تركة الشيخ أحمد زروق د. سليمان القرشي/ المغرب يعتبر الشيخ أحمد زروق من أعمدة التصوف الإسلامي وأقطابه الكبار الذين جمعوا بين العلوم العقلية والنقلية، ومشوا بعيدا في درب الزهد والتصوف، تنظيرا وممارسة، فقد خلف هذا الشيخ تراثا دسما لا يكاد يستغني عنه باحث في أدبيات التصوف، كما لا تكاد تخلو إليه إشارة، استشهادا ونقلا ونسخا، في كل كتب التصوف اللاحقة لعصره، ومن هذا التراث نذكر على سبيل المثال لا الحصر: كتاب قواعد التصوف، وكتاب النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية، وهما بتحقيق صديقنا الدكتور عبد المجيد خيالي، وعدة المريد الصادق، والكتاب مطبوع ومتداول، وشرح حزب البحر وهو مطبوع على الحجر بفاس سنة 1319 هـ، وشرح على متن الرسالة، وهو من مطبوعات دار الفكر ببيروت سنة 1982م. هذا بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الكتب والرسائل والكناشات والشروح المخطوطة، والتي تحتفظ الخزانات المغربية بنصيب وافر منها. وإذا رمنا الاقتراب أكثر من هذا القطب، فسنقول إنه أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى، أبو العباس زروق، البرنسي، الفاسي الأصل، ولد يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة ست وأربعين وثمانمائة بفاس (846 هـ / 1442م)، وبها قرأ ثم مصر والمدينة المنورة، وتجرد وساح، توفي بتكرين من أعمال طرابلس عام 899 هـ/1493م. وبالرغم من شهرته التي طبقت الآفاق، فإن بعض الجوانب الخاصة من حياة هذا الهرم المؤثر بشكل قوي ومباشر في الجانب الصوفي من الثقافة العربية الإسلامية لا زالت معتمة يلفها الغموض، ومن شأن إخراج مخطوطاته ونشرها إزاحة اللثام عن بعض هذه الجوانب. وقد وقفنا في رحلة أبي سالم العياشي على زمام تركة هذا الشيخ وعدد ورثته، وهو مما انفردت به هذه الرحلة الموسوعية، فرأينا أن نعيد نشره هنا تعميما للفائدة. يقول أبو سالم العياشي: " وقد وجدت عند صاحبنا هذا ورقة فيها زمام تركة الشيخ وعدة أولاده ونسائه ومن خلفه من بعده، وعدد متخلفه من كتبه وأمتعته. ولننقلها هنا بحروفها لما اشتملت عليه من الفوائد، منها استفادة عدد أولاد الشيخ وأين استوطنوا بعده، فإني لم أجد ذلك بعد الفحص الشديد عنه، ومنها التأسي به في قلة ما خلفه من الدنيا مع كونه ذا أولاد ونساء في بلد يشق فيها العيش، ولا يعوزه ما يخلفه لهم لو شاء لانتشار صيته وخدمة الدنيا وأهلها له، ومع ذلك لم يخلف منها إلا ما ستراه، ونصه بعد الافتتاح: بعد أن توفي إلى عفو الله الشيخ الفقيه العالم العلامة الصالح العارف المحقق القدوة المتبرك به أبو الفضل أحمد بن الشيخ المقدس المرحوم أبي العباس أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق، غفر الله له ولوالديه، انحصر إرثه في زوجته أمة الجليل ابنة أحمد المكرم أبي العباس أحمد بن الفقيه العدل أبي زكريا يحيى الغلياني المسراتي، وأولاده منها أحمد أبي الفضل وأحمد أبي الفتح وعائشة. وزوجته فاطمة ابنة أبي عبد الله محمد الزلاعية الفاسية، وولده منها الفقيه الشاب الطالب الأسعد أبي العباس أحمد الأصغر، وابنه الشيخ الفقيه القدوة المدرس أبي العباس أحمد الأكبر لا غيرهم في علمهم. ثم توفي أحمد أبو الفتح المذكور وانحصر إرثه في والدته أمة الجليل وشقيقه أبي الفضل وعائشة المذكورين، وأخيه لأمه أحمد بن الشيخ الفقيه الأجل الأسعد الصالح أبي علي منصور بن أحمد بن محمد البجائي لا غيرهم في علم شهوده، ثم توفيت عائشة المذكورة وانحصر إرثها في أمها أمة الجليل المذكورة وشقيقها أبي الفضل وأخيها لأمها أحمد بن الشيخ منصور المذكور. ثم توفي أبو الفضل المذكور، وانحصر إرثه في والدته أمة الجليل وأخيه لأمه أحمد بن الشيخ منصور المذكورين، وأخويه لأبيه أحمد الأكبر وأحمد الأصغر المذكورين، لا غيرهم في علم شهودهم. وكان من مخلف الشيخ أحمد المذكور نصف الفرس الشهباء كبيرة السن، شركة بينه وبين الحاج عبد الله بن عزازة التكيراني المسراتي بالنصف الثاني، مع برنوس أبيض، وجبة صوف بزر مختم مع ثوب بالغزل، وسبحة قفل كان أخذها الشيخ أحمد المذكور من الشيخ سيدي أحمد بن عقبة الحضرمي اليمني، نفعنا الله به، آمين. مع أربعة عشر سفرا، وكناش؛ فمن الكتب في الفقه من مختصر ابن عرفة رحمه الله. وأسفار في الكبير مع حاشية الوانوغي والمشدالي على المدونة، مع سفر فيه مختصر الشيخ خليل، والشامل للشيخ بهرام، رحمهما الله، مع شرح ابن عسكر في الفقه للشيخ أحمد المذكور ألفه. ومن غير الفقه الديباج المذهب في التعريف برجال المذهب لابن فرحون، رحمه الله، ومعه تأليف للشيخ أحمد المذكو: القواعد في علم التصوف، ومعه شيء من علم الطب، مع سفر فيه قواعد الونشريسي، والمذكور شيء من علم الطب، مع سفر فيه الزركشي والسبكي في أصول الفقه، وبلوغ المرام لابن حجر، والبلالي اختصار الإحياء مع سفر به شرح التفتازاني في أصول الدين، والحِكم لابن عطاء الله، و المنهل الروي في علم الحديث وغيره. مع سفر من ملم الحديث بخط الشيخ أحمد المذكور. وتأليف للشيخ عبد الرحمن الثعالبي مع إجازة له، وشيء من ابن حجر في علم اللغة، رحمهم الله، وسفر فيه تفسير القرآن، وكناشه محتو على وظائفه وغير ذلك. وقد كان استوطن الشيخ أحمد المذكور الأكبر بعد موت أبيه ببلاد المغرب، واستقر آخر ذلك بمدينة قسنطينة حرسها الله، وأرسل مراسيل للإتيان بالمخلف المذكور بخط يده، وثبت منها بالعدالة حسبما بيانه، كما أذن بأن يوجه له ذلك مع من أمكن، وكان جميع ذلك تحت يد الشيخ منصور المذكور، وامتنع من ذلك لعدم الأمن والأمين حتى وصل الفقيه الطالب أبو العباس أحمد الأصغر المذكور في عام تاريخه لمدينة طرابلس حرسها الله تعالى. ولم يأت بموجب يقتضي له قبض ذلك لأخيه، فتوقف أصحاب الشيخ المذكور، فطلب الشاب أحمد المذكور أن يعطى ذلك في زمامه، يطلب نصيبه ونصيب والدته فاطمة المذكورة، لكونه وارثها ونصيب أخيه أحمد الأكبر المذكور فوافقوه على ذلك بعد ثبوت الإذن المذكور بأن يعطي ذلك لأخيه، حضر إلى شهيديه الفقيه أحمد المذكور الأصغر نائبا عن نفسه وعن أحمد الأكبر. وأشهد أنه قبض جميع المخلف المذكور عدا نصف الفرس فإنه قبض ثمن ذلك، وهو ثمانية دنانير ذهبا مشحرة من الشيخ منصور المذكور قبضا تاما، وأبرأه بتاريخ أوائل ذي الحجة الحرام متم عام ثلاثة عشر وتسعمائة.انتهى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، نقلت الرسم المذكور بحروفه من غير زيادة ولا نقصان مع وجود بعض التصحيف به، ولم أغير شيئا منه بل تركته كما وجدته، ولم أكتب من الرسم الأصلي بل من رسم نقل منه، والله أعلم". والواقع فإن هذا النص البالغ الأهمية في التعريف بقطب من أقطاب التصوف الكبار ويساهم في الاقتراب من حياته الشخصية بشكل كبير يزكي أدبيات التصوف الغنية بالنصوص الممجدة للفقر المرتبط بالابتعاد عن زينة الدنيا ولعبها ولهوها والتكاثر الذي يسم مريديها في الأموال والأولاد. يقول أبو القاسم عبد الكريم القشيري في كتابه "الرسالة القشيرية"، الذي يعتبر من الكتب المنظرة لأدبيات التصوف: "الفقر شعار الأولياء وحلية الأصفياء، واختيار الحق سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء، والفقراء صفوة الله عز وجل من عباده ومواضع أسراره بين خلقه، بهم يصون الخلق، وببركاتهم يبسط عليهم الرزق". وهو نفس المنحى الذي نحاه الشيخ زروق في كتابه قواعد التصوف، يقول: "معونة الله للعبد على قدر عجزه عن مصالحه وتوصيل منافعه ودفع مضاره، ومحبة الناس له على قدر بعده عن المشاركة لهم فيما هم فيه، فمن ثم قويت محبة في الصبيان والبهاليل، وآثروا الزهاد وأهل الخلوات على العلماء والعارفين، وإن كانوا أفضل عند صحيح النظر". ولا شك أن الإرث الحقيقي لهذا الفقير لم ينحصر في متاع تقتسمه قلة قليلة من الورثة الشرعيين، ولكنه إرث أكبر من ذلك بكثير؛ إنه علم نافع تنتفع به الإنسانية جمعاء، ومعرة تتوارثها أجيال عن أجيال، فأنعم به من إرث. |