تركت الحقيبة مفتوحة خوفاً عليها من الاختناق في داخلها ، وأن كل نظرات الارتياع تلك كانت ترسلها فلأنها كانت تخشى خروج تلك الحلازين من الحقيبة وزحفها في الطائرة على أرجل المسافرين . صحيح ، " إن بعض الظن إثم " .
|