الموقف من الطائفية:
د.إسماعيل نوري الربيعي
توجهت الحكومة العراقية( خلال العهد الملكي) في بداية تأسيسها نحو بناء مؤسساتها الرسمية، للتمكن من أداء الواجبات التي تعهدت بها أمام الشعب. وعلى هذا حثت جهودها للاستعانة بالكفاءات من الرجال كي يضطلعوا بتلك المسؤولية. ولم تكن مسألة البحث عن الرجال الأكفاء هي قضية السلطة الوحيدة. بل إن التطورات السياسية أفرزت إلى الواجهة العديد من القضايا، وفي مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالقدر الذي حاولت فيه السلطة الرسمية تطمين رغبات وآمال الشعب، إلا أن الرواسب القديمة سرعان ما طفت على سطح الواقع. وعبر أكثر من منفذ، كأن يظهر تحت تأثيرات البيئة المحدودة بتحفيز من جهات حاولت تقديم مصالحها، على حساب تأجيج صراعات قديمة. ولابد من التنبه هنا إلى أن حالة التنوع العرقي والطائفي في العراق، لم تكن بالمسألة الجديدة أو المستحدثة، بل إن العراق وبتاريخه الطويل، عاش على أرضه العديد من الأقوام، ومورست بين ظهرانيه مختلف الطقوس الدينية، وظهرت فيه مختلف التيارات الفكرية والدينية. فكان من الطبيعي أن تحاول كل فئة أو طائفة، إثبات ذاتها من خلال تركيز خصوصيتها. الأمر الذي أدى إلى ظهور بعض المماحكات بين هذه الفئة أو تلك. إلا أن هذا لم يمنع من بروز حالة التعايش بين مختلف الطوائف، وممارستها لحياتها وأداء دورها في الحياة العامة. وكان للسياسة العثمانية التي قامت على أساس الفصل الطائفي على اعتبار أنها ممثلة للخلافة الإسلامية، أبلغ الأثر في ترسيخ الذهنية الطائفية. إن الإرث الفكري الذي حمله الملك فيصل الأول كان مشبعاً بروحية التسامح، المستندة إلى الأصالة الإسلامية. مما حفزه لحشد الجهود نحو استئصال الطائفية. والواقع أن فيصلاً لم يكن ينظر لها بتبسط، فهو يعي جيداً عمق المشكلة، مما جعله يشير في خطاب تتويجه إلى أن من أهم الواجبات التي يجب أن يضطلع بها المجلس التأسيسي المقترح: "يقرر حرية الأديان والعبادات شرط ألا يخل بالأمن العام والأخلاق العمومية.. وتمنع كل تعرض بالدين والجنس واللغة" (176). وكان واقع التجربة العملية قد أفصح لدى الملك مرونة واضحة في التفكير. فإذا ما كان الدين يستخدم من بعض الأطراف لتعميق الانقسام وبث الفرقة، فإنه يبحث في دأب ومثابرة على رمز التوحد، حتى أنه لم يتوان عن التصريح: "نحن عرب قبل عيسى وموسى ومحمد" (177). أما مواقفه فكانت تكشف عن الحزم والقوة في قراراته إزاء كل ما يعكر صفو الوحدة الوطنية أو يعمل لتأجيج الفتنة الطائفية. إذ كان حريصاً على الموازنة في مواقفه، وليس أبلغ من موقفه إزاء الطلبة المفصولين بسبب الأحداث الطائفية التي نجمت جراء صدور كتاب "زكريا النصولي"، "الدولة الأموية في الشام" عام 1927، حيث عمل على تهدئة الأوضاع وبفاعلية واضحة (178). أو التعبير عن استيائه إزاء الكتاب الذي أصدره عبد الرزاق الحصان "العروبة في الميزان" عام 1933 (179). وكان الكتابان قد أحدثا موجة من السخط لدى الشيعة. بدعوى أن كتاب النصولي عمد للطعن في شخص الحسين بن علي بن أبي طالب، أما الاعتراض على كتاب "الحصان" فيكمن في إشارة الكاتب إلى أن شيعة العراق هم بقايا الساسانيين.
انطلاقاً من إحساس السلطة بأهمية حرية الاعتقاد الديني، حرصت على توجيه هيئاتها الرسمية، للعناية بهذا الموضوع حيث نص الدستور عراقي على أن: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة، لا تمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، حرية القيام بشعائر العبادة وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العامة" (180). وإذا ما كانت تطورات الأحداث السياسية قد أبرزت مواقف رسمية، اتخذت طابع التوجه نحو قمع بعض الأصوات المعارضة، كالموقف الذي اتخذه السعدون إزاء بعض علماء الشيعة من تبعية الجنسية الفارسية، ونفيهم خارج العراق، لموقفهم السلبي إزاء الانتخابات وإصدارهم فتاوى بتحريم ذلك. فإنه لم يتوان عن التصريح بأن هذا الموقف، لم يكن موجهاً نحو طائفة بعينها، بالقدر الذي حاول من خلاله التأكيد على أهمية الوحدة الوطنية، حيث أشار إلى: "أن العراقيين لا يفرق بينهم شيء وتجمعهم رابطة الوطن" (181). والسعدون لم يغب عليه، بأن الموقف الذي اتخذه إزاء المجتهدين، كان لابد أن يترك انطباعاً سيئاً لدى الشيعة. مما حدا به إلى إصدار توجيهاته في 23 كانون الثاني 1928 إلى مجلس الوزراء أن: "يعنون عناية خاصة بهم، وتعيين اللائقين منهم في وظائف تناسب مقدرتهم، وتحسين حالة من كان موجوداً منهم في وظائف الحكومة" (182). وكانت الجهات الرسمية قد أحست بعمق مسؤوليتها إزاء الفتنة الطائفية، فوزارة جعفر العسكري الثانية "21 تشرين ثاني 1926 ? 8 كانون ثاني 1928"، لم يرق لها السكوت على حالة التشهير التي درجت عليها الصحف العراقية، في أعقاب الأحداث التي دارت في الكاظمية في 10 محرم 1346 هـ الموافق تموز 1927، والصدام المسلح بين الأهالي والجيش. مما استفزها لإصدار بيان حذرت فيه الصحف: "ولا ريب أن التمادي في هذه المكاتبات يفضي إلى نتائج غير محمودة فنحن نطلب أن تكفوا عن هذه المباحث، منذ الآن، وأن تبتعدوا عن كل ما يشم منه رائحة التفرق أو يمس كرامة الأشخاص، هذا ونحن على ثقة أنكم ستتخذون الحكمة رائدكم في هذه الظروف التي تتطلب تبصراً" (183). وبذات الحماسة توجهت وزارة ياسين الهاشمي الثانية للوقوف في وجه بعض الاحتفالات التي يعمد إلى إقامتها الشيعة، كمواكب التعزية التي تعم أغلب المدن الشيعية، بالإضافة إلى بغداد والكاظمية خلال شهر محرم، على اعتبار ما تثيره من نوازع الانقسام والفرقة في المجتمع الواحد. وكانت الحكومة قد انتهزت فرصة حدوث شغب في مدينة الكاظمية في 23 آذار 1935، فعمد وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني إلى إصدار أمره والقاضي: "عدم السماح لإقامة المواكب العزائية، والتماثيل في الكاظمية، وبغداد في العشرة الأولى من أيام شهر محرم، على أن يكتفي بقراءة التعازي كالمعتاد" (184).
وعت العناصر الوطنية خطورة الطائفية على البلاد، فعمدت إلى حشد الجهود لمواجهتها وفضح مساوئها، وكانت المناقشات قد تناولت بالنقد جوانب عدتها من العوامل التي تساهم في تفاقم هذه المشكلة. حيث عبرت جريدة "دجلة" عن امتعاضها إزاء المناقشات التي دارت حول تخصيص مقاعد للطوائف الدينية يعد عملاً يثير الفرقة والتشتت فكان من واجب الشرع إيجاد مواد تضعف الفوارق الدينية" (185). وكان المجلس التأسيسي قد تناول موضوع الطائفية، بروحية من الوعي والفهم. فالنائب حسن الشبوط أشار إلى: "أن المسلمين أمة واحدة لا يميزون في الأصول وأما الفروع فهناك فرق بين الجعفرية والسنة كالفرق في النفقة والنكاح والطلاق وفروق طفيفة أخرى" (186). وعلى الرغم من بروز المشاكل الطائفية، وتمترس بعض الأطراف في خندق الطائفية الضيقة. إلا أن تعرض البلاد للخطر الخارجي، كان يدفع الجميع نحو الاتحاد والتمسك بالوطنية. ولعل الاجتماع الذي عقد في مدينة كربلاء في 12 نيسان 1922، لإصدار بيان موحد إزاء هجوم الإخوان الوهابيين على حدود العراق الجنوبية. حيث كان القرار: "وقررنا معاونة القبائل بكل ما في وسعنا واستطاعتنا لمدافعة الخوارج الإخوان ومقاتلتهم" (187). ومن السمات البارزة لهذا الاجتماع، حشده لجموع علماء الدين من الطائفتين السنية والشيعية، حيث حضره من علماء الدين السنة كل من؛ الشيخ عبد الوهاب النائب والشيخ إبراهيم الراوي والشيخ يوسف العطاء والشيخ أحمد الداود" (188). وفي معرض التعليق على الأحداث الطائفية، التي رافقت صدور كتاب زكريا النصولي. قالت جريدة النهضة: "لأننا أصبحنا نسعى بكل قوانا وجهدنا وقدرتنا لخنق النعرات، والقضاء على النزعات الوحشية والمعاول الهدامة بكيان الأمة العراقية وكنا لا نزال نعتقد بتماثلنا نحو الشفاء من هذا الداء العياء داء الأثرة والتحيز والدعاية ضدنا. كنا نأمل أن لا نسمح بعد الغابر الغائب لفظة شيعي سني نصراني يهودي" (189).
وقف المثقفون إلى جانب الدعوة المنادية بجعل الدين عامل قوة ووحدة لأبناء البلد الواحد. وشددوا في دعوتهم على نبذ الطائفية، ورفض كل ما يخل بعرى الوحدة الوطنية. وفي هذا كانت الدعوة إلى إتاحة الفرص أمام الجميع، انطلاقاً من الاعتماد على الكفاءات والإمكانات. حتى أن جريدة "الأمل" شددت في دعوتها إلى ضرورة التنبه إلى أهمية إفساح المجال لكل القدرات من ممارسة دورها، لأجل رفعة البلاد وتقدمها (190). وقد نالت المقالة الكثير من ردود الفعل المؤيد حتى أن "نجفي معروف" كتب قائلاً:
أنابغه الدين الذي دون عرضه تدافع يسراه وتحمي يمينه
مقالك هز المشرقين وقد بكى لما هاجه ركن الصفا وحجونه (191)
وكانت الدعوة إلى الوفاق بين المسلمين مؤشراً واضحاً في دعوة الجميع، حتى مثلت شعاراً طبع توجهات المثقفين، لاسيما وأنهم كانوا يشعرون، دقة المرحلة التي تمر بها البلاد، وهي تقطع السنوات المبكرة من عمرها (192). ولم تغفل الصحافة عن أداء دورها في التذكير في التذكير بالمشاريع التي تبناها المصلحون والمفكرون الإسلاميون، في البحث عن الوسائل والإمكانات المتاحة، لخلق مناخ من الوفاق والتفاهم، فكان التذكير بمشروع جمال الدين الأفغاني لإيجاد تفاهم بين الشيعة والسنة (193). كما أن الدعوة للوحدة الوطنية ورفض الطائفية، وجدت سبيلها وبكل قوة خلال بروز الأحداث التي جاءت في أعقاب مداخلات قضية النصولي وملابستها (194). والواقع أن مسائل تتعلق بشؤون الطوائف والملل، كانت من الأمور التي وقفت السلطة التشريعية إزاءها طويلاً لما يتمثل فيها من معطيات، مرتبطة بالتشريع والحقوق المدنية (195). ومن دون عقد وبنظرة ملؤها الاحترام للعقائد والأديان يكتب الشاعر أحمد حقي الحلي في قصيدته "كل الأديان ناصحة":
كل دين قد أتانا هو للخلق نصوح
فانظروا ذا دين طه بل وموسى والمسيح
وإذا لم يك دين الله بالدين الصحيح
فبماذا يقتدي من يطلب الحق الصريح (196)
ويبقى التشكل الذهني، والبيئة التي يعيش فيها المرء، من العوامل الرئيسية في تحديد معالم الموقف إزاء الدين كقضية عامة، والتفاعل معها كأمر يمس الروح والمشاعر، ويضفي عليها أسس التفاعل مع المحيط الاجتماعي. وفي هذا تجدر الإشارة إلى أن الأقليات الدينية في العراق، لم تعان من العزلة أو الاضطهاد (197)، بل كان لها من المساهمات واضحة في الحياة العامة، وتمكنوا من إحراز النجاح (198) في المهن الحرة، بل وتمكنوا من السيطرة على قطاعات حياتية هامة في البلاد، كالنفوذ الذي مارسوه في التجارة العراقية على سبيل المثال.
من دون تردد أقدم المثقف العراقي على تناول موضوع في منتهى الدقة والحساسية، ذلكم هو الموضوع الديني، فإذا ما كان المجتمع يبرم أو يسخط بآراء يتطرق لها مجددون أو دعاة العصرية، فإن موضوع العقائد لا يمكن التغاضي والسكوت عليه، لاسيما في مجتمع ذي تربية محافظة قوامها الإسلام، الذي يمثل عماد الأمة. وفي هذا نجد ثمة اعتبارات جعلها المثقف العراقي، حاضرة في ذهنه لا يحيد عنها، فهو لا يسرف ولا يتطاول، بل كانت نزعة الاحترام حاضرة، بشكل بديهي بحكم النشأة والمحيط، الذي لا يغفر أية هفوة تمر دون رد فعل عنيف وقاسي حتى وانطلاقاً من مضامين التحديد واللحاق بروح العصر ومواكبة الزمن، توجه بعض الشعراء لمخاطبة المتزمتين من رجال الدين بلغة رقيقة ملؤها العتاب الطافح بالعقل والاتزان، إلا أن ملامح التململ بادية واضحة فيها حتى أن شاعراً كمحمد رضا الشبيبي، وهو الشيخ وابن المدينة الدينية المحافظة "النجف الأشرف" ينعى على البعض من رجال الدين ويحملهم ليس شقاء العراق فحسب بل شقاء الأمة برمتها؛ "جارت علينا عصبة روحية- شقيت بها الأرواح والأجساد" (199).
وبوعي المثقفين بأهمية الوحدة الوطنية، والعمل على جعل التنوع الديني رصيد قوة، لا مثال لخلق التناحر والخصام والاختلاف. فكاظم الدجيلي يرى في الأديان جميعها، دعوة للهداية والأخوة والتلاحم، لأن مصدرها الشرعي واحد هي جميعاً؛ "لها سنة مشروعة ونظام" (200). ويبقى موضوع الدين من المساحات التي جال في فضائها المثقفون، حيث حاولوا التعبير عن مدركاتهم العقلية، حول قضية الإيمان والشك وإبراز المؤثرات الفكرية، حول أهمية العقل في قيادة صاحبه، نحو الهداية أو الضلالة. وفي هذا يوضح "الزهاوي"، إلى أنه حين أعمل العقل لم يوصله إلى حقيقة الإيمان، بل الذي دفعه للإيمان كان الضمير الذي أشار عليه؛ "الدين معقل أهله- والدين أمنع معقل" (201).
الهوامش
- أمين الريحاني، فيصل الأول، ص214.
177- ساطع الحصري، مذكراتي في العراق، ج1 ص575.
178- عبد الرزاق الحسنين تاريخ الوزارات، ج3 ص243.
179- مذكرات المجلس التأسيسي، ج2 ص734.
180- جريدة العراق، 25 أيلول 1923.
181- لطفي جعفر فرج، عبد المحسن السعدون ودوره، 25.
182- جريدة الزمان، 12 أيلول 1927.
183- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج4 ص 91.
184- جريدة دجلة، 15 مايس 1922.
185- مذكرات المجلس التأسيسين ج2 ص837.
186- جريدة العراق، 15 نيسان 1922.
187- عبد العزيز القصاب، من ذكرياتين ص 227.
188- جريدة النهضة، 4 شباط 1927.
189- جريدة الأمل، تشرين الأول 1923.
190- جريدة الأمل، 27 تشرين الأول 1923.
191- جريدة النجف، 18 أيلول 1925.
192- جريدة المعارف، 3 كانون الأول 1926.
193- جريدة النجف، 4 شباط 1927.
194- محاضر مجلس الأعيان، الاجتماع غير الاعتيادي لسنة 1931، محضر الجلسة الأولى، 25 أيار1931، ص81.
195- جريدة الإخاء الوطني، 25 كانون الأول 1931.
196- أحمد سوسة، حياتي في نصف قرن، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1986ن ص72.
197- علي إبراهيم عبدة وخيرية قاسمية، يهود البلاد العربية، منظمة التحرير الفلسطينية- مركز الأبحاث، بيروت 1971، ص 32.
198- عبد الرزاق محي الدين، حياة الشبيبي وسيرته، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السابع عشر 1969، ص 289.
199- رفائيل بطي، الأدب العصري في العراق العربي، ج1 ص 197.
200- جميل الزهاوي، الديوان، دار العودة، بيروت 1972، المجلد الأول ص 519.
|