المقتضب القصير جدا كن أول من يقيّم
أخي الأستاذ / داوود حفظه الله
هناك كثير من الأوزان التي خرجت على نظام الخليل ، والمقصود بخروج هذه الأوزان ، وبعضها بحور والبعض الآخر أعاريض وأضرب ، أنها ليست مما ذكره الخليل أو وجد عليه شواهد ، ومنها، وهو المتدارك، ما رئي في دوائره مهملا .
وقد انقسم العروضيون إزاء الاعتراف بهذه الأوزان المستحدثة إلى فريقين : الأول، وعلى رأسه الأخفش، لا يقبل إدراج هذه الأوزان في منظومة الشعر العربي ، ويشاركه الزجّاج رأيه ، أو لنقل أنه تأثّر به . وأما الثاني ، وهو رأي يُنسب خطأ إلى الخليل استنادا إلى ما توهمه ابن عبد ربه ، فيجيز مجيء الشعر على غير ما قالت العرب ، وهو ما خالفه ابن عبد ربه بشدة ، وعبر عن ذلك في أرجوزته العروضية بقوله :
وقد أجاز ذلك الخليل ======= ولا أقول فيه ما يقول
وقد لخص الزمخشري موضوع هذا الخلاف في مقدمته للقسطاس بقوله : " إن بناء الشعر العربي على الوزن المخترع ، الخارج عن بحور شعر العرب ، لا يقدح في كونه شعرا عند بعضهم . وبعضهم أبى ذلك ، وزعم أنه لا يكون شعرا حتى يُحامى فيه على وزن من أوزانهم ".
ولعلك الآن تدرك معي زيف الأسطورة التي تغلغلت في أذهان الكثير من العروضيين اللاحقين بأن الأخفش هو الذي استدرك بحر المتدارك ، وكيف ينسجم ذلك إذن مع قوله فيما وصلنا من كتابه العروض " أنهم ( ولا شك أنه يقصد الخليل ) جمعوا كل ما وصل إليهم من أبنية العرب فعرفوا عدد حروفها ساكنها ومتحركها . وهذا البناء المؤلف من الكلام هو الذي تسميه العرب شعرا . فما وافق هذا البناء الذي سمته العرب شعرا في عدد حروفه ساكنة ومتحركة ، فهو شعر ، وما خالفه وإن أشبهه في بعض الأشياء فليس اسمه شعرا " .
ويبدو الزجاج أكثر وضوحا في رأيه تجاه هذه المسألة عندما رفض الوزن الذي سمي فيما بعد بالمتدارك والخبب وغير ذلك من الأسماء ، وقال : " ولو قال لنا قائل: ما ننكر أن يكون قوله :
إن الدنيا قد غرتنا======واستهوتنا واستغوتنا
لسنا ندري ما فرّطنا======فيها إلا لو قد متنا
شعراً ، قيل له : ما تريد بقولك شعر ? إن كنت تريد أنه كأشعار العرب التي قد تتمادح بها وتتذام، وتُشبّب وتوزن الوزن الذي أحطنا به؛ فما نعرف هذا في أوزانها. وإن كنت تريد أن تجعل في أوزانها ما ليس منها فأنت بمنزلة الذي سامنا مررت بزيد . وإن كنت تقول إن هذا وزن ليس من أوزان العرب إلا أنه شعر ، قيل لك : هذا إذن شعر عندك لا عند العرب ؛ لأنها إذا سمعت هذا خالف أوزانها أنكرته ، كما أنها إذا سمعت ( مررتُ بزيدٌ ) أنكرته ... " . ( وهنا بدر لي تساؤل ، وإن كان خارج الموضوع ، ولكني أود أن أرى إيضاحا له منكم ومن الأستاذين الفاضلين زهير ومنصور ، وهو ما المعنى المباشر لكلمة ( سامنا ) هنا وكيف جرى استخدامها عند الكتاب إن كان لها من إستخدام من قبل ) .
وعذرا عن الإطالة أو الشرود في جوانب هذا الموضوع ، ولنعد إلى رد الأستاذ داوود ، وتساؤله عن مكان كتاب العروض للشيخ جلا ل الحنفي ، رحمه الله ، ففي تقديري أنه لا تخلو منه أية مكتبة عامة مما ذكرت ولا سيما تلك الي تضمها كليات الآداب في جامعاتنا العربية بلا استثناء .
أما حول تسميتي لذلك الوزن بالمقتضب القصير أو تسمية الشيخ جلال له بالمتدارك الحادي عشر فهذا راجع إلى المنهج التي اتبعه كل منا ، فهو قد عد من أشكاله في بحر المتقارب عددا جعله يميز بين كل واحد منها والآخر برقم ، وأما أنا فقد نظرت إليه من خلال اتفاق أسبابه وأوتاده بالتفعيلة الأولى من بحر المقتضب فنسبته إليه ، وهو مجرد اجتهاد لا يؤاخذ عليه صاحبه ما دام الخليل لم يعرض لهذا الذي نختلف عليه من قريب أو بعيد . ( وبالمناسبة فقد رأيت في إحصاء حديث لأوزان العقاد أنه استعمل هذا الوزن في ديوانه " عابر سبيل " ( 1937 م ) بقوله :
طار في الذرى ===== هام في السهول
ولا بد أن هذا الضرب هو ما تأثر به الشاعر محمد علي أحمد في قصيدته التي أشرنا إلى بعض أبياتها في مداخلتنا السابقة ).
والباحثون ، أخي داوود ، يختلفون ، واختلافهم نعمة ، على أمور عديدة ، ومنها تسمية هذا البحر الذي لم يعرفه الخليل ، قال الدكتور محمد عبد المجيد الطويل في كتابه " في عروض الشعر العربي " : " ويقول الدكتور عبد الله الطيب أن للمقتضب وزنا آخر ، يكون على ( فاعلات فع ) وعليه قصيدة شوقي ... وهذا الوزن في رأيي على ( فاعلن فعل ) ويكون على ذلك من المتدارك المنهوك إذا ساغ لنا ذلك ... " .
فأنا إذن مع رأي الدكتور عبد الله الطيب ، رحمه الله ، وكتابه الذي ورد فيه هذا الرأي يفوق في حجمه بأجزائه الثلاثة ، واسمه " المرشد إلى فهم أشعار العرب" كتاب الشيخ جلال الحنفي الذي يشاركه أخي زهير رأيه .
ثم لاحظ معي كيف أن الدكتور الطويل في تسميته لهذا الوزن قد احتاط بقوله ( إذا ساغ لنا ) فالخليل لم يعرض لما سقط من شطره تفعيلتان من أصل أربع ، ولذلك رأينا الجوهري في كتابه " عروض الورقة " يستخدم في الإشارة إلى طول الشطر بقوله : الموحد ( ومنه الرجز الذي لم يذكره الخليل ، وورد في قصيدة مشهورة لسلم الخاسر ) والمثلث والمربع ( ومنه المتقارب في الشاهد الذي أورده الجوهري وهو :
وقفنا هنيّه ====== بأطلال ميّه ) .
وتقول ، يا أخي داوود : " وأنا لا أعرف المقتضب إلا قصيرا لأنه لم يأت إلا مجزوءا " ألم تسمع ياأبا سليمان أن في التنانير نوعا يقال له المينى ، وآخر يقال له المايكرو ، فما ذكرته بشأن هذا الوزن الذي رددته إلى المقتضب هو من القصير من فئة ( المايكرو ) ! سليمان أبو ستة |