تمتاز الكِتابة العَرَبيّة بأقصى دَرَجة من الدِقّة في ضَبط الألفاظ مما لا يمكِن أن نجِد له مَثيلا في مُعظَم لُغات العالَم المَكتوبة . ويرجِع السَبَب في ذلك إلى تَوَفُّر رَمز كِتابيّ لكلّ صَوت من أصوات الكَلام سَواء منها الصَوامِت والحَرَكات . ومع أنّ العَرَب لم يكونوا يعبأون في بِداية عَصر التَدوين بإثبات رُموز للحَرَكات القَصيرة، لاعتِمادهم على السَليقة اللغَويّة التي تهديهم إلى الوَجه الصَحيح من وُجوه ضَبط الكَلام، إلا أنّهم اضطُرّوا إلى إضافة هذه الحَرَكات بعدما فَسَدت سَلائقهم نَتيجة لاتِساع نِطاق الدَولة الإسلاميّة واشتِمالها على أُمَم لم يكن لِسانها في الأصل العَرَبيّة ، وكان أن وُضِعت رُموز لهذه الحَرَكات ابتَدأت بنَقط أبي الأسود الدؤَليّ للمُصحَف، نَقط إعراب، ثم اكتَمَلت بعلامات التَشكيل الثَمانية التي ابتَكرها الخَليل بن أحمد .
ونحن في لُغَتنا اليَوميّة، وفيما يُسَمّى بلُغة الصَحافة، لا نحتاج إلى عَلامات التَشكيل إلا في القَليل النادر. وعلى نَحو من ذلك كان العَرَب في الجاهِليّة وأوّل الإسلام في غِنى أيضا عن هذه العَلامات وعن عَدَد آخَر من الأحرُف التي ترمِز لأصوات العِلّة الطَويلة؛ بل وحتّى عن نُقَط الإعجام التي تتَمَيّر بها بَعض الحُروف من بَعض، كالباء عن الياء عن التاء عن الثاء ونَحو ذلك من الحُروف المُتَشابهة؛ مما كان يجعل الكتابة في ذلك الزَمان أقرَب شَيء إلى الإختِزال .
ولكنّنا اليَوم لسنا كالأوائل سَليقة ، كما وأن الأُلفة بأنواع أخرى من الكِتابة ليست كالأُلفة بالكِتابة الصَحَفيّة ، ولذلك فنحن في حاجة إلى قَدر من عَلامات التَشكيل التي تزيل غُموض المَعنى في مِثل هذه الأنواع من الكِتابة العِلميّة والأدَبيّة، وفي الوَقت نَفسه لا تثقل النَصّ المَكتوب والمُزَركَش بعَدَد من هذه العَلامات .
ولتَحقيق هذا الهَدَف اقتَرَح بَعضهم فِكرة التَشكيل الجُزئيّ للكَلِمة بحيث يأمَن القارئ اللَبس في نُطقها ومن ثمّ في فَهم مَعناها، ولكنّ هذا التَشكيل الجُزئيّ لم يكن مَبنيّا على قَواعِد عامّة مَعروفة، وبَدَلا من ذلك فقد ظَلّ مَتروكا للكاتِب وَحده لكي يقَرّر بنَفسه نَوعيّة وقُدُرات الجُمهور الذي يقرأ له على فَهم مَضمون كَلامه .
وقد بَدا لي أنّ في الإمكان تَحقيق الغاية القُصوى من أمن اللَبس في نُطق الكَلِمة وفَهم مَعناها من خِلال تَشكيل جُزئيّ يعمَل عَمَل التَشكيل الكامِل وخاصّة إذا ما تَمّ الاعتِماد على فَهم خَصائِص الأصوات اللُغَويّة ومَعرِفة عَلاقتها مع بَعضها البَعض ، ومن ثمّ استِثمار هذه المَعرِفة وذلك الفَهم في تَحقيق مَبدأ الاقتِصاد في استِخدام عَلامات التَشكيل والاقتِصار منها على ما من شأنه أن يعطي وُجوها مُتَباينة من القِراءة لو تُرِك الحَرف خَلوا منه .
وعَلامات التَشكيل التي سنعمَل على تَقليل استِخدامها إلى حَدّه الأدني هي الفَتحة والكَسرة والضَمّة والسُكون والشَدّة والمَدّة وعَلامة الصِلة والهَمزة . وهنا يجِب التَنبيه إلى أنّ الشَدّة والهَمزة لا يمكن الاستِغناء عنهما في النِظام الكِتابيّ؛ لأنّهما تدُلان على حُروف بأعيانها، وليستا عَلامات تَلحَق بحُروف دون حُروف . فالفِعل الثُلاثيّ ( كَسَر) يصبِح رُباعيّا إذا وُضِعت الشَدّة على السين هكذا : ( كَسّر ) بينما يبقى ثُلاثيا سَواء كانت الكاف مُشَكَّلة بالفَتح أو بالسُكون . غَير أنّنا يجِب أن نتَنَبَّه إلى أنّ تلك الشَدّة التي يثبِتونها على الحَرف التالي للام التَعريف حين يكون من الحُروف الشَمسيّة يُعتَبَر من قَبيل الخَطأ لأنّ فيه زِيادة حَرف غير لازِم ، ويُغني عنها أن نلتَفِت إلى مُراعاة ظاهِرة الإدغام . وأما بالنِسبة للهَمزة، وهي رأس العَين التي تدُلّ على الحَرف الذي لم يكن له في بَعض المَواضِع من الكَلِمة رَمز مُعَيّن يخُصّه وَحده، فإنّ بَقاءها ضَروري للتَفرِقة بَينها وبَين ألِف المَدّ أو ألِف الوَصل .
ويمكن أن نضيف إلى هذين الرَمزَين رَمز المَدّة ، وهو ما يدُلّ على حَرف بعينه هو ألِف المَدّ الذي يرِد بعد الهَمزة حين يكون مَوقِعها أصلا في أوّل الكَلِمة ، وهو مَثَله مَثَل الشَدّة وُضِع بَديلا من تَكرار كِتابة الحَرف الذي يأنَفه نِظام الكِتابة في العَرَبيّة . هذا ، وقد صار للمَدّة مع الألِف قبلها رَمز مَنفَصِل على لَوحة المَفاتيح مما يجعَلُنا نخرِجه من طائفة عَلامات التَشكيل .
وأمّا السُكون فما من عَلامة من عَلامات التَشكيل أجدَر بأن تُحذَف أو تُقصى عن هذا النِظام منه . ذلك أن الحَرف إذا ظَهَرت عليه عَلامة من عَلامات الحَرَكة كالفَتحة والضَمّة والكَسرة صار مُتَحَرِّكا ، فإن خَلا من أيّ من هذه العَلامات خَلا من الحَرَكة بكُلّ أشكالها وعاد ساكِنا ، ولذلك لم يعُد بحاجة إلى رَمز السُكون .
ثم إنّ إثبات عَلامة السُكون التي كانت توضَع على أحرُف المَدّ التي تُدعى في المَفهوم الصَوتيّ الحَديث بالحَرَكات الطَويلة هو من باب التَناقُض الذي يعتَرِف بطَبيعة الحَركة في هذه الأصوات وفي الوقت ذاته يُصِرّ على دَمغها بعَلامة السُكون .
وأمّا عَلامة الصِلة التي توضَع على الألِف المَتبوعة بلام التعريف وفي أوّل الكَلِمات التي تبدأ بصامِتَين نَحو استَعلَم واستِعلام وانطَلق وانطِلاقة وغَيرها ، فلا موجِب لإثباتها . وكذلك هي لا تلتَبِس بألِف المَدّ التي لا تقَع في أوّل الكَلِمة، ولا بالألِف الفارِقة التي تظهَر بعد بَعض الأفعال، وكلّ هذه الألِفات تخلو من أية عَلامة . ولا شَكّ أنّ من طَوَّروا لَوحة المَفاتيح قد انتَبَهوا إلى هذه الخَصيصة في ألِف الوَصل حيث لم يُعيروا العَلامة التي وَضَعها الخَليل أيّ اهتِمام، وبالتالي فلم يجعَلوا لها مَكانا على هذه اللوحة .
بقيت الحَرَكات الثَلاث وهي الفَتحة والكَسرة والضَمّة ، والظاهِر أنّ من غير اللازِم إثبات أيّ من هذه الحَرَكات قبل حُروف المَدّ التي تجانسها ، فإذا كانت مَتبوعة بحُروف مُغايِرة لَزَم إثباتها ليؤمَن اللَبس.
ثمّ إنّ هناك نَوعا واحِدا من الحَرَكة يسبِق التاء المَربوطة هو الفَتحة ، فالفَتحة هنا لا لُزوم لإثباتها أيضا . وكذلك لا لُزوم لتلك الحَرَكات التي يمكِن أن تدُلّ عليها أحكام رَسم الهَمزة .
يأتي بعد ذلك إثبات الحَرَكات الإعرابيّة على أواخِر الكَلِمات وهل يجدُر إثباتها أم يُترَك أمر تَقديرها للقارئ الذي يجِب أن يكون شَدا شَيئا من النَحو يجعَله يمَيِّز ما حَقّه الرَفع في مَوضِع الرَفع وما حَقّه الخَفض في مَوضِع الخَفض وقِس على ذلك مما يمكن تَحقيقه بالقَدر الأساسيّ المَطلوب مَعرِفته من النَحو .
وأخيرا ، فإنّ ثَمّة كَلِمات يمكِن لنا أن نَتَحاشي تَشكيلها وذلك لأنّها أصبَحَت شائعة شُيوعا كَبيرا وانغَرَست طَريقة نُطقها في أعماق النَفس منذ الصِغر نَحو هذا ، وهذه ، وأولئك ، وهؤلاء .. وباختِصار كلّ الكَلِمات التي تُعد في تَقسيم الكَلام من فئة الحَرف . كما يُمكن أن نضيف إليها السَوابق prefixes كالواو والفاء والسين واللام وغيرها .
ولا بُدّ أن القارئ الآن قد لاحَظ أنّ النَص ّ كُلّه قد شُكِّل تَشكيلا كامِلا عَبر هذه الطَريقة المُقتَرَحة من التَشكيل الجُزئيّ القائم على القَواعِد العامّة التي بَيّنّاها وليس على مُجَرّد التَقدير الشَخصيّ .
سليمان أبو ستة |