حول اللغة والقرآن كن أول من يقيّم
ترددت طويلاً قبل الدخول في هذا النقاش لأنه يتطلب معارف لا أشعر بأنني أمتلكها . لكن المحاولة تستحق العناء والمخاطرة ، والمحاولة ستكون الاستزادة من التوضيحات التي ستكشف لنا ربما عبر النقاش بعض الجوانب من هذه المسألة الشائكة . فهمت بأن الأستاذ زهير بحديثه يريد معنى ما قاله سبحانه وتعالى : " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الاخر اولئك سنؤتيهم اجرا عظيما " النساء 162 مما يعني بأن الإيمان بما أنزل من قبل الإسلام من الديانات هو جزء لا يتجزأ من الإيمان ككل . تبقى كلمة الراسخون في العلم بحاجة إلى توضيح فمن هم الراسخون في العلم ? وما هو العلم ? إن فهم هذه التفاصيل يكون ربما مفتاح الدخول إلى فهم النص القرآني بهذه الخصوص أو التقدم في درجات الفهم هذه وهناك أمثلة كثيرة تدل على معنى مشابه منها : وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 46 العنكبوت لكن ما يريد قوله الأستاذ زهير كما أظن ، وأرجو أن تصحح لي ، هو أن الحكمة الإلهية شاءت أن تختلف البشر وأن تتفرق فيما بينها لأن هذا التنافس هو امتحان له غاية أخلاقية هي المقصودة في قوله تعالى في سورة الحجرات : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13 والكلمة الفصل هو معنى : لتعارفوا . ونكون بهذا قد عدنا إلى موضوع الملف ومسألة اللغة العربية وارتباطها بالنص القرآني بما يحمله من معاني تتجاوز حدود اللغة كبناء معرفي مستقل . فما هي المعرفة ? وما هو التعارف ? وما هو العرف ? وما هي الأعراف ? العرف له معان كثيرة أهمها : الجود والصبر . كما جاء معناه في سورة المرسلات : والمرسلات عرفا . اما المعنى اللغوي عن بعض ما جاء في لسان العرب فهو : وعُرْف الرمْل والجبَل وكلّ عالٍ ظهره وأَعاليه، والجمع أَعْراف وعِرَفَة وقوله تعالى: وعلى الأَعْراف رِجال؛ الأَعراف في اللغة: جمع عُرْف وهو كل عال مرتفع؛ قال الزجاج: الأَعْرافُ أَعالي السُّور؛ قال بعض المفسرين: الأعراف أَعالي سُور بين أَهل الجنة وأَهل النار، واختلف في أَصحاب الأَعراف فقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يستحقوا الجنة بالحسنات ولا النار بالسيئات، فكانوا على الحِجاب الذي بين الجنة والنار، قال: ويجوز أَن يكون معناه، واللّه أَعلم، على الأَعراف على معرفة أَهل الجنة وأَهل النار هؤلاء الرجال، فقال قوم:ما ذكرنا أَن اللّه تعالى يدخلهم الجنة، وقيل: أَصحاب الأعراف أَنبياء، وقيل: ملائكة ومعرفتهم كلاً بسيماهم أَنهم يعرفون أَصحاب الجنة بأَن سيماهم إسفار الوجُوه والضحك والاستبشار كما قال تعالى: وجوه يومئذ مُسْفرة ضاحكة مُستبشرة؛ ويعرِفون أَصحاب النار بسيماهم، وسيماهم سواد الوجوه وغُبرتها كما قال تعالى: يوم تبيضُّ وجوه وتسودّ وجوه ووجوه يومئذ عليها غَبَرة ترهَقها قترة؛ قال أَبو إسحق: ويجوز أَن يكون جمعه على الأَعراف على أَهل الجنة وأَهل النار. ولفهم معنى كلمة الأعراف ، ومعناها بالعودة إلى النص القرآني وسورة الأعراف الطويلة جداً ومع هذا ففيها آية تشبه المفتاح تلخص المقصود منها ( حسب ما فهمته ) تقول : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " 198 جاء في تفسيرها عند القرطبي على النحو التالي : وقيل: المراد بقوله: "خذ العفو" أي الزكاة؛ لأنها يسير من كثير. وفيه بعد؛ لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر؛ تقول: أخذت حقي عفوا صفوا، أي سهلا. قوله تعالى: "وأمر بالعرف" أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر "العرف" بضمتين؛ مثل الحلم؛ وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). إن المقصود بكلمة : لتعارفوا إذا ، هو التوصل إلى التفاهم فيما بيننا بعد أن تكون إدراكاتنا قد بلغت من الترقي المعرفي ما تستطيع أن تصل به إلى جوهر الأخلاق . وهذه الغاية المثلى هي علة وجود الإنسان على الأرض وجوهر صراعه مع نفسه ومع غيره من البشر . |