ويسألونك عن " ابن صفور".
:" بلية البلايا في تراثنا القديم التصحيف ، وخاصة في أسماء المواضع ؛ حيث لا توجد قرينة في الكلام توضح الوجه الصحيح ..". (أقول: وكذلك أسماء الأعلام؛ فليس قبلها ولا بعدها ما يدل عليها)
العلامة حمد الجاسر ـ رحمه الله ـ
يعتبر قاضي الجماعة أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن رشد القرطبي المعروف بـ ابن رشد الحفيد (520ـ 595هـ)، حكيم الأمة الفيلسوف الطبيب ، الفقيه النظار، أحد الأعلام الذين تفتخر بهم الحضارة الأندلسية الإسلامية ..وأحد الأساتذة الكبار الذين انتفع بهم الفكرالغربي.
وقد كان في اجتهاده في الطلب والتحصيل على غاية عظيمة ؛ بحيث حكي أنه لم يدَع النظر ولا القراءة مدة حياته إلا في يومين : يوم وفاة والده، ويوم بنائه بأهله.
وقد خلف ـ رحمه الله ـ مصنفات جليلة في مختلف العلوم من الطب والفلسفة ، والعربية والفقه وهي معروفة مشهورة ، والذي يهمنا في هذا المقال منها كتابه العظيم المعروف بـ "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"
الذي يقول فيه ابن الأبار :" كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، أعطى فيه أسباب الخلاف وعلل ووجه،فأفاد وأمتع به، ولا يعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساقا ".
وقال فيه الحجوي :" وله بداية المجتهد المطبوعة المتداولة ؛ دالة على باع وكمال اطلاع على اختصارها، وبدايته نهاية ُغيره ".
ينظر: التكملة لابن الأبار(2/73)، والفكر السامي 2/267
ولأن هذا الكتاب يتمتع بمزايا عديدة كحسن التصنيف والترتيب، وذكر الخلاف ، والتعليل والموازنة ، وكونه مرجعا مهما بين كتب الفقه، فقد اشتهر تداوله في هذا العصر، واعتمد تدريسه في كثير من الجامعات ، ومع أهميته البالغة فلم يخدم على الوجه المطلوب ، بل صدرت له عدة طبعات ، ليس منها طبعة متقنة محررة مبرأة من التحريف والتصحيف بل كل طبعة تعتمد على سابقتها، فتقع في نفس الخطإ أو قد تزيد ، ولا أدل على ذلك من هذا التحريف الشنيع، والتصحيف البديع الذي لم يزل ينتقل من طبعة إلى أخرى من غير أن ينتبه إليه ، أو يكشف عنه..واستغلق أمره على الذين حققوا الكتاب أو درسوه ..
فقد عرض لي ذات مساء أحد الإخوة يسأل ـ وعلائمُ اليأس بادية على وجهه، ودلائل الإحباط ظاهرة في جبينه ـ : هل فيه عالم يسمى " ابن صفور" ?
ـ ولماذا "ابن صفور" ?
قال: إن مدرس الفقه قال لنا: إنه منذ سنين يبحث عن ترجمة لهذا الرجل فلم يظفر بشىء ، وقد صرح بهذا في الفصل أمام الطلاب، وقال: من يأتني بترجمته فله كذا وكذا ...?
وطفقت أتذكر، من سيكون ابن صفور هذا ?
ولكني في الحقيقة لم أهتم به كثيرا، ألقيت نظرة عجلى على المصادر التي تحت يدي في تراجم علماء الأندلس، أو طبقات المالكية ، أو الأعلام على العموم فلم أجد شيئا
وقلت لصاحبي: لم أقف على شيء ثم افترقنا؛ بيد أن صدى هذا السؤال لم يزل يتردد في سمعي ، ويجول في خاطري مما جعلني أستأنف البحث من جديد : من سيكون (ابن صفور) هذا ?
فرجعت أولا إلى بداية المجتهد لأقف على النص الذي ورد فيه ذكر (ابن صفور)، وكيفية وروده ، والسياق الذي سيق فيه.
وقد ورد في (كتاب الضحايا / المسألة الثانية: وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا )، وأذكر النص هنا بتمامه لتضح الصورة في ذهن القارئ .
قال ابن رشد :" وقد صحح هذا الحديث أبو بكر ابن صفور، وخطَّأ أبا محمد ابن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم ".
و من خلال تأمل هذا النص يتميز لنا (ابن صفور) هذا بأمرين :
ـ أولا: المدة الزمنية وأنه من أهل القرن الخامس أو السادس الهجري قطعا من غير شك ؛ لأن ابن رشد الحفيد المتوفى سنة (595هـ) ينقل عنه ، فهو سابق له.
وهو يناقش ابن حزم المتوفى سنة (456هـ) ويرد عليه ؛ مما يعني أنه معاصر له، أو جاء بعده.
وثانيا: الاختصاص. فرجل يرد على ابن حزم ويناقشه في علل الأحاديث والتخريج ...إلخ لا بد أن يكون من المحدثين الحفاظ.
ـ مراجعة طبعات:" بداية المجتهد".
وقد وضعت هاتين الملاحظتين نصب عيني قبل الشروع في البحث ، ولكني آثرت الرجوع قبل ذلك إلى " بداية المجتهد " في طبعاتها المتعددة، المحققة وغيرها لعلي أظفر بما يحل هذا الإشكال، ويزيل اللبس، ويكفيني عناء التخمين، ومشقة التفتيش ، وبدأت أراجع الطبعة الأولى والثانية ...طبعة فلان، وطبعة فلان ، لأرجع في النهاية بدون أي نتيجة ، ورجعت كما بدأت والإشكال ما زال قائما، ووجه الصواب كذلك غائما، كما قال الشنفرى:
فأيمتُ نسوانا وأيتمْتُ إِلْدةً * وعدتُ كما أبديت والليل ألْيَل
وإليك بيان بما في الطبعات التي وقفت عليها:
1 ـ نشرة مكتبة الكليات الأزهرية (1 /453) وكتب ناشره في الحاشية :" هكذا بالأصل ، وليحرر ".
2ـ وفي طبعة دار الكتب الإسلامية تـ: عبد الحليم محمد عبد الحليم ط2، 1403هـ (1/504) مثله (وليحرر)
3 ـ وفي الطبعة التي شرحها الشيخ عبد الله العبادي (2/1074) قال: " هكذا في الأصل (صفور) في جميع االنسخ ".
4 ـ وفي طبعة دار الكتب العلمية بتـ: علي محمد معوض ، وعادل عبد الموجود (4/84) ، لم يعلقا عليه بشيء مع كثرة الحواشي والتعليقات في تحقيقهما.
وهكذا ليس في كل منها ما يشفي الغليل ، ويروي العليل...
ثم إني صرفت البحث إلى وجهة أخرى فجعلت أستعرض الأعلام الذين كانت لهم ردود على ابن حزم من غير أن أغفل الملحوظتين السابقتين ـ أعني أن يكون من أهل القرن 5أو 6 هـ ، وأن يكون محدثا ـ فكان فيمن وجدت منهم الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن حيدرة بن مفَوِّز المعافري الشاطبي المتوفى سنة (505هـ)
وله كتاب في الرد على ابن حزم
. قال فيه ابن الأبار في المعجم ص(/94): " أحد الحفاظ ـ بل خاتمتهم بالأندلس ـ للحديث وعلله ، المبرزين في صناعته؛ معرفة بمعانيه، وحفظا لأسماء رجاله مع الضبط والتحرز والإتقان ...وله : رد على أبي محمد ابن حزم، ـ قد رويتُه قراءة على بعض شيوخنا ـ ، وكلام على قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن خالدا قد احتبس أدرعه في سبيل الله " وكلاهما أفاد به ".
. وترجم له الذهبي في : سير أعلام النبلاء 19/421 وفي تذكرة الحفاظ 4/1255 ثم قال: وله رد على ابن حزم رأيته .
. كما ترجم له ابن عبد الهادي في الطبقات 4/27 قال :" وذكره ابن الدباغ في الطبقة 13 من الحفاظ، وله رد حسن على ابن حزم، كتبتُـــه، وهو يدل على تبحره وإمامته ".
ورده هذا يبين فيه أوهام ابن حزم في الرجال، في تجهيله لثقات معروفين وقد نقل منه ابن القيم في تهذيب السنن لأبي داود .
وقد كان ابن مفوز هذا حافظا إماما يجافي ابن حزم ، ويرد عليه ، وله بيتان يخاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم:
يا من تعَنّي أمورا لن يعانيها = خل العناء وأعط القوس باريها |
تـروي الأحـاديث عن كل مسامَحَة = وإنما لمُعانِيها iiمَعانيها | وبعــد،،
فلعلك تستطيع الآن أن تستمع إلي، و يسهل عليك أن تصغي إلي بسمعك وقلبك لأهمس في أذنك : إن ما في طبعات بداية المجتهد من ذكر (ابن صفور) هكذا تحريف شنيع ، وبلية عظمى وقعت من بعض النساخ ثم توارد عليها الناسخون والناشرون من بعده.
وأن الصواب في قراءته :" ابن مفــوز " فهو الذي تنطبق عليه الملحوظتان السابقتان ؛ لأنه حافظ كبير توفي سنة 505هـ قبل ابن رشد الحفيد، وله رد على ابن حزم مما يؤكد أنه هو المراد في النص المذكور إلا أن بعض النساخ حرّف اسمه؛ فقرأ الميم ـ وهي تكتب بالخط المغربي دائرة فوق السطر ـ صادا، ولم تظهرله نقطة الزاي ؛ فقرأه وكتبه (ابن صفور)، وبقي بعده كذلك، وقد مر على هذا التحريف جماعة ممن حققوا الكتاب، واعتنوا به ، ووقفوا أمامه مستسلمين، ولا أحد منهم فطن له، أو كشف عنه الحجاب إلى الآن، مما يدلك على أن بعض ممن تصدروا لتحقيق الكتب وإخراجها يحققون ـ عجبي ـ بدون فهم ولا روية ولا تمييز .
ورحم الله القائل:
يكفيك شرا من الدنيا ومنقصة ألا يبين لك الهادي من الهاذي
والحمد لله ، فقد يسر الله عز وجل كشفه وبيانه فيما تقدم ، بعد رحلة من العناء والبحث ، ونسأل الله التسديد والإعانة. |