عودة مينيرفا، طائر الفلسفة، كن أول من يقيّم
رأي الوراق :     
الأستاذة ضياء صباح أو مساء الخـير .
أشكرك على كلماتك الطيبة والمشجعة ،ويسعدني من خلال هذه المشاركة (موضوع تركيبي )أن أحاول الإجابة عن بعض الاستفسارات والتساؤلات التي أثرتها في مداخلتك القيمة السابقة.
1) الفلسفة ..لماذا هي مغربية ? يصفونها هكذا لأنها تستمد حياتها ورسوخها من الواقع ومن تفكيرها في المجتمع المغربي ،ومن اهتمامها بالشأن العام..لأن الفلسفة إذا أهملت المجتمع وانزوت عنه في نقاشات لا صلة لها بالتاريخ الحي أهملهاالمجتمع وأشاح عنها..
إن الفلسفة بهذا المعنى ليست ترفا فكريا وفضلة عقلية ..بل هي عقل وتعقل ، تفكير وتفكر يعبر عن حاجة مجتمع في طور التحول ،مجتمع" ممزق" بين ماضيه وحاضره..
* فلم تعد الحداثة -مثلا- مثالا خارجيا تهفو النخبة المغربية إلى إخراج البلاد بواسطته من تأخرها لتتمكن من مواجهة العدو الخارجي، بل أصبحت إلى حد ما دينامية داخلية تعتمل داخل المجتمع. وهكذا أصبح المجتمع المغربي مشدودا بين ديناميتين موضوعيتين قوتين: دينامية التقليد بمؤسساته الاجتماعية وقيمه الثقافية والذهنية الراسخة، ودينامية التحديث بمنشآته التقنية ومؤسساته الاقتصادية والإدارية، ونماذجه الثقافية والفكرية الجديدة. لقد أصبح المجتمع المغربي مشدودا بتوتر بين دينامية التثاقل، والوفاء للذاكرة، وقوة الماضي، ودينامية التجديد والتغيير في أفق تحديثي، وهي السيرورة التي تضاعفت بعد إعلان الاستقلال بوتيرة أكبر وبتغير واضح في طبيعة الفاعلين.
إن المشتغل بالفلسفة مطالب بالوقوف بدوره عند بعض مظاهر أو مستويات التحول من خلال نظرة شمولية: أولا - على المستوى الأكسيولوجي: دخول قيم جديدة كالمردودية والنجاعة، والكفاءة، وتضاؤل أهمية الأصول والمنحدرات، وتوسع حقل الاختيارات أمام الأفراد، وانتشار فكرة المساواة وقيم التحرر: تحرر الأفراد والفئات الاجتماعية (المرأة ،الطفل)، وذلك مقابل القيم القديمة القائمة على تراتبية قوامها أهمية رأس المال الرمزي والشرف في تحديد المكانة الاجتماعية، وأولوية علاقات القرابة، وأخلاقيات الضمير، وقيم الطاعة، والولاء، والاتكال على الأقدار، وذلك في سياق اختلاط واضح في سلم القيم، وتداخلها وتعارضها أحيانا. وهو ما ينتج عنه حالة أقرب إلى تلك الحالة التي أسماها دوركهايم: شللا أو اختلاط القيم Anomie أو ما أسماه فيبر بتعدد أو بصراع الآلهة polytheisme، كناية عن الصراع بين الرؤى والقيم المختلفة. ثانيا - على المستوى الإدراكي أو الابستمولوجي الواسع يحصل تداخل يشل محددات الإدراك التقليدي ومحددات الإدراك الحديث للظواهر معا، ويحدث تداخل بين الماهيات القبلية والسيرورات التاريخية، بين الأصل وشروط التكون، بين القدرية والحتمية. هذا المستوى الإدراكي هو أعمق مستويات التحول أولا لحدته وثانيا لبطئه، وثالثا لصعوبة تتبع وتلمس معالمه. وهو تحول يولد اختلالا عميقا في الرؤية ويخلق ما يسميه الفيلسوف الايراني المعاصر داريوش شيغان (في كتابه: >النظرة المبتورة< أو المشوهة Le regard mutilé) بالسكيزوفرينيا الثقافية أو الفصام الثقافي، حيث تتعايش منظومتان إدراكيتان تعايشا صراعيا يسم نفسية الفرد وجهازه الإدراكي بتوتر عميق سمته تشقق أو انكسار مرايا الرؤية التقليدية، وتضبب مرايا الرؤية العصرية. فيعيش المرء، في إطار مجتمع متحول تداهمه الحداثة بعنف، ممزقا بين نظامين معرفيين ورؤيتين مختلفتين، مع ما ينتج عن ذلك من قلق لاواعي، وتوتر نفسي وذهني لاشعوري، وتمزق بين منطومتين فكريتين أخلاقيتين متباينتين. المستوى الثالث الذي يتعين على الفيلسوف الوقوف عنده قليلا هو المستوى الاجتماعي المتمثل في التفكك النسبي للروابط الاجتماعية التضامنية القديمة في نمط العلاقات الدموية أو نظام القرابة، وفي نمط العلاقات الاقتصادية الذي تغزوه الملكية الفردية، والتملك القانوني والجهد الفردي، وتضاؤل المظاهر الاجتماعية للتعاون والتعاضد، وتآكل القيم التقليدية؛ وكذا التفكك في نمط العلاقات الاجتماعية الأساسية على مستوى القبيلة والعشيرة والطائفة........(محمد سبيلا )
..***************..
2) معنى إحداث الهوة (انظر الفلسفة كتكريس للانفصال .. من يقتل الغذامي تقربا لله )
... لنكتف هنا بالتساؤل هل تتم القطيعة بشكل كلي، أم أنها حركة لا متناهية تتم في مستوى كل قضية ، بل كل مفهوم? و هنا لا بأس أن ننبه إلى مسألة أساسية و هي أن الطرح التجزيئي لا يعني إحياء لقضايا التراث....إن الأمر لا يتعلق بالحوار مع القدماء، و إنما مع المحدثين بيننا الذين يجرون و يجترون التقليد. فما دام بيننا من يوظف التراث دون أن ينفصل عنه، فنحن مضطرون إلى انتقاد موقفه و فضح أولياته. ذلك أن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان عصره. و العصر، على حد تعبير هايدغر، هو علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل. فبدلا من أن يكون الماضي موجها للمستقبل، يغدو المستقبل ذاته منيرا للماضي على حد تعبير نيتشه. و لا بأس أن نسوق هنا ما قالته حنة آرندت عن هايدغر من أنه لم يتمكن من أن يكتشف الماضي من جديد إلا لكونه قد تمكن من قطع الحبل الذي يشده إلى التقليد. قطع الحبل كما نعلم، مثل قطع حبل السرة لا يعني انفصالا مطلقا و إنما العملية التي يتم عن طريقها ربط الوليد بأمه من جديد، انه العملية التي يرتبط بها الوليد بأمه عن طريق الانفصال، انه العملية التي بها يصبح الفكر فكرا حيا و يتمكن من استنطاق الكنوز الثقافية للماضي. . ذلك أن الماضي لا يغدو تراثا إلا عندما يورث، و هو لا يورث إلا عندما يُتملك، و لا يُتملك إلا عندما يغدو ذاتا، و لا يغدو ذاتا إلا عندما يصبح آخر. ..
3) *أخيرا وأنت تشتغلين على الذاكرة..ونقل أكبر عدد من المفاهيم من الذاكرة المنسية..إلى الذاكرة الحية الواعية بذاتها (وربما بزمانها وعصرها..)
-أود أن أعرف رأيك فيما كتبه أحد الباحثين المغاربة عن جلسات عمرو خالد..
(لأنه بدوره يشتغل على الذاكرة لكن وفق منظور خاص )من خلال هذا المقتطف:
.. إن التخلص من مقتضيات التاريخ وعبئه يمر عبر " تضخيم" الواقعة من داخلها، أي النفخ فيها من حيوية الفعل الإنساني المشخص. وهو ما يعني فصل الفعل عن بعده الزمني، لكي يصبح عابرا لكل الأزمان، وهي صيغة أخرى للتخلص ببساطة من الزمن ذاته. إن الهوية، كما سبق أن رأينا ذلك، هي، كما كانت دائما، استحضار لماضي، لا إسقاط لآت. إنها ليست سوى ذاكرة بمضمون زمني/قيمي ممتد نحو الماضي، إنها وعاء زمني يشتمل على وضعيات وأحداث ومواقف ورموز وكل ما يمكن أن يشتمل عليه متخيل أمة ما. لذلك، فإن استعادة الماضي " المجيد" لا يتم من خلال إحياء المفاهيم، بل يمر بالضرورة عبر تعميم للحكايات. ففي أغلب الحالات يتم بناء الهوية على مستوى المتخيل لا على مستوى الواقع، فالمتخيل وحده قادر على التحايل على الزمن الفيزيقي وتحويله إلى كميات يُشكلها السارد وفق هواه. ..
.. |