| لا تقل محالا .... كن أول من يقيّم
السلام عليكم أثار الأساتذة الكرام مسألة النسخ ,ثم أطنبوا في قولهم بعدم جواز نسخ التلاوة وبقاء الحكم ولنا أن نقول مستضيئين بكلام علمائنا ,غير متعبدين له ,لكن مستضيئين مسترشدين ,وللحق طالبين ,والله المعين . العقل لايمنع جواز نسخ لفظ الآية دون حكمها ,ونسخ حكمها دون لفظها ,ونسخهما معا ,وذلك لإن الآية يتعلق بها أحكام كما يلي : أن تلاوة لفظ الآية يثاب عليها بالإجماع . أن كتابة الآية في القرآن حكم من أحكامها . وأن إنعقاد الصلاة بتلك الآية يعتبر حكما من أحكامها . وأن مادلت عليه الآية من وجوب أو تحريم ,أو ندب أو كراهة أو إباحة مما يتعلق بالمكلف يعتبر أيضا حكما من أحكامها . فإذا ثبت أنه يتعلق بالآية أحكام جاز أن يكون إثبات التلاوة والحكم معا فيه مصلحة في وقت ومفسدة في وقت آخر ,وجاز أن لا يكون إثبات أحدهما مصلحة مطلقا ,وجاز أن يكون إثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت . وبناء على ذلك جاز عقلا رفع الحكم والتلاوة معا ,او رفع الحكم دون التلاوة ,أو رفع التلاوة دون الحكم ,فلا تلازم بينهما ,لإنها كلها أحكام شرعية وكل حكم قابل للنسخ . ومادام الأستاذ زهير قد أشار بإن هذا رأي المعتزلة ,وأنها فرقة لايستهان بها ,فيجب أن نقول أن المعتزلة كانوا يستدلون بدليلين هما : أن نسخ الآية وبقاء ما أفادته من الأحكام يضيع فائدة إنزال القرآن ,لإن فائدة إنزاله إفادة الأحكام ومادامت الأحكام تستفاد بدونه ,فلا فائدة من إنزاله فامتنع بقاء الحكم ونسخ لفظ الآية . ويجاب عليهم بالقول بإنه لايمكن التسليم بذلك ,ففائدة إنزال القرآن ليست محصورة في إفادة الأحكام ,فالفائدة تكون في الأحكام والأعجاز أيضا ,وزيادة الثواب بتلاوته ,والإعجاز والثواب قد حصلا من الآية قبل نسخ تلاوتها . ودليلهم الثاني قولهم بإن فائدة بقاء لفظ الآية هي تلاوتها والثواب على ذلك ,فرفعها حرمان للعبد من هذا الثواب ,والله سبحانه لايحرم عباده من شئ فيه مصلحة لهم ,فكيف يقال يجوز رفعها . ويجاب عليهم بإنه لايمتنع عقلا أن يكون مقصود الشارع من إنزال الآية بلفظ معين هو تعريف العباد بالحكم دون التلاوة ,فلما نزلت تلك الآية بلفظ معين وعرف العباد عن طريق ذلك اللفظ الحكم الشرعي المراد وهو –مثلا رجم الزاني المحصن –رفع لفظ الاية وانتهت مهمته ,وبقي الحكم المستفاد من تلك الآية ليعمل به . *وحقيقة أني أعجب من أستاذنا الخلوق زهير ظاظا عندما يشير إلى أن هذا القول قول المعتزلة وهي فرقة لايستهان بها ,وقوله إنه لايعيب هذا الرأي أن يكون رأي العامة ,وهو الباحث الكبير الذي لايجارى في بحثه ,ولو أخذنا رأي المعتزلة في الحسبان فعلينا أن نأخذ برأيهم أيضا من الناحية الأخرى حيث أن فرقة منهم لايرون نسخ الحكم وبقاء التلاوة ,فهل هذا الرأي ينهض عند من يخالف الأساتذة الكرام .وماذا نسمي هذه الحجة ?. واسمع ماذا يقول العلامة اليمني الشوكاني حينما استشهد أحدهم بخلاف أبي مسلم الأصفهاني البليغ النحوي المتكلم المعتزلي حين قال بجواز النسخ بغير وقوعه : "وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلا قطعيا ,وأعجب من جهله بها حكاية من حكا الخلاف عنه في كتب الشريعة ,فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين ,لابخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية" . ثم قال عن نقل خلاف فرق اليهود كالشمعونية والعنانية وغيرها التي قالت بعدم جواز النسخ : "وليس بنا إلى نصب الخلاف بيننا وبينهم حاجة ,ولا هذه بأول مسألة خالفوا فيها أحكام الإسلام ,حتى يذكر خلافهم في هذه المسألة ,ولكن هذا من غرائب أهل الأصول ". ولنا أن نقول معلقين على كلام الشوكاني أن كلام المعتزلة بعدم جواز النسخ للتلاوة وبقاء الحكم باطل عقلا ,وقد وقع مايخالفه سمعا حيث ثبت الدليل الصحيح على وقوع مثل هذا النوع من النسخ وذلك كما في آية الرجم وهي مروية عند مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد والنسائي والدارمي والحميدي والبيهقي, عن طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ,وكلها طرق متعددة ومتعاضدة تدل على أن آية الرجم كانت مكتوبة ونسخت بعد تلاوتها. واستتباعا فإننا نقول مستوحين من كلام الشوكاني رحمه الله ,مدى علمية علماء الأصول عليهم رحمة الله ومنهجيتهم ,وحرصهم على نقل الأقوال حتى لو كانت لليهود وهم أعداء الشريعة وأكبر محاربيها ,ففرق بين ذكر الرأي في مبحث علمي ومناقشته ,وبين أن أجعله حجة وسندا وعمادا للدين ,وأطعن به خاصرة العلماء الصادقين ,مع نعتهم بالعته والشبه . ولفائدة أتم ,وبرهان أوضح ,وحجة ألوح ,ومحجة مسلوكة ,وإقناع يكفي ,وجدل يشفي ,فانظرفتح الباري وشرحه للحديث في باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت ,ثم انظر ماكتبه الشنقيطي في أضواء البيان معلقا على الحافظ , في مطلع تفسير سورة النور ,والله يهدي من يشاء إلى الحق بإذنه . وما ذكره الأخ السعدي من اعتراض فقد أورده الزركشي وأجاب عليه بقوله : "والذي يظهر أنه ليس مراد عمر هذا الظاهر ,وإنما مراده المبالغة والحث على العمل بالرجم لإن معنى الآية باق وإن نسخ لفظها ,إذ لايسع مثل عمر مع مزيد فقهه تجويز كتبها مع نسخ لفظها ,فلا إشكال . وأما الشيخ القرضاوي فقد قال هذا الكلام في برنامج الشريعة والحياة في رمضان الفائت ,على حد علمي , وكان هذا في معرض رده على الجابري الذي ادعي نقص القرآن في مقالته الشهيرة ,واحتج الشيخ بنفس حجة الشيخ رشيد رضا وأن آية الرجم لاتناسب عربية القرآن وفصاحته ثم استشهد بكلام للرافعي يؤيد مذهبه ,مع أن الرافعي في كتابه إعجاز القرآن اشترط في قبول الرواية:" موافقة العربية ورسم المصحف وصحة السند ,وقال إن القياس عند علمائنا هو موافقة العربية بوجه من الوجوه ,سواء كان أفصح أم فصيحا,مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لايضر مثله ,وذلك لإن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها بالإسناد لا بالرأي" وكثيرا ما ينكر بعض اهل العربية قراءة من القراءات ولايحفل أئمة القراءة بإنكارهم شيئا ,وذلك من أجل العلة المذكورة قبل قليل .ا.ه. واعلم وتيقن أن المعتزلة قبل الشيخين عبده ورضا قد تعودوا الطعن في الأحاديث الصحيحة لا لشئ إلا بدعوى أنها خالفت عقولهم ,-وهذه والله عكاز العميان- ,وكان مما امتازوا به جميعا عدم توقيرهم لمخالفيهم ويشهد على هذا تفسير الشيخ عبده وتفسير المنار ,وما حفل به من تحامل على العلماء ,فإذا أضفت إلى ذلك الغرائب والعجائب والتحكم التأويلي في هذه التفاسير ,وذلك كتفسير الحجارة في سورة الفيل بأنها الحصبة والجدر ي وآراءه الغريبة حول حقيقة الملائكة وإبليس ,ونفيه للسحر تبعا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني الشافعي وغيرها مما لايمكن قبوله من الشيخ ولا ممن اتبعه كالشيخ رشيد رضا . نعم لا نماري في أن للشيخين فضائل كثيرة ,في نشر العلم,والذب عن الملة ,وأحسنوا أيما إحسان في تقريب العلم للعامة ,سواء الشيخ عبده في تفسيره الأدبي والاجتماعي للقرآن وربطه بحياتهم ,وجعله منهجا يقتدونه ,وسبيلا يتبعونه ,كتفسير الشيخ لسورة العصر- مثلا – وكلامه عن الصبر ,فهو تفسير مبدع عجيب ,والشيخ رضا كذلك عبر مجلته المنار ,التي نفع الله بها الكثير من أمة الإسلام ,لكن كلا الشيخين ليسوا بمحدثين كالألباني مثلا , ولاطاقة لهم بتتبع الأسانيد ونقد المتون وعلم الرجال ,فيقبل منهم التصحيح والتضعيف للروايات –سوى الصحيحين طبعا-,ولا أصوليين مجتهدين مجددين كالشوكاني مثلا . إذن وبعيدا عن كل الإغواءات والتهويلات التي تمارس على عامة الناس في أيامنا هذه ,فإني أقول ومن منطق علمي ,وانطلاقا من الإيمان بالبحث عن الحق والتجرد له ,والإخلاص من أجل بلوغ هذه الآية فإنه يحق لي أن أرفض بعض تلك الآراء التفسيرية التي نسمعها لدى الشيخ عبده والشيخ رضا ,ودون التعليق عليها وعلى من يقلدهما ,وينهج بنهجهما ,أو نعتهما بأي نعت ,أو وصفهما بأي وصف, أو تصنيفهم ,أو الطعن في نواياهم ,ونترك هذا الكلام وأشباهه ,للفارغين الثرثارين المهرجين . **ولكن ألا نتفق يا أستاذ زهير أنا وأنت والجميع على صدق القرآن وصحته وبلاغته وفصاحته وإعجازه وصدقه وثبوته ,وعلى عظم أجر تاليه في أيامنا المباركة هذه ,بلى يسعنا ويسعنا أكثر من ذلك بإن تطرز هذه المجالس ,بالفوائد والنكات والغرر النادرة كتلك التي يأتي بها أستاذنا يحيى المصري سدده الله ورعاه . ننتظر نقاش مفيد من الأساتذة الكرام يحيى وزهير والدمنهوري وسعيد ومنصور مهران صاحب الرحلة القرآنية التفسيرية وبقية المشتركين الكرام ,ومن وجد علما ,أو فهم فهما ,فليقل ولايحقر نفسه. يقولون أن الكاتب بقلمه ,كالضارب بسوطه يرى الصواب في الإقلال فإذا كتب أو ضرب تحرك دمه فرأى الإكثار أحكم وأصوب ,فبدل السوطين عشرة ,وعوضا عن الكلمتين جملة ,وهذا جواب الطالب ,وتدبير المتوحد ,يرقب الخطرات ,ويقيد الأوابد ,فإن أساء فما هذا أردت ,وأن أحسن فذلك الذي قصدت ,والله أسأل أن يغفر لنا ,ويقبل صومنا ,فهو خير مجيب ,وأكرم مطلوب ,والسلام . | خالد العطاف | 24 - سبتمبر - 2007 |