حكاية الخروف والذئب ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
أِشكر الأستاذ زهير على مساهمته الأولى في هذا الملف ، وقد قدم بهذا نموذجاً لما يمكن كتابته من صفحات التاريخ . هي صفحة ربما تتكرر مثيلات لها كثيرات على مسامعنا هنا لأنها ـ للأسف ـ تعكس حالة شبه معممة على أرجاء وطننا العربي من محيطه إلى الخليج . وبغض النظر عن أسباب الإغتيال أو الإعتقال ، وبغض النظر عن هوية الجلاد أو الضحية ، لأن الضحية نفسها يمكن أن تتحول إلى جلاد أحياناً ، بل غالباً ، والعكس صحيح . الصراع على السلطة هو مجرد تبادل للأدوار ودون أن يغير ذلك من طبيعة العلاقة القائمة كثيراً أو قليلاً . هي علاقة التسلط والإستبداد القائمة على بنية إجتماعية قوامها الجهل ، وبنية إقتصادية سمتها الأساسية الظلم وعدم التكافؤ ، هي علاقة القوي بالضعيف ودون إية روادع دينية أو أخلاقية رغم كل الشعارات البراقة .
ما أريد تقديمه اليوم ، هو نموذج آخر لما يمكننا كتابته في هذا الملف ، لأن الظلم الأول الذي يقع ـ برأيي ـ يأتي من النفس . ويمكن لهذه النماذج بأن تتعدد بتعدد الكتابات ودون أن نخرج عن المضمون المحدد لها . أرجو أن ينال إعجابكم وان يساهم بشيء من الإضاءة في تحليلنا للتاريخ من وجهة نظر مغايرة .
حكاية الخروف والذئب
كان ذلك في شتاء العام 1968 على الأرجح ، وكنت قد استيقظت مبكرة في صبيحة ذلك النهار البارد رغم أننا كنا في عطلة مدرسية ، فذلك اليوم كان يفترض له أن يكون اليوم الأخير من رمضان . كانت الإستعدادات جارية في المطبخ على قدم وساق لتحضير معمول العيد والأقراص بالحليب التي لم تكن تصنع إلا لهذه هذه المناسبة ، فكنت أسمع أصوات دق الهاون مختلطة ببكاء أخي الصغير الذي التهت عنه أمي بسبب إنشغالها بالعيد .........
تسللت من سريري متضجرة من تلك القرقعة ، ومن عبق ذلك الجو الذي كان مشحوناً بالروائح النفاذة ، رائحة السميد والسمن والبهارات القوية ...... تجاوزت باب المطبخ الذي لم يستهويني الدخول إليه وانا أعلم سلفاً بأن أمي مشغولة ، ولن تلتفت إلي إطلاقاً . مشيت في الممر حتى غرفة أخي الكبير التي تقع في آخره ، وكان بوقتها في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره . وجدت الباب مردوداً فوقفت فيه :
كان هو وأختي الكبيرة ( التي تصغره بسنتين ) في جدال كبير: يحاول أن يقنعها بصحة ما يقرأه في مجلة سوبرمان وبأنها ( إي فكرة سوبرمان ) تعتمد على نظرية علمية ثابتة تقول بأنه إذا انطلقنا بسرعة تتجاوز سرعة الضوء فسيكون بإمكاننا الإنتقال عبر الزمن .......... عبثاً كان يشرح لها ويفند في آرائه مستخدماً كل وسائل الإقناع التي كان يعرفها ، لأنها وفي الوقت الذي كان يعلو فيه صوته ، وتتحرك يداه بالإشارات الدالة على اتجاه الصاروخ ، كانت هي تهز برأسها وتبتسم له بتهكم مؤكدة بأن كل هذا : " تجليط بتجليط "
أتعبني حديثهم الذي لم أفهم منه بوقتها شيئاً فتركتهم وقلت في نفسي أذهب لأرتاح قليلاً في فراش أبي وأمي ، هذا ما كنا نفعله غالباً أيام الأعطال ، وكلما وجدنا المكان شاغراً إندسسنا فيه وهو لا يزال يعبق بدفئهما . وجدت أختي ندى التي تصغرني بسنتين قد سبقتني إلى هناك . تسللت بقربها تحت اللحاف وصرنا نتحادث حول أخبار العيد :
ـ هذا المساء سوف يثبتونه ، أكدت لي بكل تفاؤل ، هذا المساء سوف يضربون مدافع العيد .
ندى كانت وديعة وهادئة الطباع ومسالمة في لعبها وحركاتها ، وكانت موفورة الصحة والجمال ، وكان أبي يحبها كثيراً لشكلها الوديع ويشبهها بالمسيح (عليه السلام ) . وأذكر أنه وجد ذات مرة فى أحد استوديوهات التصوير لدى مصور أرمني ، صورة للطفل يسوع المسيح مستلقياً على جلد خروف ، فأعجب بها واشتراها منه ثم علقها فوق باب البيت . ولما كان هناك من الناس من كان يستغرب وجود هذه الصورة في بيتنا ، ويسأل عن سبب وجودها ، فإن أبي كان يجيب :
ـ اشتريتها لأنه يشبه " بنتي ندى" !
هكذا ببساطة ودون تعقيد . بينما كانت جدتي تحاول بأن تعطي لمن يسألها عن الموضوع طابعاً إيديولوجياً عن ضرورة التعايش الإسلامي _ المسيحي .
كنا نحن الأولاد ، في ذلك الزمان ، لا نزال نعيش في عالم خيالي يغلفه الحلم بمعطفه الوديع فيعزلنا عن فجاجة الواقع المحيط ، ويترك لنا الحرية لنتخيل ونحلم ونكبر رويداً وريداً بعيداً عن الأزمات وصدمات الواقع المخيب . وفي كل مرة كان الواقع يأتي فيها ليقتحم عالمنا ويغير عليه ، كنا نتألم ونشعر بالإحباط ، لكن هذا الألم كان ضرورياً ، وكان مؤسساً ، لأنه كان يجبرنا على التخلي عن أوهامنا ويجبرنا على أن نكبر رويداً رويداً مع الحقيقة المؤلمة ، ومع كل صدمة ، كنا نروض القلب ، ونوسع جنباته لتعوديه على تلقي واحتضان أوجاع أخرى سوف تتوالى عليه إضطراداً . وكثيراً ما كنا نساهم نحن بعيوبنا وأخطائنا وبنزعة الحسد والغيرة التي هي من طبيعة البشر فينا في الإستعجال بمهمة الزمان ، وربما جعل هذا العالم المحيط أسوأ حالاً مما هو عليه .
وأعود لأختي الوادعة التي كانت تحلم لا تزال في دفء الفراش الوثير :
ـ ندى ، ماذا تتمنين لو يشتري لك أبوك على العيد هذه السنة ? سألتها .
كنت أتوقع بأن تقول لي لعبة مثلاً ، وهو ما يشتريه لنا عادة ، فأفقد أنا لعبتي ، أو أنتزع لها رأسها أو رجلها بعد فترة قليلة من الزمن ، بينما تبقى لعبتها هي جديدة لمدة طويلة ، قبل أن نعود لنسطو عليها . لكنها بوقتها فاجأتني بالقول :
ـ أتمنى لو يشتري خروفاً صغيراً حديث الولادة ... سأربيه وأدللُه ويكون لي وحدي لألعب معه وليس كمثل الخراف التي يذبحونها على العيد الكبير ... سآخذه لنتفسح في الجبل ونلعب على الحشائش وأعمل له رضاعة من الحليب ........ كانت تحلم ...
ـ وأنت ، ماذا تحبين لو يشتري لك أبوك ? سألتني .
ووجدت نفسي أقول ، وأنا أتخيلها تتفسح مع خروفها بين الحشائش والغيرة تملأ قلبي :
ـ أنا ، أريده أن يشتري لي ذئباً ! أجبت .
ـ لماذا ? قالتها شبه مصعوقة .
ـ ليأكل لك خروفك ! قلت ذلك بتصميم ، ودون أدنى شفقة .
وعندما علا بكاؤها ، وجاءت أمي لتستطلع ما الخبر ، وجدتني أشعر بإرتياح كبير بعدما أكل الذئب الخروف وأراحني منه .
|