يعتبر الكتاب مكونا أساسيا من مكونات الحضارة العربية الإسلامية التي مثلت في جانبها الثقافي ثورة على تقاليد الشفهي المرتبطة بالنظام القبلي واتجهت نحو التدوين والتوثيق والتسجيل، اتساقا مع التحول العام في المجتمعات العربية من نظام القبيلة إلى نظام الدولة. وأما هذه الأهمية الخاصة للكتاب في الحضارة العربية الإسلامية، فقد امتدت عناية المؤسسة لكل جوانبه ومتعلقاته، بما فيها عنصر التوزيع بمفهومه المعاصر، حيث تدخلت الدول حين كان في مقدورها أن تتدخل لنشر الكتب الداعمة لتوجهاتها والخادمة لأغراضها، أو المستجيبة لذوقها والمسايرة له، وذلك في مختلف المناطق الخاضعة لنفوذها، أو لتلك التي تربطها بها علاقات جوار وحوار ثقافي. وبالإضافة إلى الجهود الرسمية في مجال نشر الكتاب في الحضارة العربية الإسلامية، فقد تدخلت المجموعات السياسية والعقدية والصوفية بشكل فعال وقوي في مجال تداول الكتب ورواجها في جميع أرجاء العالم العربي الإسلامي، وذلك في إطار الدعوة لمعتقداتها والترويج لفلسفاتها؛ استقطابا لمؤيدين جدد، أو دفعا لطروحات الخصوم والمناوئين، الفعليين أو المفترضين. ومن العوامل الرئيسة في مجال انتشار الكتاب العربي الإسلامي وتداوله بين الشرق والغرب نذكر الرحلات الحجية التي لعبت دورا كبيرا في مجال الانتشار الواسع للكتاب، حيث حرص الملوك والأمراء والقواد والرؤساء والكتاب والأدباء والنساخ وأهل الوقف وأصحاب الوصايا على تزويد مكتبات الحرمين الشريفين بواسطة الرحالة على مد المكتبات بنسخ من مختلف الكتب، خاصة منها كتب الفقه، والشروح والحواشي، بالإضافة إلى كتب التصوف. وبالإضافة إلى مكتبات الحرمين فقد حظيت المكتبات المنتشرة على الجنبات والطرق والمسالك وتلك المبثوثة في الممالك، وخاصة منها مكتبات الزوايا والأربطة والمساجد والخانقات، بجزء كبير من نسخ المؤلفات التي تم توقيعها في الغرب الإسلامي، وقد أكد العلامة محمد المنوني رحمة الله عليه في كتابه: "ركب الحاج المغربي" أن الوفد المغربي إلى الحج كان يحمل هدايا للحرمين الشريفين وغيرهما تتألف من مصاحف مهمة وكتب قيمة (ص: 25). ولعل المفهوم الواسع للوقف في الإسلام، والذي شمل أيضا وقف الكتب وتحبيسها، باعتبارها وسيلة هامة وأساسية من وسائل نقل المعرفة، قد أجج رغبة الرحالة في حمل نسخ من كتبهم وكتب مواطنيهم لمكتبات الحرمين، كما أن إهداء لمكتبات الحرمين الشريفين استهدف تحقيق رغبة كبرى تتمثل في الانفتاح على قراء محتملين من مختلف الأقطار والبلدان، ولعل شيئا غير قليل من هذا الهدف قد تم تحقيقه؛ إذ انتشرت الكتب انتشارا واسعا امتد ليشمل مساحات جغرافية مهمة، وبالتالي فقد تلقاها عدد كبير القراء بالقراءة والشرح والتعليق والتفسير والرد، فتحققت بذلك غاية التفاعل وفتح باب التأثير والتأثر، كما تحققت غاية أخرى تمثلت في تجاوز الكتب للحدود الزمانية، حيث عبرت بواسطة هذا الجسر إلى عصرنا الراهن، إذ ضمن لها تعدد النسخ والتوزيع عبر مختلف المكتبات تحدي عاديات الزمان وتدخل الإنسان الذي لم يسمح في كثير من الأحيان إلا بوصول الخبر عن عدد كبير من الكتب. وإذا قمنا بتصفح بعض الرحلات الحجية المغربية، فسنجد حرص الرحالة على زيارة المكتبات المختلفة والاستفادة من محتوياتها، باعتبار أن فئة هامة من هؤلاء الرحالة كانوا من العلماء والفقهاء والنساخ، يقول ابن حمادوش الجزائري (ق 12 هـ) في رحلته: "وفي سادس عشرة، موافق أول يوم فصل الصيف، ابتدأت نسخ كتاب الجدل، وفي عشرين منه تممت شرح الجدل، وفي حادي وعشرين منه ابتدأت كتاب النجاح لابن سينا في المنطق، وفي ثالث وعشرين تممت كتاب الجدل للسمرقندي، وفي سادس وعشرين منه تممت كتاب الأحكام والطلاسم لابن البنا، وفي اليوم الذي بعده تممت كتاب أبي معشر" (ص: 10). كما أن زيارة هذه المكتبات مثلت جزء من مسار الرحلة الثقافي الموازي لمسارها الجغرافي، إذ أن عددا غير قليل من الرحلات الحجية اتخذ منحى علميا صرفا، فاتجهت عناية الرحالة تبعا لذلك إلى الاهتمام بالحركة الفكرية في المشرق والتصدي للتعريف بالعلماء والأدباء والكتاب والشعراء، ومن هؤلاء نذكر خالد بن عيسى البلوي في رحلته الموسومة بـ : تاج المفرق في تحلية علماء المشرق ، والذي يخبرنا أن أهل تونس قد اجتمعوا عليه في طريق عودته "يطالبونه بما اجتلب من الفوائد، ويقصدونه في لإطلاق ما قيد من القصائد". كما أن أبا سالم العياشي المغربي قصد أن تكون رحلته الحجية ديوان علم وأدب، يقول: "وقصدي إن شاء الله من كتابة هذه الرحلة أن تكون ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة، وإن وجد الأمران فيها معا فذلك أدعى لنشاط الناظر فيها، سيما إن كان صاحب تلوين، وأما صاحب التمكين فلكل شيء عنده موقع ونفع لا يوجد في غيره، والله المسؤول أن يلهمنا رشدنا ويخلص لوجهه فيما نأتي ونذر قصدنا، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وبالإجابة لدعاء سائله كفيل" . وتبعا لذلك، فقد حرص هذا الرحالة عل زيارة المكتبات المختلفة للقراءة والاطلاع والنسخ، يقول واصفا خزانة سيدي أحمد الدباسي بمدينة توزر التونسية: " ومدينة توزر مدينة حسنة غزيرة المياه كثيرة الأجنة والنخيل، ينساب فيها وادي كبير، منبعه من غربيها ... ودخلت إلى خزانة سيدي أحمد الدباسي عند حفيده سيدي يدين، ووجدت فيها عدة كتب، منها السفر الثاني من كتاب الوجيز للشيخ عبد الغفار بن نوح، وهو كتاب نفيس جدا غية في بابه، وكان في ملكي السفر الأول وطال بحثي عن الثاني فلم أره إلا في هذه الخزانة، ولأجل اغتباطي به طالعت جله في هذه المدة، ... وبلغنا إلى نفطة قبل الظهر وبينها وبين توزر ثمانية عشر ميلا، وزرنا ذلك اليوم وجلسنا هناك حتى صلينا الظهر، ووجدت هناك سفراً من شرح الشقراطيسية لابن المصري، وهو كتاب ممتع غاية، طالعت بعضه في تلك الهنيئة وقيدت منه". كما حظيت مكتبات الحرمين الشريفين باهتمام هذا الرحالة الذي حرص على زيارتها والإفادة من محتوياتها، وبين هذين الفعلين، فقد تمكنا من عصرنا الراهن هذا من الاقتراب أكثر من واقع المكتبات في الحرمين الشريفين ومعرفة جزء من محتوياتها وذخائرها، يقول واصفا مكتبة أبي مهدي عيسى الثعالبي: " ...ولها باب مفتوح إلى المسجد فيما بين باب حزورة وباب إبراهيم، وكان يجلس فيها أحيانا، وهي مأواه قبل أن يتأهل، فلما سافر إلى المدينة ترك فيها بعض كتبه، وكانت مفاتحها بيد رجل من أهل إفريقية من أصحابه كان يأوي إليها، فطرق حادث السيل وغفل عن تنحية الكتب ظنا منه كغيره أن الأمر لا يبلغ إلى ما بلغ، حتى أتى الماء عليها كلها ولم يسلم منها شيء، وكانت نحو الثمانين سفراً، فيها من نفائس الكتب وغرائبها التي لا تكاد توجد في غيرها... كان منها أجزاء من المدونة الكبرى التي هي أم الدواوين الفقهية ولم يسلم منها شيء... ومنها عيون الأدلة لابن القصار، وكان يثني عليه كثيراً في بسط أدلة المذهب والانتصار له والرد على المخالفين، مع التحقيق التام، إلى غير ذلك من الكتب منها ما هو ملكه، ومنها ما هو من كتب الوقف" كما أفادنا هذا الرحالة أنه وقف على نسخة من رحلة ابن رشيد "عليها خطه وإجازته لتلميذه؛ صاحبه عبد المهيمن الحضرمي رحمه الله تعالى، رأيت هذه النسخة بمكة المشرفة عدة أسفار، وذكر في آخرها أنه استخرجها من مسوَّداته". على أن هذا الاهتمام بالكتب والمكتبات لم يكن حكرا على المتقدمين من رحالة الغرب الإسلامي، ولكنه كان قاعدة مطردة شملت كل عصر وطبعت كل جيل، فهذا عبد الله بن جعفر الكتاني (ت 1345 هـ) يخبرنا في الرحلة السامية أنه اجتمع بالشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني فناوله بعضا من مؤلفاته. والواقع فإن دور الرحلات الحجية المغربية في نشر الكتب والتعريف بالمكتبات دور في غاية الأهمية، إذ ساهم الرحالة في نقل الكتب وتداولها بين المشرق المغرب، سواء عبر النسخ والشراء، أو عبر الإهداء والاستهداء، كما ساهمت النصوص الرحلية، كنصوص موسوعية، في حفظ مقتطفات من بعض الكتب التي لم يبق لها ذكر أو أثر.
_______________
* بعث لنا صديقنا الأعز سليمان القرشي بهذه المقالة هدية منه لموقع الوراق، فكل الشكر له. ولكنني اتعجب من الأستاذ سليمان لماذا هو لم ينشر المقالة بنفسه في مجلس الرحلات ? وهذا هو الأنسب ليكون الموضع في سجل صداقته، لذلك اقتضى التنويه، حتى لا يظن القراء أنني أتيت بهذه المقالة من مجلة، أو من موقع على الشبكة. مكررا شكري وامتناني لأخي وصديقي سليمان القرشي، متمنيا أن نلتقي مرة أخرى في أبو ظبي. وتحياتنا لكل الأصدقاء في الرباط وفي المغرب الغالي. |