| أجمل الكلام: الكلام في الجمال كن أول من يقيّم
و الكلام عن الجمال والحسن, مليح مستملح, عذب مستعذب, قريب من الروح ,خفيف على القلب, ولعمري إن الطباع تهوي إليه, و النفوس لا تشبع منه, لأنه في أصل التركيب وعين الفطرة, والكائنات تجري منه على عرق قديم.
وإنما أرسلت هذا المعنى في الكائنات دون أن أحبسه في الإنسان, لأنك تجد في أعمالها وحركاتها ما يدل على ضلعها إلى الجمال, وميلها إلى الحسن بحسب قدرها وخَلْقها وطبعها.فأنت ترى إلى الأنثى من الجياد تُقدم الفحل الخنذيذ القوي في الضراب ,على الضعيف الفاتر, وهذا مقياس الحسن عندها, والجمل يطمح إلى الناقة الشابة الفتية دون الناب المسنة وهذا ما يجبذه إليها,فهو لا ينظر منها إلى وساعة العين ,وعذوبة الصوت, وحلاوة البيان وحسن الجَدْل.
وأنت ترى في ثًلة, كًبْشان وأكثر يتناطحون في سِفاد نعجة بعينها,وفي الثلة غيرها من النعاج,وما ذلك منهم إلا دليل على أن تلك النعجة هي أكمل من أخواتها ,وأجمع لصفات الحسن التي تفرقت في غيرها, بحسب جنسها وخلقها.
ومقامات الجمال شريفة تؤنق الأسماع ,رائقة بالغة الإمتاع, لا تكاد تحيط بها العبارة , ولا تنفع فيها الاشارة, وهي شديدة التأثر, مرهفة للغاية, رقيقة الحواشي, تنحط بها أدنى آفة تصيبها, فتردها من الحسن إلى السماجة , وتنزع بها من القمة إلى الحضيض.
والجمال جزء لا يتجزء ,فلا بد فيه من التناسب والتلائم ,وتلاحم الأجزاء وتعادلها,لأن الغاية التي يجري إليها في كل أحواله هي التساوي والاعتدال,والاستواء في الخلقة والتركيب,ووضع كل شيء في محله, بمقداره ووزنه, دون تزيد ومجاوزة للحد.
ولأبي عثمان الجاحظ في مقاييس الحسن , ومقادير الجمال , وصفات الجواري الملاح , والكواعب النواهد, رسالة صغيرة الجرم ,جزلة اللفظ ,محكمة السبك ,معروفة برسالة القيان يقول في فقرة من فقرها:
وأنا مبين لك الحسن: هو التمام والاعتدال ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة, وكدقة الجسم , أو عظم الجارحة من الجوارح , أو سعة العين أو الفم مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخلق,فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن وإن عدت زيادة في الجسم.والحدود حاصرة لأمور العالم , ومحيطة بمقاديرها الموقوفة لها,فكل شيء خرج عن الحد في خلق أو خلق- حتى في الدين والحكمة اللذين هما أفضل الأمور- فهو قبيح مذموم.
أما الاعتدال فهو وزن الشيء لا الكمية, والكون كون الأرض لا استوائها , ووزن النفوس في أشباه أقسامها.ووزن خلقة الإنسان اعتدال محاسنه وألا يفوت شيء منها شيئا, كالعين الواسعة لصاحب الأنف الصغير الأفطس, والأنف العظيم لصاحب العين الضيقة, والذقن الناقص والرأس الضخم والوجه الفخم لصاحب البدن المجدع النضو, والظهر الطويل لصاحب الفخذين القصيرين, والظهر القصير لصاحب الفخذين الطويلين, وكسعة الجبين بأكثر من مقدار أسفل الوجه."اه
فتأمل هذا الكلام فإنك ستجده قويما مليحا مقبولا.
والعرب تذم العي والحصر واللحن, والحبسة ورداءة البيان والهذر والسلاطة واللثغة والحكلة واللكنة,وتتمدح بالفصاحة والبلاغة وتمام النطق وسلامة المخرج , و إقامة الوزن, لكنهم كانوا يستحسنون اللثغاء من الغواني الولائد التي تلحن في حديثها , ويعدون ذلك في محاسنهن وملائحهن.
يقول الجاحظ في البيان والتبيين: " وربّما استَملح الرّجل ذلك-أي اللحن- منهنّ ما لم تكن الجاريةُ صاحبةَ تكلُّف، ولكن إذا كان اللحنُ على سجيّة سُكّان البلد. وكما يستملحون اللَّثغاء إذا كانت حديثةَ السن، ومَقدودةً مجدولة، فإذا أسنَّتْ واكتهلَتْ تغيَّرَ ذلك الاستملاح.." ثم قال:" وقد قال مالِك بن أسماءَ في استملاح اللَّحن من بعض نِسائه: من الخفيف
أَمُغَطّىً مِنّي على بصرى للْ |
|
حُبِّ أم أنتِ أكمَلُ النّاسِ حُسنا |
وحـديثٍ ألـذّه هـو مِـمَّـا |
|
ينعَتُ الناعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنَـا |
منطقٌ صائبٌ وتلحـن أحـيا |
|
ناً وأحْلَى الحديثِ ما كان لَحْنَا |
فلثغة الشابة الحسناء ولحنها كان مما يستملحونه و وتستلذه أسماعهم فهو عندهم داخل في معاني الحسن والجمال, وكانوا يكرهون ذلك في الرجل ويعدوه في معايبه ومثالبه وكان الألثغ من البلغاء والأبيناء يتأتى لستر لثغته بإخراج الحرف الذي وقع به اللثغ ومن أشهرهم واصل بن عطاء وقصة مكابدته للاستراحة من هجنة ذلك معروفة,( وقد كانت لثغتي فاحشة في أيام صباي- لا يمكن تصوير هيئتها لفظا وإنما تعرف بالسماع- فكان والدي يأخذ القلم ويجعله بين لساني وفكي الأسفل ويقول لي: الفظ حرف الراء مرارا فما زال بي وما زلت أغالب ذلك وأناضله حتى اتسق لي ما أردت ونطقت الراء على هيئتها.وكان بعضهم إذا أراد أن يمازحني أمرني أن أقول باللهجة المغربية: آ جرادة في البرادة قالت فررر. لكثرة الراآت فيها) .
ولا يزال هذا الإستملاح والإستلذاذ بلثغة المرأة قائما لهذا العهد.لكن كلامنا صار كله لحنا وشارك الرجال في ذلك النساء.
والكلام في الجمال كلما زدته فكرا ازداد اتساعا , وتلك طبيعته لا يثبت على حال و لا يستقر على جنب,وما أظن الجمال استوفى كماله, وبلغ غايته,فكلما امتدت به الدنيا رأيت من آثاره على وجوه الخلائق , وصفحات الأكوان, ما لم يره السابقون, وتلك آية على قدرة الله. وحسبنا في الجمال أن الله جميل يحب الجمال.
وكما قال الجاحظ: والكلام إذا حرك تشعب , وإذا ثبت أصله كثرت فنونه, واتسعت طرقه. ولولا ملالة القارئ , ومداراة المستمع , لكان بسط القول في جميع ما يعرض أتم للدليل وأجمع للكتاب."
والله الموفق للصواب.
| *طه أحمد | 7 - سبتمبر - 2006 |