لقد كان الاختيار صعبا لتحديد أي الرحلات يمكن أن تكون فاتحة هذا الموضوع. وطالما أن كل أدبيات الرحلات الموجودة تتساوى من حيث أنها نتاج تعب السفر والبحث والمطالعة والسؤال والتقصّي...فإن جانب الموضوعية في نقل الأخبار ووصف الأوضاع والظواهر هو الفاصل هنا. ومن بين أهم الرحلات التي تميزت بموضوعية صاحبها ولو نسبيا هي رحلة المقدّسي التي تجلت في كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم" التي قام بها صاحبها من الشرق إلى الغرب الإسلامي مع اتفاق أغلب الباحثين والمؤرخين على أنه لم يدخل الأندلس. ويبقى أمر وصوله إلى المغرب الأقصى مشكوك فيه أيضا. على أن دخوله افريقية لا يمكن رفضه بل هناك ما يكسبه دعما من خلال نصوص الكتاب المذكور.
وعموما فإني رأيت أن أقدم تعريفا موجزا بالمقدسي، مقدّما أهم اللإشارات التي تؤرّخ لرحلته وتدوينها.
هو شمس الدين أبو عبيد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر البنّاء المقدّسي. جغرافي ورحالة، عاش في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي. ولد بمدينة بيت المقدس ومنه جاءت نسبته المقدّسي. ويرجع أصله إلى أسرة عربية. وقد هاجر المقدسي إلى دمشق ، وبها نشأ وتلقى فيها علومه الأولى. وما إن تعدّ العشرين بقليل حتى انتقل إلى العراق طلبا للفقه. وفيها اشتهر قارئا عارفا بالقراءات. ثم قرر المقدّسي ركوب تجربة الرحلة لتأسيس الكتاب الذي أراده والذي تضمن الكثير من الإضافات الكثيرة التي اختلف بها عن غيره ممن سبقوه. وفي نهاية رحلته، وبعد عناء طويل، استطاع المقدسي أن يضع كتابا بالهدف الذي أراده. فكان كتابه أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم الذي أنهاه عام 375هـ / 985 م. وقد بلغ الأربعين من عمره. وقد أودع في كتابه الخرائط المزينة، والحجج الموثقة، والحكايات المحققة، ما جعله يحتل مكانا مرموقا بين مشاهير الجغرافيين المسلمين. أنظر موقع رواد الاسلام
http://rowad.alislam.com/rowad/?action=Display&view=2&doc=1&root=1&id=125&lang=ar&from=tree
بالرجوع إلى مقدمة الكتاب نقع على أهم فقرة دالة ومؤرِّخة لتأليف الكتاب. إذ يقول في إطار حديثه عن تأليف الكتاب والغاية منه وما ضمّنه إياه على خلاف ما عمد إليه من سبقه ومن عاصره "واعلم إني مع هذه الوثائق والشروط لم أظهره (المقصود الكتاب) حتى بلغتُ الأربعين، ووطئتُ جميع الأقاليم وخدمت أهل العلم والدين. واتفق وفاء ذلك بمصر فارس في دولة أمير المؤمنين أبي بكر عبد الكريم الطائع لله، وعلى المغرب أبو منصور نزار العزيز بالله أمير المؤمنين سنة 375" (المقدسي، أحسن التقاسيم، المكتبة الافتراضية الوراق، http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=0&page=1). فإن كان الرحالة أظهر كتابه سنة 375/985-986 لما بلغ الأربعين هذا يعني أنه ولد سنة 335-336 وبالتالي يمكنه أن يقدم على السفر والترحال بعد تجاوزه العشرين. فيمكن إذا أن يكون قدم إلى افريقية زمن المعز لدين الله المتوفي سنة 365-366/976-977. فقد بدأ الترحال بعد تجاوز العشرين من عمره أي منذ 356/967 على الأقل فيقول المقدسي "ومكثت أنا عشرين سنةً ببيت المقدس أنام في البيت" (أحسن التقاسيم، المكتبة الافتراضية الوراق، http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=0&page=118 ). وهي السنة التي بدأ فيها فعلا تجربته. فقد ذكر أنه حج سنة 356 ثم عاد إلى مكة ثانية سنة 367/978. فيذكر قائلا: "وحججت سنة -56 (3)- فرأيت ماء زمزم كريهاً، ثم عدت سنة 67 (3) فوجدته طيباً" (المقدسي، أحسن التقاسيم، المكتبة الافتراضية الوراق، http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=0&page=).
والواضح من خلال كامل رحلة المقدسي أن آخر تاريخ يذكره قبل سنة 375 هو 367 التي حج فيها والتي ضرب فيها زلزال مدينة سيراف في اقليم فارس (المقدسي، أحسن التقاسيم، المكتبة الافتراضية الوراق، http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=0&page=157). فنجد أنفسنا بإزاء رحلة طويلة مدتها 10 سنوات على الأقل بين 356-367 وقد انحسرت في مدة خلافة المعز لدين الله الفاطمي، وعليه فإن ما عاينه كان في هذه المدة. أما كتابة الرحلة فقد تم في زمن العزيز بالله قبل نهاية سنة 375.
وبما أن المقدسي حج مرة ثانية سنة 367 فإنه أنهى بها رحلته. وعلى ضوء ذلك يكون من المؤكد قد زار افريقية في عهد المعز لدين الله وليس في عهد العزيز.