درس محمد أركون ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
قرأت اليوم موضوع الأستاذة الكريمة صبيحة بعنوان : لماذا يبتعد مثقفونا عن العربية ? والذي تحدثت خلاله عن تدني المستوى العلمي وعدم الرغبة في التحصيل وأن أغلب الطلاب يسعون للحصول على الشهادة فقط وليس إلى تحصيل العلوم إلى جانب مواضيع أخرى ساقتها في عرضها الوافي للمشكلة من كل جوانبها . أتمنى أن تتاح لي الفرصة لاحقاً للمشاركة في موضوعها الهام ، لكن الكلمات التي ذكرتها منها كانت قد استوقفتني بشكل خاص ، وأثارت في ذاكرتي هذه الحكاية :
حدث هذا في العام 1986 عندما حصلت على دبلوم الدراسات المعمقة من السوربون الأولى ، وصرت أبحث عن أستاذ مشرف للتسجيل للدكتوراه ، لأن أستاذي السابق كان قد أحيل إلى التقاعد .
كان أسم الأستاذ محمد أركون من ضمن الأسماء التي وضعتها على لائحتي وسعيت لمقابلتها للحصول على القبول بموضوعي والإشراف عليه . كل الطلاب الذين أعرفهم ولهم خبرة في الموضوع كانوا قد حذروني من عدم جدوى تلك المقابلة . وبما أنه ليس من عادتي الإصغاء لنصائح الآخرين ، فلقد تقدمت إلى تلك المقابلة بقلب من حديد .
أنتظرت دوري ، مع الكثيرين غيري ، أمام باب المكتب في السوربون الرابعة ، حيث كان يدرس أركون ، حتى حل مساء ذلك النهار ، وتعب الجميع ، ورأيت بيومها الطلبة يخرجون تباعاً من عنده مطأطئي الرؤوس لينصرفوا على استعجال ، ودون إخبارنا عن نتائج الموضوع الذي أتوا من أجله .
كنت في آخر الدور ( وهذا يحصل معي كثيراُ أن أكون في الآخر ، بل غالباُ ما أكون في الآخر ، دون أن أدري لهذا تفسيراً معيناً ، لكنه ليس موضوعنا اليوم ) . المهم ، أن السكرتير الذي اتخذ من ركن تحت الدرج مكتباً له ، هو عبارة عن طاولة صغيرة لا يمكن لك أن ترى منها شيئاً ، لما يتراكم فوقها وتحتها ومن حولها من أكوام هائلة من الكتب والملفات ، يحشر نفسه بينها ، تتخيله كأنه ولد هناك ثم كبر جسمه وامتلأ ، لأنك لن تجد تفسيراً آخر غير هذا لكيفية تمكنه من الدخول فيما بينها ، ولا لدرجة الشبه الكبيرة التي تجمعه بها . المهم أنه ، المسكين ، كان قد ضاق نفسه يومها ، وتأخر به الوقت ، فودع آخر من خرجوا من المهزومين ، ثم نظر إلى آخر الجمع المتبقي ، فلم ير في الميدان ( الميدان هنا هو الرواق الذي كنا نتواجد فيه ) ، غيري وغير طالب آخر ، فخطرت له فكرة بمنتهى الإنتهازية ، وهي أن يدخلنا سوياً ليتمكن هو من الإنصراف في الحال .
تقدم ذلك الشاب قبلي ليسبقني ، وبقيت أنا خلفه على بعد خطوات قليلة أنتظر بقرب الباب .... اقترب هو من أركون الذي كانت تبدو عليه سيماء الضيق والضجر ، والذي كان يتشاغل بأوراق على مكتبه ، المثقل هو الآخر بكتب وملفات لا يعلم حجمها ووزنها إلا الله وحده ، ومصباح نور خافت يضيء به ما أمامه فقط من أوراق ، ويترك كل ما عداه لمصيره المظلم .
انحنى ذلك الشاب ( لأنه كان طويل القامة ) فوق المكتب ، ليسر لأركون ببضعة كلمات ، أظنه قالها باللهجة البربرية لقبائل الجزائر ، لأنني لم أفهم منها شيئاً ( مع أنني كنت مصغية بانتباه ) ، قالها وهو يقدم له بحثه الذي نال عليه شهادة الدراسات المعمقة من السوربون الأولى ، هو أيضاً .....
تناول أركون منه الكتاب ، وتصفحه على عجالة ، ثم نظر إليه نظرة قاتلة ، فهمت للتو بأنه لن يشفى منها قبل وقت طويل ، و قال له :
ـ من أعطاك هذه الشهادة ? .... السوربون الأولى ? لم اكن أعلم بأنهم يوزعون الهدايا المجانية هناك ! هذه هدية وليست شهادة ، هذا عمل لا يستحق أية شهادات ، خذه وافعل به ما شئت لكنه بنظري لا يستحق أية شهادة ، هذا ضحك على الذقون .....( هذه الترجمة للمقطع الأخير من الجملة تصرفت بها من عندي للضرورة الجمالية ، ولأنكم تعلمون بأنه لا يوجد للفرنسيين ذقون يضحكون عليها ) .
كان يتكلم بغضب وانفعال ويزأر بوجهه كالأسد الجامح ، ولا أدري كيف ، ولا بأية أعجوبة ، استطاع هذا الشاب المسكين بأن يظل واقفاً على رجليه أمامه ، حتى استعاد أوراقه ، ولا كيف جمع أطرافه الطويلة ولفها من حوله ، قبل أن يتوجه بها إلى الباب لينصرف ، متعثراُ بخطواته ، ومن دون وداع .
بقيت وحدي واقفة أمامه ، في ذلك المساء الحزين الماطر ، أضرب أخماساً بأسداس ، وأندب حظي العاثر الذي أتى بي إلى هنا . وصار الندم يأكلني لأنني لم أستمع إلى نصح الناصحين وأصريت على الحضور لمقابلته : أنا أيضاًُ عندي الشهادة عينها من السوربون الأولى ، وجئت لنفس الطلب ، ولا أظن بأن بحثي سيعجبه ، فكيف أخرج من هذه الورطة ? من سينقذني من لسانه اللاذع ? سيقول لي حتماً ما قاله له ، سيؤذيني بكلامه وربما أبكي من الخجل ، فكيف أفعل ? ......... ولما صارت فكرة الهروب المفاجئ تراودني ، صرت أنظر إلى الخلف ، أعد الخطوات التي تفصل بيني وبين الباب .
لكن نفسي أبت علي الهروب ... هي تنصب لي الفخاخ دائماً وأنا أتبعها لا مبالية ... لكن لا ، لقد حزمت أمري ، وتذرعت بالشجاعة وعدم الاكتراث ، ثم تقدمت نحو المكتب بخطى واثقة وأنا أبتسم ، ( لكن هذه الخطى الواثقة والابتسامات الملونة المستجدية للعطف ذهبت كلها أدراج الرياح لأن أركون لم يكن قد تنازل بالنظر إلي حتى حينها ، بل كان قد عاد إلى أوراقه التي شغلناه عنها يحدق فيها مقطباً ما بين حاجبيه ) .......
ـ مساء الخير أستاذ أركون .... قلت وأنا أدعي المرح
ـ نعم ? إني أسمعك ! قال متضجراً ودون أن يرفع رأسه عن أوراقه .
ـ أنا أيضاً معي هدية ، أعطوني أياها من السوربون الأولى فماذا أفعل بها ، أرميها ??? قلت دائماً بلهجة المزاح .
عندها فقط رفع رأسه عن أوراقه ونظر إلي ، فرسمت على وجهي ابتسامة بلهاء كانت كل ما تبقى في جعبتي من محاولات يائسة قبل الإستعداد للرحيل . ورأيته ينفجر بالضحك ، يترك قلمه أوراقه ليستلقي بمقعده إلى الخلف ويضحك .... كان يضحك كالطفل الصغير حتى تساقطت دموعه الغزيرة تحت نظارتيه ، فعاد بكرسيه إلى المكتب من جديد ، ونزعها عن عينيه ليمسحها طويلاً ثم ليمسح عينيه مرات ومرات ، وهو يقهقه لا يزال ، وظل يفعل حتى تمالك نفسه من جديد ، فأعادها إلى عينيه ، ونظر إلي نظرة مختلفة هذه المرة وقال :
ـ إسمعي ، أنتم بمثابة أولادي ، وأنا لا أحب أن أغشكم كما يفعل الآخرون . هذه الشهادات التي يوزعونها مجاناً عليكم ليست في مصلحتكم . انظري ! هل يتعاملون بنفس الطريقة مع طلابهم ? قطعاً لا ! يتعاملون معنا على أننا عالم ثالث ويمنحوننا شهادات لا قيمة علمية لها سوى أنها ستكون أداة للتوظيف لأن من سيحملها سيعلم في جامعاتنا وليس في جامعاتهم ، بل وربما سيصبح وزيراً ومديراً عاماً بل وربما رئيساً للجمهورية وهو لا يعرف شيئاً . لماذا سيضيرهم هذا ? قولي لي ها ! لا شيء ، لا شيء . هذا سينفعهم ويضرنا نحن ، ونحن سعداء بالحصول على الشهادة بل إن هناك من يظن نفسه قد أصبح فعلاً عالماً ومفكراً لمجرد حصوله على اللقب ...... أنا أريدكم أن تتعلموا فعلاً ، أن تجتهدوا وأن تبحثوا وأن تعملوا عقولكم ، أن تستفيدوا من الفرصة المتاحة لكم هنا لتثقفوا أنفسكم ولتصبحوا بمستوى لائق فعلاً وليس فقط للحصول على الشهادات .
كان هذا أول درس تعلمته من محمد أركون ، لأنني ورغم أنه لم يقبل الإشراف على أطروحتي ، إلا أنني ثابرت على متابعة محاضراته في السوربون الرابعة لمدة سنتين متتاليتين ، وكانت محاضراته كنزاً ثميناً جعلني أكتشف طريقة أخرى في التفكير والبحث النظري فتحت عيوني على جملة من الحقائق ما كنت لأتمكن يوماً من ملاحظتها والإنتباه إليها لولاه .
شهادتي له اليوم بالنزاهة والرغبة الصادقة في تعليمنا مما اكتسبه من المعارف التي توصل إليها بجهده الدؤوب ، وواجبنا نحوه هو كل الإحترام سواء إتفقنا معه أم لم نتفق .
|