ولو سودت وجهك بالمداد?     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
كنت منذ حين قد طالعت ما أورده الإمام الذهبي في مقدمة كتابه تذكرة الحفاظ المنشور في الوراق -دون مقدمته- في أثناء نصيحته لطالب الحديث وعلوم الجرح والتعديل ,وذكره ما يجدر أن يتصف به من الورع والتقى, و المذاكرة والأدب,والمواظبة على الطلب , والاكتراث للعلم ,والتنبه والتيقظ, وقال كلاماً نسيتُه لبُعد عهدي به, ثم أعقب ذلك بقوله وإلا-يعني إذا لم تحفظ وصيتي- : فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد (وهذا بيت تصرف الناس في ألفاظه , تعلم ذلك إذا نقبت عن البيت في الوراق) ثم إنني تدبرت هذا البيت فأقبلتُ على نفسي أُحدثها: أي معنىً يجمعُ بين العلم والأدب والكتابة, و تلطيخِ الوجه بالمداد? ولعل هذا في زمننا معدودٌ من خَوارم المروءة, و دلالةٌ على قلة اكتراثِ الرجل بِسِبْره وهيئته ,وزيه ومظهره,,وهو عند العامة مما ينبغي على العاقل أن يُزايلَه , ويَتوقى شَينه, ويَحُكه من جلده,ويفرُكَه من ثوبه, فضلاً عن أهل العلم و الدراسة, وأرباب الفضل والكياسة . وبقي هذا البيت عندي في محل الاستغراب, وموضع الاستعجاب,بل و الارتياب.(وإن كنت قد رَكنتُ منه إلى معنى كثرةِ الكتابة وانتساخ الأسفار, مع قلة الفهم وسوء الفقه وانعدام الانتفاع) حتى كان يوم أمسِ ,وقع بِيدي كتابُ توجيه النظَر إلى أصول الأثَر , لأستاذِ الجزائر ولؤلؤة الشام, و أعجوبة العرب وفخرهم على الأعجام, طاهر بن صالح الجزائري , فعثرتُ به على ما فتحَ أغلاقَ البيت ,ونحى الغرابة, وأزال العَجب ,قال في معرض الكلام عن وقوع ما ليس من الكتاب فيه غلطاً أو سهواً واختلاف طرائق نفيه, من محو وحك وكشط وبشر وضرب وغير ذلك : ومن أغربها مع أنه أسلمها ما روي عن سحنون بن سعد أحد الأئمة من فقهاء المالكية,أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعِقَه وهذا يومئ إلى ما روي عن ابراهيم النخعي كان يقول من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد.وذكر عن أبي اسحق الشيرازي أن ثيابه كانت كأنما أُمطرت مداداً وكان لا يَأنفُ من ذلك.وذكر عن عبيد الله بن سليمان أنه رأى على ثوبه أثر صفرة فأخذ من مداد الدواة وطلا به ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران وأنشد إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال ويحكى عن بعض الفضلاء أنه كان يأكل طعاماً فوقع منه على ثوبه فكساه حبراً وقال هذا أثر العلم وذاك أثر الشره,وللأديب أبي الحسن الفنجكردي: مــداد الفقيه عـلى ثوبه أحب إلينا من الغاليه ومن طلب الفقه ثم الحديث فإن له همة عاليــة انتهى." قلت: فأنت ترى إلى أحوال المروءة ومعاني الكمال فيها, كونها متباينة بين عصر وعصر, متحولة عن معنى إلى معنى مقابل له,متنقلة بين متضادات الأفعال و الحركات, والصور والهيئات. والله الموفق للصواب. |