البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : في سبيل النهضة    قيّم
التقييم :
( من قبل 6 أعضاء )

رأي الوراق :

 محمود العسكري 
22 - أبريل - 2006

نهض الأدب من كبوة امتدت حقبة من الدهر ،  وسرت في أوصاله جذوة الحياة بعد همود ، وتنفس النور بعد أن أطبقت عليه ظلمة خانقة ، وحلق نسره إلى السماء وقد كان أسف إلى الحمأة ، وكانت نهضته الميمونة هذه على أيدي رجال عظام قًَيَّضَهُم الله له طوقَ نجاة ، فرفعوا عنه الآصار ، ووضعوا عن كاهله الأوزار ، وسطروا - حقًّا - في تاريخنا الأدبي صفحاتٍ نَيِّرَةً نشرف بها ، كتلك الصفحات التي أدرجت في توابيت الزمن العهيد ، وأوجدوا عهدًا زاهرًا حافلاً بأساطين الأدب المتنوِّعي المناهج ، المختلفي المشارب والمذاهب ، الباثِّين في تضاعيف أدبهم الرفيع عبق الأصالة وومضات التجديد ، المعبرين عن آلام الأمة وآمالها ، الحاملين على أعناقهم أمانة الذياد عن دينها وفضائلها .

كان ذلك العهد الزاهر هو الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي ، وامتدت النهضة شيئًا ما إلى الثلث الثاني منه ، أما بعد ذلك فإن النسر لم يستطع التحليق طويلاً ، فقد هيض جناحاه ، وسرعان ما بدأ في الهبوط ، وجعلت شموع الأدب تنطفئ تباعًا ، حتى انتهينا إلى هذا الظلام الدامس ! .

أجل بدون مبالغة ، وإذا كان الأدب فيما قبل العصر الحديث ميِّتَ المعاني ؛ فقد أصبح ميت الألفاظ والمعاني معًا ، وكيف لا وقد انفصمت العروة الوثقى بين الأدب واللغة العربية ! ، وطفقت العامية واللغة الصحفية الركيكة تبسط على ( ما يُسَمَّى أدبًا ) ظلالها ! .

أصدقاء الوراق ... أعراض المرض بيِّنةٌ ، والتشخيصُ من الجلاء بحيث لا يُكَابَرُ فيه ، المهمُّ الآن العلاجُ ؛ ما هي الْخُطا التي يجب أن نقتفيَها في سبيل نهضة الأدب من جديد ? ، ما عوامل الضعف ? ، ما معاول الهدم ? ، أين هي المجلات الأدبية ذات الثقل والتأثير ? ، أين أقطاب الأدب الذين كانوا في عهدٍ غَبَرَ كالكواكب تدور في فلكها الأقمار ? ، ما دور النقد في توجيه دفة الحياة الأدبية وتجنيبها بُنَيَّات الطريق ? ، المناهج الأدبية القائمة .. ما الصحيح منها فيحفظ وينمى وما الفاسد فيجتث من جذوره ? ، ما أهمية جوائز الأدب والثقافة والفكر في تشجيع الإبداع والتجويد ? ، ما الواجب على المؤسسات التعليمية كي تقومَ به من أجل استعادة الاعتزاز المفقود لدينا بلغتنا وتراثنا ? ، هل ثمة طرق ينصح بها الأساتذةُ الشداةَ في الأدب يكون في سلوكها الوصول إلى القمة المنشودة ? ، ... إلخ ، أشياء كثيرة أعتقد أنها لدى الغيورين على أدبنا العظيم وثقافتنا السامية محطَّ اهتمامٍ ، ونريد أن يكون هذا الملف إضبارةً لقصاصات الرؤى والآمال والأفكار التي لدى أصدقاء الوراق حول النقاط السابقة وما يجري في مضمارها ، ولعل هذه القصاصات تكون في الغد القريب لَبِناتٍ يُشَيَّد بها صرح الأدب مرة أخرى .

أخيرًا ؛ لا شك أن موقع الوراق هو خطوة واسعة في سبيل هذه الْمُنْية ، لكن لا بد أن نتذكر أن الفائدة من إحياءِ التراث والاحتفالِ بتحقيقه ودراسته مرهونةٌ باستشفافه واستلهامه روحًا للأدب والثقافة ، وإلا فإن شأننا لن يعدوَ شأنَ المستشرقين في اهتمامهم بتراثنا = مجرد تحقيق ودراسة .  

تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الأخ الدمنهوري : سائل ومجيب ( 1 )    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 

 

ثمة مواضيع هامة نتهيب من الدخول فيها ، لأنها ورغم أهميتها وإلحاحها ، تنطوي على أسئلة أخرى لا بد من الإجابة عنها ، أو إبداء الرأي فيها ، لتقييم الموضوع . هي مواضيع دقيقة يلزمها دراسة ودراية ، لذلك نتهيب من الدخول فيها خوفاً من الوقوع في السطحية ، أو في إعادة ما كان قد قيل .

فالسؤال عن الأدب ، هو سؤال في الثقافة . والسؤال عن الثقافة ، ينطوي على سؤال آخر له بعد سياسي ـ اجتماعي ، لأن الثقافة لا تصبح حركة فاعلة ، إلا إذا انضوت تحت لواء مشروع سياسي ـ اجتماعي له أهداف محددة وتوجه وإطار معينان . المجهود الفردي لا يستنهض أمة ولا يأتي إلا بثمار فردية ، على أحسن تقدير .

السؤال الذي يطرحه الأخ الدمنهوري بأسلوبه الجميل الراقي ، ولغته البديعة المشغولة باحتراف وإتقان من له باع طويل بالأدب والثقافة ، رغم سنه المبكرة ، وهذا ما كررناه كثيراً بداعي التقدير والإعجاب ، ولكن أيضاً بداعي الوعي لما يمثله من طاقات ممكنة حقيقية وأكيدة ، لا تطلب سوى إتاحة الفرصة لها في الظهور إلى النور . هي طاقات الأجيال المتعاقبة منذ حوالي المئة سنة ، المسكونة بهاجس النهضة والتنمية والخروج من نفق هذا " العبث التاريخي " الذي نعيشه ، ودون أن تتمكن من صياغة مشروع مشترك يؤطر هذه الطاقات والمجهودات ويصيغها في وجهة موحدة .

إن ما نسميه ب " عصر النهضة " ، هو حقبة تاريخية مفصلية في حياة الأمة العربية والإسلامية ، لأن التاريخي فيه والسياسي ، يتقاطع مع الاجتماعي الثقافي بدون ادنى شك . فالخلافة الإسلامية الممثلة بالسلطة العثمانية آنذاك ، كانت قد خسرت حربها ضد الاستعمار الأوروبي الآتي بقوة ، يحمل معه ترسانة من السلاح والعتاد والبوارج والطائرات ، وهذا كله حديث ومبتكر ، ولكن أيضاً ترسانة مماثلة من الأفكار والتصورات والمعتقدات فيما يتعلق بالمجتمع والإنسان وتنظيم حياة الجماعات على الأرض . هذه الحداثة الفكرية ، وهذا الوعي الجديد ، هو مكمل لعناصر قوته الأساسية والمادية التي حققت تفوقه . هي الخطوة التالية في عملية الإخضاع والسيطرة ، وأؤكد على عبارة ، مكملة وتالية ، لأنها ليست الأساس ، على الأقل بالنسبة لنا ، إلا أن ما يبلبل المشهد ويجعله غير واضح المعالم ، هو كون تلك القوى " الداعية للحداثة " ، كانت في نفس الوقت في صراع فيما بينها .

 وبينما كان هذا الصراع في بداياته على أرضنا ، ولم يستكمل  كل عناصر قوته بعد ، في الثلث الأول من القرن العشرين ( أعني هنا الصراع على النفوذ في أوروبا بين الولايات المتحدة ، والقوى الاستعمارية القديمة ممثلة بفرنسا وانجلترا ) ، فإنه قد نحا منحى آخر بعد الحرب العالمية الثانية ( الثلث الثاني من القرن العشرين ) وظهور كتلة المعسكر الشرقي التي طرحت أفكاراً جديدة ، من نوع جديد ، وكان لها تصورها الخاص عن الدين والمجتمع والإنسان ، وكان قد أصبح لديها ، بانتصار ستالين ، مادة مقنعة ، عقائدياً وفكرياً ومادياً و" علمياً " ..........

وبينما كانت "الأنسية " الغربية ، " L'humanisme" هي ما يميز التيارات الأدبية التي نشأت في الثلث الأول من القرن العشرين ، ممثلة من جهة بتيار إسلامي حداثي ( محمد عبده ومن حوله ) ، وبتيار ليبرالي ( رائده طه حسين ) من جهة اخرى ، فإن الثلث الثاني قد عرف تلونات كثيرة طغى عليها اللون السياسي والعقائدي لأن هذه التيارات كانت قد تجذرت وانضوت تحت ألوية مشاريع سياسية وعقائدية أشد وضوحاً ، وأكثر انشغالاً بموضوع السلطة .  

 

 

*ضياء
26 - يونيو - 2006
`ذاك هو الرأى الصحيح    كن أول من يقيّم
 

أنا أتفق مع الأستاذة ضياء فى أن الفكر السياسى هو المحرك الأساسى لاى نهضة تقوم فى زمن من الأزمان ، فكل نظام حكم له أفكاره التى يعتمد عليها فى الاساس لخدمة نظام حكمه ولعل التاريخ خير شاهد على ذلك ، المتصفح للتاريخ يرى أن ألوانا من الادب العديدة قمعت وأندثرت لمجرد وقوفها أمام الفكر الحاكم ، لقد ابتلى العالم الاسلامى ببعض الحكام الذين لم يحكموا الأرض والناس بل حكموا عقولهم أيضا ، أنظر معى فى عهد الخلفاء الأمويين : لقد أحب هؤلاء الرجال الشعر و فتنوا به فشجعوه و اثابوا عليه وقربوا منهم بعضهم أمثال جرير والفرزدق فنرى أن هذا اللون من الأدب لمع وازدهر ومرد ذلك الى الخلفاء ، والاكيد أن وراء ذلك سبب  وهو اشغال الناس وصرفهم عن أمور الدولة والحكم .

 

*يوسف الزيات
27 - يونيو - 2006
اسباب تدهور الادب    كن أول من يقيّم
 

اسمحوا لي اولا ان ابدي اعجابي بالمقال لغة وفكرا ، فالكاتب بلغته الجميلة المتقنة استطاع ان يضع يده وببراعة على مواضع الالم في حياتنا العربية ، نعاني من تدهور فظيع في جميع مجالات الحياة ، والادب ابرز هذه المجالات ، اليس ادب كل امة هو مراتها ، انحسر الادب انحسارا واضحا في النصف الثاني من القرن العشرين وما زال يتدهور ويتراجع الى الخلف ، ككل الميادين الاخرى ، والادب مرتبط تمام الارتباط بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، لقد ذكر الكاتب باسوبه الجميل النهضة الفكرية والادبية التي حصلت في بداية القرن العشرين وكان من اسبابها الثورة التي حدثت في البلدان العربية ضد الاحتلال ولاستعمار اذن السبب السياسي هو في المقدمة دائما ، حدثت حركة ترجمة واسعة حينذاك وطبعت المئات من الكتب التراثية المفيدة ، انشئت المدارس واخذت دورها في انهاض الهمم  لدى النشء الجديد وزرع بذور الارادة الحرة الواعية ، الان لم تعد تلك العوامل موجودة اخي العزيز ، الرجال او النساء او هما معا لايمكن ان يهدا الجبال دون ان تتوفر العوامل الذاتية والموضوعية ، المدارس تتراجع في دورها التعليم التربوي التثقيفي ليبقى الدور الوحيد لها بتخريج الملايين من الطلاب الاميين الذين لايفقهون شيئا من التاريخ والدين والسياسة ، كل همهم الحصول على الشهادة من اجل ان يقال عنهم انهم مثقفون ، توجد مجلات ادبية ثقافية في العالم العربي ـ ولكن من يقوم بالاشراف على الحركة الادبية بها ، محررون يرتكبون الاغلاط بالنحو والاملاء ، المحسوبية والمنسوبية تتفشى ولها الكلمة الاولى والاخيرة ، الجوائز الادبية تمنح للقريب المنافق على حساب المبدع الحقيقي

تقام المهرجانات الادبية في هذا القطر العربي او ذاك ، من يدعى لها ، المزمرون والطبالون ، وهم انفسهم يتكررون في كل مهرجان

لااحب التشاؤم اخي الكريم ، انا متفائلة على الدوام ، واجد ان صرختك التي اطلقتها على صفحات الوراق محقة جدا وان جميع من يملك ضميرا حيا وتهمه مصلحة الوطن ان يتصدى لهذه الظاهرة ، الكلمة تتراجع في عالمنا العربي ، بسبب تراجع كل شيء

*صبيحة
29 - يونيو - 2006
المشكلة الكبرى    كن أول من يقيّم
 

إذا كان المقصود بالأدب هو مجرد النصوص ذات الألفاظ الرفيعة و الصور الرائعة و المعاني المثيرة أو ما يسمى صناعة الأدب , ففعلاً سيكون غياب النقد الأدبي و "أحاديث الأربعاء" و الصالونات و المجلات الأدبية السبب وراء ضعف الأدب العربي بدءاً من الربع الأخير من القرن العشرين .
أما إذا كنا نتكلم عن الأدب من حيث كونه مرآة الحياة التي تعكس الواقع و الأمراض و المشاكل فيجب إذا أن نفتش عن أسباب أخرى لضعف الأدب .

إن الجماهير تتوج الكاتب قبل أن تتوجه جوائز نوبل , و هناك الكثير من الكتاب ( و ليس الأدباء ) , ممن يكتبون نصوصاً جميلة و لكنها مجردة , لا أب لها و لا أم , و يظلون في الصف الثاني و ربما الثالث في وعي الجماهير و الحكومات تشجع مثل هؤلاء الأدباء و تدعمهم و تطبع لهم أعمالهم .
وأنا كانت لي فرصة حضور فعاليات معرض فرانكفورت للكتاب في عام 2004 حيث كانت الثقافة العربية هي ضيف الشرف , و شاهدت مجموعة كبيرة من الأدباء "الحكوميين" العرب و استمعت إلى كلامهم السخيف و العقيم و الممل و استمعت إلى كتاب المفروض أنهم عرب و لكن من حسن حظ الثقافة العربية أنهم يكتبون بلغات غير عربية , و في المقابل شاهدت أيضاً شاعراً عظيماً هو محمود درويش و شاهدت كيف امتلأت القاعة بالحضور قبل ساعات من موعد أمسيته الشعرية , و شاهدت كيف جلس السفراء العرب على كراسي صغيرة و كيف وقف بعضهم لأنه لم يتسن له فرصة الجلوس .
و نظراً طبعاً لغياب حرية الرأي و الفكر و تسليط سيوف الرقابة السياسية و الدينية على الكتاب , يتعذر على الكاتب الملتزم أن يكتب نصاً ذو قيمة يتحدث عن قضايا الناس و مشاكلهم .

*معتصم
29 - يونيو - 2006
الأخ الدمنهوري : سائل ومجيب ( 2 )    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

 

بالعودة إلى فحوى السؤال ، يمكننا القول تلخيصاً لما سبق بأن بداية النهضة عرفت رجالات فكر وأدب درس معظمهم في الجامعات الأوروبية وتشبعوا بأفكار عصر الأنوار ، فدخلت الحداثة الأوروبية عبرهم من الباب الواسع . لكنهم لم يأتوا من الفراغ ، بل كانوا خلاصة عملية تاريخية طويلة إمتدت قبلها بقرون أسست لها المدارس والإرساليات الأجنبية الكثيرة المنتشرة في البلدان العربية ، منذ أيام السلطنة العثمانية ، التي أنجبت ورعت النخبة السياسية والثقافية ، أو قسماً كبيراً منها على الأقل ( بالأخص في مصر ولبنان ) ، وعلى يد هؤلاء قام عصر النهضة .

لا يمكننا فهم تطور الحركة الأدبية دون الرجوع إلى التاريخ والسياسة كمعطيات رئيسة . فحركات الاستقلال والتحرر القومي التي اشتدت وتيرتها بعد الحرب العالمية الثانية ، مهدت لقدوم ثقافة من نوع جديد ترتكز في غالبيتها على أدبيات محاربة الإستعمار وإحياء الروح القومية ، وتتصف بنفس اشتراكي حددته طبيعة التحالفات الجديدة لعدد من هذه الأنظمة مع المعسكر الشرقي .

هذا النفس الجديد الذي لا يعبأ كثيراً بالحرية الفردية والحداثة التي جعلت من الإنسان غايتها ، بل كانت تشغله المهام النضالية المتعلقة بالصراع القومي وبناء الدولة العسكرية القوية ......... في هذه الفترة الثانية عرفنا غزارة الفلسفات والتنظيرات الإيديولوجية ذات الطابع السياسي والتاريخي ، وتميز هذا النموذج الثقافي أيضاً بتغليبه جزءا من التراث على حساب الجزء الآخر ، فكان التمجيد للتاريخ واللغة ( وهو تمجيد إنتقائي ومصطنع ) على حساب الدين .

حالياً ، أظن بأن تراجع دور الثقافة  والأدب المرتبط بتراجع عام على مستوى القدرة والتأثير للمجتمعات العربية ، يتميز بهيمنة المؤسسات الإعلامية التي تروج للأدب ، وتركيز دور النشر بيد هذه المجموعات الإعلامية الخاضعة أحياناً للحكومات المحلية وأحياناً أخرى للمؤسسات العالمية صاحبة الهيمنة والنفوذ المرتبطة بمصالح خارجية ، وهي غالباً من ينظم المؤتمرات ويوزع الجوائز . ولقد أشار الأستاذ معتصم إلى هذا الموضوع وعبر عنه بمثال حي وواقعي غني عن التعليق .

ليس هناك سياسات لرفع المستوى التعليمي ، وليس هناك سياسات لرفع المستوى اللغوي ، وليس هناك سياسات لرفع مستوى الوعي العام المرتبط بالواقع ولا بالذاكرة ولا بالتالي النظرة إلى المستقبل . إن ما يجري الترويج له هو عملية إستهلاك وإستغراق للغة والثقافة بالكلام المحكي في الإذاعات والتلفزيونات ، كلام مبسط ممجوج وأقرب إلى السذاجة وأحياناً إلى الابتذال ...... واللغة أصبحت فلوكلوراً شعبياً بفضل الترويج العام للآداب المحلية التي يستسهلها الناس ويشعرون بالقرب منها لكنها لا ترفع من مستوى الوعي لديهم ، ولا تعمق من عملية فهمهم لذواتهم ولا لواقعهم ، ولا تقدم لهم من القيم الجمالية إلا كل ما هو سطحي ومستهلك .

لا يمكن التأسيس لأية نهضة دون وعي بالذات ، والوعي بالذات يعني الذات الفردية ، ويعني أيضاً الوعي بالتراث والماضي الذي جئنا منه ، تاريخاً وأدباً وديناً ولغة ........ واللغة هي صورة الماضي المكثفة التي تلخص كل هذه التجارب وتحملها في متنها ، وهي استمرارية تاريخية نستشعرها بمرور الوقت ، وكلما تعمقنا في الدراسة ، وتتزايد أهميتها إضطراداً بنظرنا بتزايد الشعور بهيمنة هذا السخف العام المفروض علينا ، وهذا الشعور بالتردي والإحباط .

لماذا قلت في بداية حديثي بأن الأخ الدمنهوري سائل ومجيب ?

لأنه كان قد نوه للعمل الذي قام به المستشرقون ، وهو عمل هائل في فائدته العلمية ، ووصفه بأنه مجرد تحقيق ودراسة ! هذا صحيح رغم قيمته وتقنيته العالية التي لا يرقى إليها الشك ، فما المطلوب إذاً ???

المطلوب هو الشعور بالولاء ! المطلوب هو ان نشعر بأن من يكتب ، يكتب لنا ، وان من يفكر ، يفكر من أجلنا ، لا يهم من أي اتجاه أتى ، ولا يهم لو اخطأ أو أصاب ، المهم أن يحصل هذا التواصل السحري بيننا وبينه الذي يجعلنا نشعر بأننا لسنا أمام مستشرقين .

    

*ضياء
7 - يوليو - 2006
اذا كنتم تسعون الى نهضة الأدب    كن أول من يقيّم
 

كفانا كلاما وشعارات وكلام منمق، الأصلح أن يحفظ على الجدران للزينة لا للجد والعمل ، أنا أدعوكم أنتم سراة الوراق الى ما كنتم تتمنوه وهو بين أيدكم ، أنهضوا وهبوا الى وقابلونى  فى مجلس الأدب العربى تحت عنوان (انشاء جريدة أدبية لسراة الوراق )

أما ان الأوان أن يخرج كلامكم للنور أم ستظلون تمننون أنفسكم بالنهوض بالأدب وأنتم واقفون لا حراك لكم .

تحياتى

*يوسف الزيات
8 - يوليو - 2006
غربة النخبة    كن أول من يقيّم
 
العروبة في أنابوليس
 
الفضل شلق
لم يبق من العرب من يعرِّف نفسه عربياً سوى العامة ، وهؤلاء يشكلون 99,99٪ من السكان العرب . اما النخبة الثقافية ـ السياسية التي تشكل أقلية عددية ضئيلة ، ربما اقل من 1٪ من السكان ، فهي تتشكل ممن يجدون صعوبة في تبني الانتماء العربي . هؤلاء يتحدثون كثيراً لا عن عروبتهم ، ومن حقهم أن يختاروا أي انتماء شاؤوا ، بل يتحدثون على العولمة والحداثة أو عن الدولة القطرية وما تعانيه من فقدان الشرعية ، بالأحرى فقدان مقومات الوجود كدولة . العروبة لم يعد يمثلها إلا الجامعة العربية التي أفرغت من كل فاعلية ، مما يؤدي الى نشر الاعتقاد بأن العروبة تساوي فقدان الفاعلية . ينسحب الحاضر على التاريخ ، فتصير العروبة ذات معنى فقدان الفاعلية في مختلف مراحل التاريخ . يتشبّت الإسلاميون الأصوليون بمقتضيات الفاعلية فيتمسكون بسيرة السلف الصالح ، أي المرحلة الأولى للتاريخ العربي ، أما غيرهم فيركزون أنظارهم على المراحل اللاحقة التي فقد فيها العرب فاعليتهم ويطلقون عليها تسمية مرحلة الانحطاط لأكثر من ألف عام . هكذا نصبح أمة دون تاريخ : السلف الصالح مرحلة أولية يصعب الرجوع إليها واستعادتها ، والتاريخ اللاحق مرحلة انحطاط لا تستحق الاعتبار . اما الراهن فهو سلسلة هزائم متواصلة وتراجعات على جميع الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية . وإذا ظهرت مجموعات مناضلة «طليعية» فهي تبدو خارج السياق ، إذاً لا عقلانية . هكذا يبدو الوعي العربي السائد . وما يقرّر سلوك النخب السياسية هو الوعي الثقافي . صنعت هذا الوعي أحداث . الأحداث قرّرتها القوى المسيطرة على العالم . ليس هناك تطور اجتماعي «طبيعي». هناك تطور يُصنع . ما يصنع تتنازعه القوى العالمية والمحلية . تكون النتيجة حسب ميزان القوى . يساعدنا على الفهم استعراض مئتي عام من التطور العربي .

لم يكن صدفة أن الحرب العالمية الأولى كانت مناسبة لعقد اتفاق سايكس بيكو وإنتاج التجزئة العربية ، وكانت أيضاً مناسبة لإعلان وعد بلفور بإعطاء فلسطين (أو جزء منها؟) لليهود الصهاينة . في مؤتمر فرساي للصلح بين الدول الأوروبية كان لويد جورج الصهيوني ، رئيس وزراء بريطانيا ، على استعداد للتخلي عن مناطق أخرى كثيرة وغنية لقاء الاحتفاظ بفلسطين (من اجل تنفيذ الوعد؟) .

ولم يكن صدفة، أيضاً ، ان الحرب العالمية الثانية كانت مناسبة لاقامة دولة اسرائيل في حين كانت الدول العربية القريبة والبعيدة ، لم تستقل بعد ، أو أنها بالكاد استقلت ، او مستقلة شكلياً مع بقاء الجيوش الاوروبية على اراضيها . بعضها كان يقودها ضباط اوروبيون . لم يستسلم العرب .

كانت ردة الفعل سريعة شاملة ، توّجَها عبد الناصر . لكن الغرب عاجله بحرب ,1956 التي شاركت فيها بريطانيا العظمى وفرنسا وإسرائيل . خرج منها عبد الناصر مهزوماً عسكرياً ، وقيل منتصراً سياسياً . معنى عدوان 1956 ان الغرب تعلم من تجربة محمد علي في القرن التاسع عشر .
 
في بداية القرن التاسع عشر جاءت الحملة النابليونية . انتصروا على الجيش المملوكي ـ العثماني بسهولة . نهض محمد على باشا أحدث ثورة صناعية وزراعية . بنى جيشاً من الفلاحين المصريين . صنع تجربة تعلّم منها اليابانيون لاحقاً . تغلب على الدولة العثمانية ، اجتمعت ضده القوى الاوروبية في الأناضول . هزمته ، وأبقت عليه لقاء معاهدة جمركية فرضت 12٪ على الصادرات و3٪ على الواردات وفتحت طرق العبور للاسواق الداخلية مما أدى إلى انهيار الاقتصاد المحلي . لقد رُفِضَ النهوض على طريقة محمد علي باشا (وعلى طريقة عبد الناصر لاحقاً) . فُرِض بالقوة العسكرية ، بدل النهوض ، إصلاح اقتصادي أدى الى استباحة الموارد المحلية وتراكم الدين العام (مصر، تونس، الدولة العثمانية، إيران، الخ....) .

الاصلاح المفروض من الخارج كان في كل المراحل ، وما زال ، هو من اجل تلبية حاجات الرأسمال العالمي وليس من اجل تلبية حاجات الناس «المحليين» . برامج اعادة الهيكلة التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليست جديدة .

لم يتغيّر خطاب الغرب الرأسمالي منذ الحملة النابوليونية . الخطاب الذي وزعه نابليون ، لا يختلف عن خطاب العرش للملكة فيكتوريا في سبيعنات القرن التاسع عشر ، ولا عن خطاب ستانلي مود الذي قاد الغزو البريطاني للعراق عام ,1917 ولا عن خطاب بوش عند غزو العراق في عام .2003 هو في كل مرة خطاب الحرب بحجة نشر التحديث والحضارة (مع مصطلحات الديموقراطية وحقوق الانسان وحقوق المرأة والمجتمع الاهلي، الخ.....) . لغة التمدين هي دائماً الحرب .

اذا كانت الحرب العالمية الاولى مناسبة لوعد بلفور ؛ والحرب العالمية الثانية مناسبة لإنشاء دولة اسرائيل ؛ ففي اطار الحرب الباردة ، أي الحرب العالمية الثالثة كان كامب دايفيد ؛ وفي اعقاب الحرب شبه العالمية على العراق عام 1991 كان مؤتمر مدريد ؛ وفي خضم الحرب على الارهاب ينعقد مؤتمر انابوليس . حتى كامب دايفيد، كان تكريماً ما كانت مصر قادرة على نيله لولا مقتضيات الحرب الباردة . وما تخلى التبشيريون الاميركيون والمحافظون الجدد عن كارتر الا بسبب دوره في كامب دايفيد .
 
جاء مؤتمر انابوليس في سياق الحرب العالمية على الارهاب كحلقة من حلقاتها . بعد سنوات من الإنكار ، يتعاطى الرئيس دبليو بوش ووزيرة خارجيته مع موضوع حاولا تجنبه على مدى السنوات السابقة . وهما ليسا حياديين في الوساطة . مؤتمر انابوليس ليس ارتداداً على سياسة سابقة بل هو الوجه الآخر لها . الثابت في هذه السياسة هو إنكار الموضوع وعدم الاعتراف الا بالافكار التي يملكها صاحب الإنكار . حرب الارهاب تنكر الموضوع الحقيقي لها ، ويتوهم اصحابها العدو في كل مكان ولا في مكان ؛ لكن العدو يتلقى الضربات في العراق وأفغانستان وفلسطين وبقية هذه المنطقة . ومؤتمر انابوليس ينكر الموضوع ، ويتوهم اصحابه والمدعوون إليه نهاية لمرحلة وبداية لأخرى ، بينما هو مجرد وعد بالتفاوض ، وعد بالتفاوض على امور يجري التفاوض عليها منذ سنوات عديدة .

موضوع انابوليس هو نفسه موضوع حرب الارهاب : هو شعوب هذه المنطقة التي تريد شيئاً ويراد لها شيء آخر . يراد لهذه الامة ان تتخلى عن مطالبها ، وعن وجدانها ومشاعرها ، يراد لها ان تتخلى عن نفسها (انابوليس) ، وإن رفضت التخلي فإنها تصير موضوعاً للحرب (على الارهاب) . والحرب على الارهاب يمكن ان تكون خارجية (جيوش احتلال) او داخلية (حروب اهلية وانفجارات داخلية) .

ينكر اصحاب انابوليس ان مقاومة الامة ليست ارهاباً ، وأن الامة لم تصبح عربية نتيجة لبضع افكار ، وأن الامة لم تكن ناصرية ، بل كان عبد الناصر عربياً ، وأن محمد علي صار عربياً ، وأن الامة التي مرت بمراحل نمو وتراجع، وتقدم وتأخر ، بقيت أمة كما يراها العرب الذين يعتبرون انفسهم عرباً . لا ترى النخب الثقافية والسياسية ذلك؛ تنكر على جمهور الامة أفكاره ووجدانه ؛ تفضل الاصطفاف مع حالة الإنكار التي تمارَسُ من خلال حرب الارهاب ومؤتمرات انابوليس او غيرها .

ليست العروبة فكرة تحتمل الخطأ والصواب، ليست فكرة يمكن التخلي عنها الا لدى من يكون في حالة إنكار . العروبة وجدان ومشاعر تحدد الهوية لجمهور يمتد من أقصى المغرب الى المحيط الهندي . العروبة حالة اعتراف بوجود هذا الجمهور الذي يرى نفسه كذلك والذي من حقه علينا ان نقر له بهذا الوجود ، وبحق المقاومة دفاعاً عن هذا الوجود والممانعة ضد من يسعى لإلغائه .

العروبة هي موضوع انابوليس الذي عُقد من أجل الحرب لا من أجل السلام .

العروبة كانت حاضرة في أنابوليس لأنها كانت هي الموضوع . العروبة غابت عن أنابوليس لأنها هي ما يُراد إلغاؤه .
* عن السفير اللبنانية هذه الصباح
*ضياء
30 - نوفمبر - 2007
آفاق ما بعد الحداثة، أم ما قبل الحداثة ؟!    كن أول من يقيّم
 
[تعقيب على مداخلة للدكتور عبدالله الغذامي].*
                                                             نجيب العوفي
 
الدكتور عبدالله محمد الغذامي، صاحب هذه المداخلة الشائقة والشائكة في آن، صوت طليعي ومتمرس، حملته إلينا ريح الصبا من قلب البلاد العربية، فيما يشبه المفاجأة السارة، ليشد أسماعنا إلى شدوه الأدبي والنقدي،   واجتهاده النظري والمنهجي في مجال تشريح النصوص وفقهها، منذ كتابه المتميز (الخطيئة والتكفير) إلى كتابه الأخير لا الآخـر (ثقافة الأسئلة)، مرورا بجملة تآليفه الأخر ودراساته الدورية المبثوثة هنا وهناك. هو صوت يجمع بين الثقافة  العربية الأصيلة التي نـهل من معينها القراح دون أن ينكفئ عليها، والثقافة الغربية الحديثة التي خاض غمارها دون أن ينجرف في تيارهـا أو يقع في إسارها. أي يجمع بين حد الأصالة وحد المعاصرة في توليفة سوية وبـهية، مجسدا بذلك نموذج المثقف العربي المتفتح الذي يشرع نوافذه للرياح اللواقح،  دون أن يقتلع من مكانه أو يغيب عن زمانه، حسـب المقولة الغاندية الأثيرة لدى الباحث.
هذه شهادة تقديرية وأولية لا مناص من الإفضاء بـها في حق الرجل، دون محاباة أو مَـيْن، وضعا للحق في نصابه واعترافا بالجميل لأصحابه.
ومداخلة الدكتور الغذامي الـمُـمَحْورة على (آفاق ما بعد الحداثة)، تبدو حافلة بالنقاط الخلافية والبؤر الحساسة والساخنة. وهذا دليل على جراءتـها وخصوبتها وعمـق أسئلتها. وما إِخَالُ الدكتور الغذامي إلا فاسحا صدره للرأي الآخر و"النص المضاد"[1]، وهو الحداثي بامتياز،  والمدافع عن "ثقافة الأسئلة"[2] بمَنْأى من أي تزمت أو تعنت. وفي الاختلاف رحمة كما قيل. كما أن الاختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، كما قيل أيضا.
والباحث يفتتح مداخلته قائلا :
"ولسوف تكون ورقتي هذه بمثابة الأسئلة حول عنوان الورقة المقترحة، وربما أقول إنني أكتب ضد الورقة وفي مواجهة العنوان".
وبدوري ستكون ورقتي التعقيبية هذه، بمثابة الأسئلة المركبة على الأسئلة أو المرتبة عنها. ولربما قلت أنا أيضا، إنني أكتب ضد الورقة المضادة. فنحن إذن عازفان على الوتر التساؤلي ذاته، معزوفتين مختلفتين، إلى هذا الحد أو ذاك. وليس كالتساؤل والـمُـساءلة، واقْتِداح أَزْنِدَتهما، مدخلا إلى معرفة والإحاطة بالصفة. ولا يشفي غليل السؤال إلا السؤال.
وستكون أسئلتي متدرجة وفق الوتيرة التي سارت عليها أسئلة المداخلة وتنامت عبرها، وذلك من باب حذْو النعل بالنعل أولا، وحفاظا على الخيط المنهجي الناظم ثانيا.
1 ـ انطلاقا من استراتيجية التشريح والتفكيك التي يتبناها الباحث في معظم تحاليله وقراءاته، يعمد بادئ ذي بدء، إلى تفكيك العنـوان المقترح (آفاق النقد الأدبي في دول مجلس التعاون) ومجابـهة سلطته الاصطلاحية والمفهومية . وهو تفكيك يذهب إلى فك الارتباط بين حدي هذا العنوان وفصم العروة النحوية والدلالية التي تشدهما  .  يقول في هذا الصدد :
"إن أول ما سأفعله بهذا العنوان هو استبعاد كلمات (في دول مجلس التعاون) ذلك لأنـها شبه جملة وليست جملة، وكأنما هي شبه حقيقة وليست حقيقة (…) ولذا فإنني سأخلص العنوان من قيد فكري وإيديولوجي ليس له  من معنى سوى كونه سلطة اصطلاحية تفرض نفسها في لحظة غياب الأسئلة".
وهو إذ يخلص العنوان من هذا القيد الفكري والإيديولوجي، حسب تعبيره، يجهز على المرتكز الجغرافي والتاريخي لأشغال هذا الملتقى بضربة لازب،  من حيث أريد له أن يتحدد ويتحيز في الزمان والمكان واللسان، أي (في دول مجلس التعاون) ويقوم ، بدل ذلك، بتعويم وتـهويم آفاق النقد الأدبي في عراء الزمان والمكان واللسان  .  هذا من جهة. ومن جهة ثانية وتالية،  فإن الباحث إذ يخلص العنوان من قيده الفكري والإيديولوجي يقع، من حيث يحتسب أولا يحتسب، في قيد فكري وإيديولوجي آخر ومضمر. لأن نفي "الإيديولوجي" في التحليل الأخير، هو ضرب من الإيديولوجيا، مموه وملـفَّح. وقراءته لمنطوق ومفهوم العنوان، لذلك، ليست "بريئة" أو محايدة، إن لم نقل إنـها "آثمة" و"ماكرة"، بالمعنى الإيديولوجي تحديدا. ومن جهة ثالثة، فإن شبه الجملة التي أسقطها البـاحث من الاعتبار، (في دول مجلس التعاون)،  توقع العبارة الأولى (آفاق النقد الأدبي) في المحذور ذاته،  وتناوح بـها عند حدود شبه الجملة. ولا يكتمل العنوان ويستقيم أوده، إلا بالتئام حديه والتحام شقيه، كما هو منصوص عليه في الورقة المقترحة.
2 ـ بعد مواجهة العنوان وقص أحد جناحيه للاستفراد بالأول (آفاق النقد الأدبي)، يعقد الباحث مواجهة ثانية مع مصطلح (الأدبي) ليحرره من القيود الذهبية التي ارتسف فيها عبر العصور، وينضو عنه تلك الأقماط السميكة التي حاكتها له المؤسسة الثقافية الرسمية، ويطلقه من عنان، ليحاذي ضفافا وهوامش رحيبة وخصيبة كانت تعتبر بعيدة عن الشرعية الأدبية، وكان ينظر إليها، لذلك، بتعال واستخفاف. في حين أن الـهامشي والثانوي أكثر حيوية وفاعلية من المركزي والرسمي. يقول الباحث في هذا الصدد :
"إننا نجنح إلى جعل الأدبي في الجليل والمعلن والمقبول تقليديا، وننسى الحقير والمستور والمهمش وقد يكون ذلك مقبولا لو أنه الجليل هو وحده الفاعل والمؤثر في الناس،   ولكن الأمر يصبح خطـيرا إذا ما اكتشفـنا أن المحتقر لدى المؤسسة الثقافية الرسمية هو الفاعل والمؤثر في جماهير الناس".
ولا مراء في أن الباحث يصدر في هذا الحكم، عن مفهوم حداثي وديمقراطي للأدب، ينفي التفرقة  بين الرفيع والوضعي ويلغي الحواجز الجمركية بين أشكال التعبير وأنماطه، ويهتدي ضمنيا بـهَدْي وطروحات الرومانسية   الألمانية والشكلانية الروسية من جهة، وتنظيرات ومقاربات البنيوية والسيميولوجيا من جهة ثانية. وهي اتجاهات ومنازع عملت سوية على تـهوية وتفضية مفهوم الأدب Littérature والأدبية Littérarité وجعل الأدب، كما قال موريس بلانشو "لا يقبل التفرقة بين الأنواع، ويرمي إلى تحطيم الحدود".[3]  
إلى هنا، نحن متفقون من حيث المبدأ، مع باحثنا الألمعي على أن مفهوم الأدب لم يعد مقصورا وحكرا على الجليل والسامي والرسمي، وأن خارطة نفوذه قد تراحبت واغتنت باللغات والأشكال والأنواع، وانفتحـت على الضفاف والحواف. أي أن مفهوم  حديثا للأدب بدأ يسد مسد المفهوم الكلاسيكي ويفيض عنه.
بيد أن الباحث الكريم، إذ هو يعيد الاعتبار للهامشي وينزع عنه وصمة الصغار والدونية، كان يعلي من شأنه ويرفع من وزنه على حساب الأدب الذي سماه رسميا ونخبويا ومتعاليا. يقول في سياق حجاجه وسجاله :
"… وسيكون الأدبي عندنا اجترارا نخبويا معزولا ومتعاليا تعاليا ادعائيا واهما.
وإن كان للعرب من ديوان في السابق، فلا بد أن صفحات هذا الديوان قد تبدلت وجرى طمس الشعر فيها لتحل محله فنون أخرى مازلنا غافلين عنها، ومنها الأغنية والنكتة، ومنها ممارسات المجتمع  في عاداته وأعرافه وحكاياته وطرائق معاشه في اللباس والتبادلات السلوكية، ومنها وجوه المتعة والتنفيس الجماهيري في الألعاب، خاصة ما هو طاغ منها ومهيمن مثل كرة القدم."
هنا يضعنا الباحث تجاه أحكام قيمة وصفات قادحة تغمز من قناة الأدب الرسمي ـ المكتوب، من قبيل الاجترار النخبوي المعزول والمتعالي تعاليا ادعائيا واهما. وهنا يضعنا أيضا، تجاه مفهوم فضفاض جدا وزَلِق جـدا للأدب، ينفتح به على "امبراطورية العلامات" الشاسعة، حسب تعبير رولان بارت، بما في ذلك معارض الأزياء، وموائد الطعام، وملاعب الكرة..
والأخطر من هذا، هو أن تكتسح هذه المظاهر السلوكية وهذه الفنون الشعبية المشهد الثقافي العربي، فتزيح الشعر عن سدته وهو ديوان العرب والذروة والسنام من إبداعهم الأدبي. لماذا ؟! لأن "صفحات هذا الديوان قد تبدلت وجرى طمس الشعر فيها لتحل محله فنون أخرى مازلنا غافلين عنها".
ولقد تبدلت صفحات هذا الديوان لا محالة، بفعل تعاقب الليل والنهار، لكن جذوة الشعر فيها ما تزال متوهجة ومتجددة، لا يخبو لـها ضرام. ولاشك في أن مفهوما فضفاضا وزلقا للأدب، كالذي يطرحه الباحث، لا بد من أن يفضي إلى ضرب من الخلط والالتباس بين الأدب "الرسمي" والأدب الشعبي، وبين الأدب بمفهومه العام والأدب بمفهومه الخاص.
وفي ثقافات كل الشعوب، القارئة والكاتبة، ثمة حدود مائزة بين الأدبين، وإلا اختلط الحابل بالنابل، واستوى الطالع والنازل. وكأننا بذلك، نستبدل سلطة بأخرى، نزولا عند الشعار المعروف (الجمهور عاوز كده !).
3 ـ تأسيسا على ما سبق وتتويجا له، يعقد الباحث مواجهة ثالثة مع مصطلح (النقد)، في مساق مواجهته التفكيكية للثوابت واليقينيات، لأن "تحرير مصطلح (الأدبي) من شرط الرسمي والجليل والبليغ، سوف يحرر مصطلح النقد أيضا من هذه الشروط القسرية والتقليدية". كيف ذلك ؟!
يقول الباحث "يجب تحرير النقد من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأن المكتوب ويقلل من شأن الملفوظ ويقصر الفنيـة على الرسمي ويتعالى على الشعبي، ويكبر من الفردي ويهمل الجماعي".
ويستطرد شارحا وخالصا إلى النتيجة المبتغاة : "فإذا ما تحررت مادة النقد من جهة وأداته من جهة ثانية،  فإن ذلك سوف يكسر الجدود المفروضة ويفتح آفاق النقد على المدى الثقافي والمعرفي، ويضع النقد في حوار متفاعل مع المؤثرات القائمة فعلا في الوجود البشري".
هنا أيضا، يخضع مفهوم (النقد) لعملية تعويم إبيستمولوجية، تفيض به عن تخوم تخصصه وحقله،  لينداح طليقا عبر المدى الثقـافي والمعرفي الرحب،  حيث تتكسر الحدود والأسْيِجة المفروضة وتتفاعل المؤثرات المختلفة في الوجود البشري. ويبحر النقد، من ثم، في أرخبيل متعدد الجزر والاتجاهات.
*abdelhafid
2 - ديسمبر - 2007
آفاق ما بعد الحداثة، أم ما قبل الحداثة ؟! "تتمة "    كن أول من يقيّم
 
وإذ يتحرر الأدبي من شرط الرسمي والجليل والبليغ، يتحرر معه النقدي أيضا وبالنتيجة، من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأنه المكتوب. والشرط البلاغي بالضبط، هو الذي يخصص ويميز اللغة الأدبية عما سواها من اللغات،  سواء بمقاييس البلاغة القديمة أم الجديدة،  أي علم الأسلـوب أو الأسلوبية. واللغة الأدبية الفصيحة أو "الرسمية" حد تعبير الباحث، كانـت وما تزال هي موضوع النقد الأدبي ومادة اشتغاله كخطاب واصف أو قول على قول، وإلا لما علقت ولصفت به صفة "الأدبي" بحال.  والتحـرر من الشرط البلاغي والشرط الكتابي في وضع حساس وفسيفسائي كوضعنا، هو في آخر المطاف،  تحرر من شرط اللغة العربية ذاتـها التي من أخص خصائصها البلاغة والشعرية، تجريان منها مجرى النُّـسغ. وهذه اللغة هي مساك الـهوية العربية، وهي طوق نجاتنا المتبقى في خضم هذا اليم الكوني اللُّـجّى الفاغر أشداقه للابتلاع والاقتلاع.
وليس هذا النفث صادرا عن تلك النـزعة المتحجرة الأرثوذوكسية أو الإيديولوجية التي يشجبها الباحث على امتداد كتاباته، بقدر ما هو صادر عن جدل التحدي والاستجـابة،  والالتحام والانقسـام،  والبقاء والفناء. وهذا من قبيل البدهيات والمسلمات،  والثوابت واليقينيات، التي لا يختلف فيها، فيما أظن، اثنان عربيان، ولا يصح في الأفهام شيء، إذا احتاج النهـار إلى دليل.
4 ـ نأتي هذا إلى بيت قصيد المداخلة و"مربط الفرس" فيها، وهي الحداثة وآفاق ما بعد الحداثة، وفق صيغة العنوان.
والدكتور الغذامي، للتذكير، هو أحد فرسان الحداثة البواسل والقلائل، الذين حملوها هما وسؤالا أكثر مما حـملوها يافطـة وشعارا، على امتداد رحلته الأدبية الدؤوب. ومداخلته هذه تنصب في صميم همومـه وشواغله، وتزودنا بجديد من عنده، حول مسالة الحداثة وما بعدها. يقول في هذا الصدد :
"نحن في مرحلة (الـما بعد) : ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العصر الصناعي.
وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي، ومن ثم هي (حالة) انتقال وبحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة لم تعد الحداثة كافية للإجابة عنها".
وما سأقوم به هنا بالضبط وبإيجاز، هو (مواجهة طغيان المصطلح)، مصطلح الحداثة، (وذلك بتشريح هذا المتسلط وإغراقه بالأسئلة)، حسب تعبير ومسلك الباحث نفسه.
وأول ما يستدعي التشريح والمساءلة في الفقرة الآنفة، هو هذا الضمير النحوي الجمعي (نحن في مرحلة ما بعد الحداثة). ترى على من يعود وينسحب على وجه التحديد؟ 
نحن هنا إزاء احتمالين :
فإذا كان الباحث يتحدث من موقع المركزية الغربية بقطبيها الأوروبي والأمريكي، والأمر ليس كذلك، فإن ما قاله صحيح تماما. لأن هذه المركزية تعيش فعلا وقولا، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الكولونيالية (!)، وما بعد العصر الصناعي. وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي. وخطاب الغرب وواقعه شاهدان على ذلك.
وإذا كان الباحث يتحدث من موقع المحيط العربي الغارق في مشاكل الـهوية والمصير، والأمر كذلك، فإن قول الباحث يبدو مجانفا للواقع، أو على الأقل يحمل هذا الواقع، ما لا يحتمل، ويرى فيه ما لا يمتلك. لأن هذا الواقع، ببساطة، ما يزال يتحسس خطاه نحو عالم الحداثة ويَشْـرَئِبُّ صوْبـَها، من خلال تجربة النهوض والسقوط، والإقدام والإحجام.
ولقد أتى علينا حين من الدهر ليس بقصير، كانت فيه مقولة (الحداثة) هي المعزوفة الأثيرة والجهيرة التي تتردد على الألسن والأقلام وما تكف عن الترداد، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج..  ولكن للأسف، خرجنا من المزاد بلا زاد. وفي ظني أن الجدل الذي ثار نقعه حول إشكالية الحداثة والاشتجار الفكري والنقدي والإبداعي حول أسئلتها، في سياقنا العربي، هما على حد تعبير لويس بورخيس "كالعراك الذي يجري بين أصلعين من أجل مشط !".
لماذا ؟!
لأن (الحداثة)، كانت واحدة من المقولات التي ارتحلت إلينا من الشط الآخر، دون أن نقوم بتكييفها وتمثلها وتبْـيِـئتها، حد تعبير إدوار سعيد ولأن التربة لم تكن مهيأة لغراسها والبـُنى التحتية لم تكن ملائمة لاستقبالـها.   أي أننا، وخلافا لما ذهب إليه الباحث، لم نجز بعد العصر الصناعي، ولم نتخط لحظة البنيوية ولا الحداثة، ولم نتخلص من ربقة الكولونيالية، ولم نصل إلى حالة الانكسار المعرفي. أي أننا، بعبارة، لم نجد بعد أجوبة شافية لأسئلتنا القديمة المزمنة. الشيء الذي يجعل حداثتنا في نـهاية التحليل، حداثة لُـوغوسية، نظرية وفوقية، أكثر مما هي حداثة أميريقية وقاعدية. والشيء الذي يدعونا تاليا، إلى التفرقة والتمييز بين الحداثة Modernité والعصرية Modernisme وفق مقاربة هنري لفيقر.
ذلك أن العصرية "هي الوعي الذي تكونه عن نفسها العصور والحقب والأجيال المتتالية. فالعصرية بذلك تتمثل في ظاهرات الوعي وفي العصور وإسقاطات الذات، وفي التمجيدات المصنوعة من أوهام كثيرة ونفاذ محدود إلى لب الأمور".
أما الحداثة فهي "تفكير بادئ وتخطيط أولي تتفاوت جذريته، للنقد والنقد الذاتي. إنـها محاولة للمعرفة… إننا ندرك الحداثة داخل مجموعة  من النصوص والوثائق تحمل بصمة عصرها، ولكنها مع ذلك، تتعدى الدعوة إلى الموضة والجديد".[4]
ونحن، كعرب، نعيش العصرية Modernisme باعتبارنا أبناء لـهذا العصر، نتنفس هواءه ونساوق تياره وأنواءه. ونعيش الحداثة Modernité كمقولة ثقافية تطوف بالذهن وأشواق حرَّى تخالج الوجدان. أي نعيشها كمناخ للوقت L’air de temps حسب التعبير الفرنسي، ليس إلا.
ومن ثم، فإن السؤال الأساس الذي يواجهنا ويبادهنا في تصوري، ليس هو سؤال (ما بعد الحداثة)، بل هو سؤال (الحداثة) ذاتـها.
هل ثمة حداثة عربية فعلا، وسط طوفان الحداثة  الغربية الكاسح؟!
إن السؤال بصيغته هذه، يتضمن قلقه ومأزقه، كما يتضمن إحساسا ضاغطا بضرورة إعادة النظر في مقولة الحداثة،  والتشريح النقدي لحقائقها وأوهامها، والرصد اليقظ لأسئلة ما بعد الحداثة، كما تتجلى أساسا عند الآخر، في الغرب، مع الإصغاء العميق لخوالج الذات ومواجعهـا، وذلك لأجل الخروج العربي من أفق ما قبل الحداثة، والدخول الفعلي في أفق الحداثة، بعد استكمال العدة والعتاد وتـهيئ التربة للغرس والحصاد، كيـلا تتحول الحداثة، كما قال جان بودريار، إلى مجرد بلاغة "تنتشر وسط التباس تام داخل مجتمعات العالم الثالث، لتعوض عن التأخر الحقيقي وعن غياب التنمية".[5]
والحداثة، كما نعلم، هي قرينة وثمرة العلم الحديث في أعلى مستوياته وآخر ابتكاراته. وفي عرض بولين ماري روزيفو، الذي استنـد إليه الباحث لرصد ونقد حالة الانكسار المعرفي الذي تسبب في النقلة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، تشكل مقولة (العلم الحديث) اللازمة المتكررة في النقاط الخمس التي تعرضها الباحثة كمفاصل لنقد الحداثة ومداخل لما بعد الحداثة. والعلم الحديث بالضبط، في عالمنا العربي، هو ذلك المفقود المنشـود. هو ذلك الذي يأتي ولا يأتي.
فكيف تُـرى، تكون حداثة بدون علم حديث ؟! لكن للسؤال، عند باحثنا الكريم الدكتور الغذامي، صيغة أخرى. يقول في ختام مداخلتـه: "والسؤال الآن :
هل نستسلم للغرب في نقلاته السريعة… أم نتوقف عند الحداثة لنشبع نـهمنا منها أولا ثم ندخل ـ بعد ذلك ـ في حفلة الترف الفكـري الغربي ؟!".
ويأتي الجواب من عنده، حاسما كالتالي :
"إننا نحن اليوم في غمار عصر (ما بعد الحداثة). إننا فيه، في داخله وفي روحه وفي لغته، ولا معنى لطرح أسئلة زائفة لا تقوى على تقرير شـيء. والأجدر بنا هو أن نحث الخطى في مجاراة مخلصة للعصر وأن نزيـد من خطانا ونضاعف منها، فلعل ذلك يساعدنا على الوصول إلى الصفـوف الأولى في سباق الفكر والمعرفة".
وأعتقد أن مسلكا كهذا، سيجعلنا دوما في الصفوف الخلفية، من حيث نريد الـهروب إلى الأمام.  لأن "المجاراة" غير "المباراة". والمباراة هنا وإن تمت، غير متكافئة وغير عادلة. ولأننا ببساطة جارحة لنرجسيـة الذات، نعيش على هامش الحداثة، لا في غمارها وداخلها وروحها ولغتهـا.   ولا يخفف من هذا الواقع المر قـول الباحث، بعدئذ، إننا "نستطيع أن نستغل ظروف التغيير لصالحنا"، فهو من قبيل الطموح النبيل والتمني الجميل.
وما كل ما يتمنى المرء يدركه  
                          تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ونستطرد مع المتنبي العظيم، فنقول بلسانه الحكيم :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
                          إن السفينة لا تجري على اليبس.
والسؤال مرة أخرى وأخيرة، هو كيف ننقل سفينة حداثتنا من اليبس إلى الماء، وكيف نقيها خطر الأمواج والأنواء ؟!
وتحية شكر وتقدير للباحث المقتدر الدكتور عبدالله محمد الغذامي، الذي استثار لدينا هذه الشجون الفكرية، وأغرانا بهذا الشغب النقدي، مستحضرين، كمسك ختام، تلك القولة المأثورة لابن تيمية في تعقيبه على ابن حزم "وأبو محمد كبير عندنا، ولكن الحق أكبر منه".
 

 
* مداخلة ساهم بـها الغذامي في ملتقي خاص بالنقد الأدبي في الخليج.
1 ـ عنوان كتاب للدكتور الغذامي.
2 ـ عنوان كتاب آخر له.
3 ـ عن، الأدب والغرابة، لعبدالفتاح كيليطو، ط. 1 ـ 1982، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت. ص 19.
4 ـ اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، لمحمد برادة، مجلة فصولـ المجلد الرابع ـ العدد الثالث، 1984. وملاحظة هنري لوفيقر، مستقاة من كتابه السجالي / مدخل إلى الحداثة.
Introduction a la modernité, p. 169.
5 ـ المصدر السابق، ص 16.
*abdelhafid
2 - ديسمبر - 2007
مبدعون مغتربون    كن أول من يقيّم
 

القول بهزيمة المشروع التنويري صحيح أما القول بعدم مشروعيته فهو بلا معنى

فيصل دراج: ربيع الرواية العربية زائف وأصحابها مغتربون يكتبون لقراء مغتربين

اسكندر حبش:

فيصل دراج ناقد بالدرجة الأولى، لكنه النقد الذي يستند إلى رؤيا فكرية تجعل الناقد مفكراً ومنظراً. إنه النقد الذي يؤسس لنظرية كاملة تجمع الفني الى الاجتماعي الى السياسي والايديولوجي، النقد الذي هو موقف نقدي من الانسان والدولة والمجتمع والثقافة، كان لنا معه هذا اللقاء.
يمر المشروع النهضوي اليوم بظروف خطيرة، يبدو فيها وكأنه فقد مشروعيته وحضوره؟ برأيك ما الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الخفوت وهل تعتقد أنه يمكن له أن يعود ليحضر مجدداً؟
﴿ سؤال معقد ويستلزم إجابة طويلة وناقصة ومجزوءة في الوقت عينه. الأسباب التي أدت إلى انهيار المشروع النهضوي كما لو كان ذكرى بعيدة. يمكن أن تختصر بأربعة أسباب رئيسية: الأول هو أن هذا المشروع جاء منذ البداية مرتبكا وملتبسا ومتناقضا فمن المفترض أن الحديث عن النهضة يعني التوجه إلى المستقبل والقبول بالقيم الكونية والتحرر من الماضي بعد قراءته بشكل عقلاني. لكن هذا الأمر لم يتحقق إلا لدى مفكرين تقريبا هما قاسم أمين وطه حسين وما عدا ذلك فقد استمر التوفيق بين التطلع إلى المستقبل والحنين إلى الماضي البعيد والقبول بالتنوير الأوروبي وبالفكر الإسلامي. الأمر الآخر هو أكثر خطورة جاء من صعود النزوعات الإيديولوجية ابتداء من أول أربعينيات القرن الماضي وأعني بذلك القومية والماركسية. فعوضاً أن ترى هاتان الإيديولوجيتان في التنوير الأول بداية ممتازة ينبغي تطويرها وإغناؤها ونقدها فقد قام القوميون كما الشيوعيون بالقفز كلية فوق طه حسين وغيره على اعتبار أن هذا التنوير ارتبط بالاستعمار والقوى الاجتماعية التابعة. وواقع الأمر أن الوعي التاريخي البصير والخصيب الذي تمتع به طه حسين افتقر إليه كليا هؤلاء القوميون والماركسيون مستبدلين بالمنطق التاريخ، منطق الانقلاب منجزين في النهاية أمرين: تدمير أو تهميش معطيات التنوير الأول والانتقال السعيد والسريع من المنطق العلمي والمعطيات الموضوعية إلى المقولات التبشيرية والشعارات الكبيرة. تمثل الأمر الثالث في الدور التدميري الذي أنجزته دولة التحرر الوطني التي طبقت سياسة تقوم على الإفقار الشامل: الإفقار الثقافي والسياسي والإفقار الفكري والإيديولوجي، مستعيدة شعار واقع الرعية الذي تميزت به فترة السلطنة العثمانية ومستعيدة بذلك أيضا تلك الثنائية البائسة عن وحدة السلطة والثروة، ولأن هذه السياسة في أشكالها المختلفة احتاجت الى القمع كسياسة موسعة فإن هذا القمع، كما استمراره لعقود طويلة، اجتث تقريبا كل المراجع الضرورية للفكر التنويري او العقلاني أو النقدي. وبهذا المعنى فإن الانقلاب الشامل على فكر التنوير لم يأت لا من الاستعمار ولا من الصهيونية ولا من القوى الحاكمة التقليدية وإنما من دولة التحرر الوطني ذات الشعارات الكبيرة وأولها الناصرية. السبب الأخير يقوم في قدرة السلطة المُجهّلة والقمعية والمعادية للنقد والثقافة والمعادية أكثر لمفهوم الفرد والعقل المستقل في »انجاب« مجتمع هو على صورة السلطة، ولهذا فإن الإقصاء الكلي للتنوير اليوم موجود لدى السلطة ولدى المجتمع ولدى المعارضات بأشكاله المختلفة، وهذا التجانس بقي في التحديد الأخير موت المجتمع والذهاب إلى الفكر القدري بأكثر أشكاله بؤساً والى الفولكلور الديني الذي لا علاقة له بالدين ضرورة.
ينبغي التمييز بين القول بهزيمة المشروع التنويري، وهذا واقع أكيد والقول بفقدانه شرعيته وهذا كلام ليس له أي معنى على الإطلاق. وذلك لسببين أولها أن جميع البدائل السياسية والثقافية والإيديولوجية التي رفضت التنوير انتهت إلى الإفلاس والخراب والبوار، وثانيهما أن المجتمع العربي اليوم لن يستطيع الوقوف ـ هذا إن استطاع الوقوف ـ إلا بالعودة النقدية إلى المقولات التنويرية من حيث هي مقولات كونية، وأعني بذلك القبول بسببية المعرفة والحوار المجتمعي وحقوق المواطنية والاعتراف المتبادل بين المجتمع والسلطة وبين القوى الاجتماعية ذاتها.
وعلى الرغم مما وجه من النقد الشديد لكتاب »مستقبل الثقافة في مصر«، فأنا أعتقد أنه الكتاب الأكثر راهنية اليوم من وجهة نظر عقلانية ووطنية ومسؤولة.
الإجهاض
÷ يثير جوابك الكثير من الأسئلة التابعة، أولاً كيف تفسر أن عملية الإجهاض الثقافية الشاملة جاءت من أحزاب تدعي بأنها أحزاب ثقافية بالأساس؟ ثانيا هل يمكن الحديث عن راهنية طه حسين، بمعنى ماذا فعلت الثقافة منذ تلك الفترة ولغاية اليوم، ألم تستطع إعادة طرح أسئلة خاصة بزمننا الحالي؟
﴿ هذا النوع من الحوار يبقى في جميع الحالات مربكا لأن الأسئلة جزئية بشكل أو بآخر، ولأن الإجابات أيضا تبقى في جميع الحالات جزئية. بما يخص الأحزاب وأعني بذلك الأحزاب القومية والماركسية، أعتقد أنها كانت تنطلق من إيديولوجيا عامة أكثر من انطلاقها من تصور علمي للعام كما كانت تريد أو تقول أو تزعم أو ترغب الخ... فلو انطلقت فعلا من تصور موضوعي للمجتمع والقضايا الاجتماعية ومن سياسة ثقافية مشخصة لكان عليها أن تقوم بدراسة المرافق الاجتماعية في وجوهها المختلفة. مشكلة الفلاحين، العمال، المرأة، الجامعات، الطلبة، التراث، الخ... لكنها عوضا عن أن تقوم بتمييز الأسئلة اكتفت بالعمومية الإيديولوجية التي هي مجموعة من الشعارات: الحرية، القومية، الاشتراكية، تحرير فلسطين، هزيمة الاستعمار، ولأن المثقف الحقيقي أو المثقف بالمعنى الموضوعي لا يتكيف كثيرا مع العمومية الإيديولوجية فقد كان على هذه الأحزاب أن تقوم بطرد متواتر لمعظم المثقفين. الأمر الآخر أن هذه الأحزاب القومية والماركسية أو الشيوعية بأشكالها المختلفة أسست من قبل مثقفين بشكل أو بآخر. قسطنطين زريق كان مثقفا وكذلك ميشال عفلق ورئيف خوري وبشير الحاج علي في الجزائر، لكن تطور البنية الحزبية في هذه الأحزاب التي استلهمت بشكل سريع وبدون تحفظ شعار المركزية الديموقراطية واعتبارها أن هناك مثالا جاهزا ينبغي أن يحاكى مثل الحزب الشيوعي البلغاري على سبيل المثال، جعل هذه البنية في حد ذاتها طاردة للثقافة، ولذلك لا يمكن اعتبار قسطنطين زريق مسؤولا عن موقف القوميين العرب من المثقفين بعد أن تمأسس أو تعسكر ولا يمكن أن نعتبر أنور عبد الملك او رئيف خوري أو كامل عياد مسؤولاً أيضا عن أداء هذه الأحزاب وموقفها من الثقافة. وواقع الأمر أن نهاية الأربعينيات الذي جاءت بالتحرر الوطني ثم الوصول لاحقا وصعود المقاومة الفلسطينية أنتج أولا وأخيرا حركات شعبوية تطمئن إلى الشعارات العامة ولا تحتاج الثقافة أصلا. وهذا ما يفسر السهولة المروعة في التفكك السريع والتراجيدي لهذه الأحزاب التي لم تكن أحزابا حقيقية. التجمعات التي حملت معها جميع أمراض المجتمعات المختلفة مثل العشائرية والقبلية والطائفية.
هذه الأحزاب بسبب مفهومها الانقلابي وفقر وعيها التاريخي احترفت منذ البداية التحالف مع السلطات كل السلطات، وهذا ما قام به الحزب الشيوعي المصري في الستينيات عندما حل نفسه، والذي مارسته أحزاب كثيرة أخرى من دون أن تعلن أنها حلت نفسها، لا غرابة والحال هذه إن كنا قد رأينا أن الكثير من الماركسيين شكلوا امتداداً للسلطة وأن الكثير من الأحزاب اليسارية هي مجرد ملحقات سلطوية لا أكثر. فإذا كانت السلطة المسيطرة قد ألغت الفضاء السياسي أو المجتمعي الذي هو شرط الحوار ونمو العقل والثقافة فإن هذه الأحزاب التي حلت نفسها بشكل واضح أو مضمر ساهمت أيضا في تدمير وتحطيم القضاء السياسي المطلوب لكل مجتمع حديث.
أما الشق الآخر من السؤال ولا أقول إطلاقا إن الثقافة العربية الداعية إلى التنوير قد توقفت عند طه حسين، فهذا كلام لا معنى له بل فيه، بلغة طه حسين، السخف والكثير من السخف. لقد كان هناك قسطنطين زريق وهو مفكر كبير جدا وخاصة في كتابه الرائد »نحن والتاريخ« وهناك الياس مرقص وياسين الحافظ وهناك عبد الله العروي وبعض محاولات الجابري وفؤاد زكريا وكتابات الماركسي الراحل ميشال كامل، بالإضافة طبعا إلى سمير أمين، لكن الفرق الأساسي بين هؤلاء المثقفين أنهم شكلوا بعد هزيمة ٦٧ حالات فردية متمردة نقدية تنويرية وذلك في سياق أصبح معاديا للتنوير. في حين أن ما ميز طه حسين هو جرأته على التقدم بمشروع اجتماعي ثقافي سياسي شامل. وبسبب ذلك كان يربط ما بين اجتهاده النظري وفكرة التحويل الاجتماعي بينما اكتفى من جاء بعده بتقديم أفكار متفرقة هنا وهناك، تحت هذا الموضوع أو ذاك. وواقع الأمر أن هزيمة ٦٧ هي أمر يريد أن يتجاهله الكثيرون وقد شكل هزيمة صاعقة أو كلية لجميع الأفكار التي تميل إلى التحرر ولهذا لم يأخذ المفكر الكبير العروي على سبيل المثال، وهو أكثر عمقا في بعض النقاط من طه حسين، المكانة التي أخذها عميد الأدب العربي ذلك أن هذه الهزيمة جاءت بصعود التيارات الدينية التي ساوقها كما نعلم جميعا صعود غير مسبوق لحضور الأجهزة السلطوية في المجتمع وهذا أدى إلى هزيمة الثقافة والتنوير والمثقفين. ينبغي القول إن دور الثقافة الاجتماعي لا يقاس بالمثقفين كأفراد سواء أكانوا لامعين ام غير لامعين، بل ينبغي النظر إليهم كعلاقة اجتماعية بين جملة علاقات اجتماعية أخرى. فلا الكتابة ينجزها فرد، إذ أنها تحتاج إلى القارئ وهذه علاقة اجتماعية كبرى مثلما أن القارئ يتحدد بالتربية والغناء الاجتماعي السياسي وأفكار الاعتراف والاعتراف المتبادل الخ... القول الأخير إن طه حسين كان في سياق اجتماعي يلبي ولو جزئيا المشروع الثقافي السياسي بينما وجد المثقفون التنويريون لاحقا بعد هزيمة ٦٧ في سياق اجتماعي مختلف يهزم جميع أنواع الثقافة بالمعنى الأخلاقي والنبيل.
ولكننا نعاني اليوم أيضا من سياق اجتماعي مختلف. لم تعد الأصولية الدينية مجرد فكرة مطروحة، بل أصبحت واقعاً لا نستطيع تخطيه. بمعنى آخر، ثمة ثقافة أخرى اليوم تبدو وكأنها كسبت حربها ضد الثقافة التنويرية؟ ماذا تستطيع هذه الأخيرة بعد؟
﴿ لا اعتقد كلياً أنه ينبغي الفصل بين الأصولية الدينية وبين الأصولية السياسية التي تحكم العالم العربي، فالقول بأن هزيمة الثقافة تعود إلى الفولكلور الثقافي الذي أنتجته القوى الأصولية لا يكفي. ذلك أن الدولة أو السلطة التي تملك الرقابة والأجهزة التعليمية والإعلامية والمدرسية وتضع شروط إنتاج الكتاب وطبعه وتوزيعه وتحديد ثمنه، إن هذه السلطة هي المسؤولة أولا، ليس عن انتشار الفولكلور الثقافي ولكن إنتاج بشر مستقيلي العقول، وعلى هذا فإن الأصولية الدينية هي الوجه الآخر للأصولية السياسية في العالم العربي وهما وجهان متكاملان، موحدان، متحالفان، على الرغم مما يبدو من خلاف وتناقض بينهما وكل منهما ترفض فكرة الإنسان المستقل والعقل النقدي المستقل وكل منهما تنشر شروط إنتاج الجماعة وإعادة إنتاجها أي إنتاج الرعية عوضا عن إنتاج مفهوم الشعب المرتبط بمفهوم حقوق المواطنة والمجتمع المدني والديموقراطية. لا غرابة أن يتوازع هذان الطرفان أي الأصولية الدينية والأصولية السياسية محاربة العقل والثقافة والنقد والفنون والشعر والرواية الخ...
أكثر من ذلك أن المجتمع العربي اليوم يعيش ما يمكن أن يدعى بالأزمة العضوية الشاملة التي تعني أن السلطات عاجزة وراكدة ومراوحة في عجزها وركودها وأن القوى الأصولية تنتج فكرا يقوم بإعادة إنتاج هذا العجز والركود، وهذا ما يجعل المجتمع العربي يدخل في سيرورة سريعة أو بطيئة من التفكك والانحلال حيث المجتمع هو مجتمعات والطائفة هي طوائف والقبيلة قبائل...
إن دور الفكر التنويري في السياق الراهن الذي نعيش هو ليس تقديم بديل اجتماعي سياسي شامل كما كان يفعل المثقفون في زمن مضى بل الاكتفاء بنقد واضح وموضوعي لممارسات السلطات السياسية التي تقوم بتدمير المجتمع وهي حالة من الحالات القليلة في التاريخ، وهذا ما يجعل المعارضة على صورة السلطة والسلطة على صورة المعارضة والمجتمع على صورة الاثنتين معا. إنه زمن الاكتفاء بالنقد الجزئي والاشارة إلى الأساسيات مثل حق الإنسان في الرغيف ومعنى الكرامة الوطنية وضرورة احترام القانون الذي كان موجودا خلال الفترة الاستعمارية والتمييز بين الجامع والجامعة والاعتراف بان علم الكيمياء لا يشتق من التراث وأن الشعر الحديث ليس دعوة استعمارية وأن الدفاع عن الفردية ليست زندقة وليست خيانة وطنية وأن الدفاع عن حقوق الكلام والتعبير والفنون هو أمر إنساني موجود لدى جميع المجتمعات.
الرواية في مرحلة تكوين
أنت اليوم واحد من أبرز نقاد الرواية في العالم العربي، هل تعتقد أن الرواية في العالم العربي استطاعت أن تؤسس حضورها الفعلي أم ما زالت بعد في مرحلة تكوين ما؟
﴿ كثر الحديث في السنوات العشر الأخيرة عن ازدهار الرواية العربية او عن زمن الرواية بشكل عام. أعتقد أن الرواية العربية ما زالت في مرحلة التكوين وحتى لا أبدو متجنيا يمكن النظر إلى وضع الرواية في الكثير من البلدان العربية. هناك السودان التي حظها من الرواية قليل وقليل جدا والخليج العربي بشكل عام، وعلى الرغم من وجود أسماء مجتهدة، لا يزال في بدايته الروائية ولا أعتقد أن الرواية الجزائرية في طور ازدهار على الرغم من محبتي العالية لواسيني الأعرج، أما الرواية العراقية فقد انتقلت إلى المنفى والرواية الفلسطينية في طور الحصار. ما ينبغي أن أقوله إنه لا وجود للرواية العربية كظاهرة ثقافية ابداعية مزدهرة بل هناك وجود لمجموعة من الروائيين العرب المبدعين ومنهم مبدعون كبار. هناك ملاحظة أخرى، أنني كناقد متابع للرواية بشكل مجتهد نسبيا، لا أعتقد أن العالم العربي ينتج في العام أكثر من ٤ أو ٥ روايات عالية المستوى. هناك أمر آخر باستثناء الحالة اللبنانية التي اعطت في العقدين الأخيرين جملة أسماء مرموقة »هدى بركات، علوية صبح، ربيع جابر« وآخرون، فإن الرواية العربية لا تزال مستمرة وبفضل جيل من الروائيين ـ والمصريون منهم بخاصة ـ جاءوا من فترة الستينيات. الغيطاني وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر والبساطين، ولهذا فإن المحاولات الروائية المصرية الجديدة التي أعقبت مرحلة ما بعد محفوظ لم تعط حتى الآن شيئا كثيرا باستثناء أسماء قليلة جدا. وبما أنني أضع الرواية في إطار المحاولات الفردية المبدعة وليس في إطار الظاهرة الثقافية الواسعة، أستطيع أن أقول إنه ظهر في الأردن في السنوات الخمس الأخيرة رواية جيدة لإلياس فركوح وظهر في سوريا ٣ او ٤ روايات جيدة في السنوات العشر الأخيرة لممدوح عزام وفواز حداد وخالد خليفة صاحب العمل الممتاز »مديح الكراهية«، ولهذا عندما أتحدث عن اتساع الرواية العربية استعمل كلمة الربيع الزائف، لأنه ينبغي التمييز بين الكمي والكيفي ومثلما ما زلت أعتقد، وآمل أن أكون محقا، أن طه حسين هو العقل النقدي الأكبر في القرن العشرين فأنا أعتقد أيضا ان نجيب محفوظ لا يزال الوجه الأكبر في الرواية العربية علما أن عمله الكبير الأخير هو »الحرافيش« الذي كتبه في العام .١٩٧٧
إذا احتكم الإنسان إلى معايير المعرفة الأدبية بالمعنى العميق فسيجد أن المساهمة الشعرية أكثر عمقا ونفوذا وتطورا من الإبداع الروائي، على الرغم من ضمور جمهور الشعر منذ عشرين عاما على الأقل.
ماذا تعني كلمة الرواية العربية، ما المقصود بها، كيف تعرّفها؟
﴿ الرواية العربية هي الرواية المكتوبة باللغة العربية لا اكثر ولا أقل. ذلك أن الرواية جنس أدبي ديموقراطي كوني وأن القيم التي يلتزم بها هي قيم كونية وأن هويته الحقيقية ان كان لكلمة الهوية معنى محدد، هو الدفاع عن الحرية. الرواية العربية هي فقط الرواية المكتوبة بالعربية أما القول إن هذه الرواية لها مصادر ومراجع في الأدب العربي القديم أو أن هناك شكلا ومضمونا عربيين كما القول بأنه ينبغي ان يكون هناك نقد خاص بالرواية العربية هذا كلام ليس له معنى أو فقير المعنى على الأقل. الهوية الظاهرية للرواية العربية هي اللغة وهويتها الحقيقية هي ممارسة الحرية داخل الكتابة والدعوة إلى الحرية خارج الكتابة.
جزء كبير من عملك النقدي ارتكز على قراءة الرواية والتاريخ. هل تعتقد أن الرواية هي تاريخ ما؟
﴿ عندما أربط باستمرار بين الرواية والتاريخ فأنا أشير إلى ٣ عناصر: الأول، الرواية ظهرت تاريخيا في زمن صعود علم التاريخ (القرن ١٨) معلنة أن العقل المبدع هو الذي يميز باستمرار بين الحاضر والماضي. العنصر الثاني هو ان الخصوصية العربية بمعنى الهيمنة الاستعمارية السابقة وأنظمة القمع لاحقا أجبرت الروائي العربي عن التعامل باستمرار مع التاريخ سائلا بشكل مباشر أو غير مباشر عن أصول الدولة المستبدة. فتوفيق الحكيم عاد إلى التاريخ في روايته »عودة الروح«
وعين نجيب محفوظ نفسه سكرتيرا للتاريخ وهو يؤرخ لمراحل المجتمع المصري روائيا في القرن العشرين واندفع القومي المهزوم عبد الرحمن منيف الى التاريخ ليكتب خماسيته الشهيرة عن »مدن الملح« ورجع نبيل سليمان إلى التاريخ وكتب »مدارات الشرق« وعاد بهاء طاهر في عمله الأخير »واحة الحروب« الى التاريخ... ان العودة الى التاريخ بهذا المعنى لا تعني ولعا بالماضي بل هي ضرورة منطقية تاريخية أراد بها الروائي معرفة الأسباب التي أدت إلى الخيبة العربية الشاملة. أما السبب الثالث الذي يجعلني أربط بإصرار بين المؤرخ والروائي فهو ان الرقابة السلطوية العربية المشددة في جميع المجالات الغت علم التاريخ كعلم وألغت دور المؤرخ الموضوعي وهو ما جعل الرواية العربية، في نماذجها الشرقية هي النص الوحيد الذي نقرأ به تاريخ العالم العربي في القرن العشرين.
كيف تنظر الى المستقبل، مستقبل الرواية ومستقبل الفكر التنويري؟
﴿ مستقبل الرواية العربية مستقبل مليء بالمفارقة فهي ستنمو وتتطور على مستوى الكتابة والتقنية وتطوير الأشكال بالمعنى الايجابي طبعاً، ولكن موقعها سيتحسن في اطار القراءة الاجتماعية ولذلك فهي جنس أدبي مغترب يكتبه مبدعون مغتربون لقراء مغتربين أيضا. فاذا كانت الرواية كما نعلم جميعا مرتبطة حميميا بالمجتمع المدني والديموقراطية وامكانية التخييل والذهاب الى المستقبل ونفي اليقين والقول بالاحتمال وتعددية التأويل واستعمال اللغات المختلطة... فان المجتمع العربي اليوم ينبذ هذه العناصر جميعها. اما مستقبل التنوير فهناك ٣ عناصر الاول هو انه لحسن الحظ يوجد بلغة ما، موروث ثقافي تنويري عربي يمكن الذهاب اليه والتعامل معه وتصديره أي أننا لا نبدأ من الصفر، وهناك ثانيا عولمة العالم وهذا ما يجعل المجتمعات العربية رغم انحطاطها ليست بمنجاة كليا من تغيرات العالم المتغير التي ستترك بشكل او بآخر آثارها على المجتمع العربي. وهناك ثالثا الأمل تلك الكلمة الغربية التي يحتاجها جميع المضطهدين في العالم ذلك ان الأمل ضروري لهؤلاء الذين لا أمل لهم، ونحن منهم. وكما قال محمود درويش فإن علينا اليوم أن نتقدم بـ»تربية الأمل«.

* عن السفير اللبنانية بتاريخ 26/09/2008

*ضياء
26 - سبتمبر - 2008