اليوم الشهيد !
عزيزتي صفاء :
جئت اليوم لأحدثك عن يومي الشهيد ! ذلك اليوم سأصفه لك بكل تفاصيله التي لا أزال أذكرها بوضوح ، فهو اليوم الذي دفنت فيه كل أحلامي ، وكل البراءة التي كنت أعيش فيها ، حتى ذلك الحين .
كان شتوياً ذلك النهار ، إلا أن الجو كان رائعاً ، لأن الشمس كانت قد سطعت من بعد رعود وأمطار دامت كل فترة ما قبل الظهيرة . التقينا قبيل العصر بقليل ، في نزهتنا المعتادة على الطريق السهلية ، البحرية ، وكان لي قلبٌ يومَها له جناحات . الأرض كما السماء ، كانت قد اغتسلت بماء غزير، أعاد إليها رونقها ، وأعاد إليها هدوءاً كانت قد عكرته العواصف . حتى البحر ، بدا إذ ذاك أكثر اتساعاً وجاذبية ، تحت خيوط الشمس النحيلة . الطريق ، الشجر ، البيوت ، بدت كأنها رسمت من جديد ، لأن حجاب البلل الشفيف الذي كان يغلفها ، ضاعف من عمق اللون فيها ، فانقشعت معالمها . كل شيء كان وضاءاً ، مشعاً ، واعداً بالحياة .
كنت أرتدي كنزة صوفية ، زهرية اللون ، مفتوحة قليلاً عند الصدر، تحت سترتي التي تخليت عنها ، بمجرد صعودي إلى السيارة . الجو فيها كان دافئاً بحرارة التسخين ، وبهجة الألوان الصارخة ، واتقاد الرغبة المطلة من جسمي ، ومن عينيه .
ووجدته على غير عادة ، وبدون أي كلام ، ينحرف عن الطريق الاعتيادية . ووجدتنا وقد توقفت بنا السيارة ، في مكان خال بين الشجر ......... فجأة ، صرنا وحدنا في حضن الطبيعة ، كأننا عدنا لمهدنا الأول . المشهد ، كان خيالياً ، المشهد كان أسطورياً ، و كل ما كان قبله ، وكل ما كان بعده ، هوالسراب ........
في تلك اللحظة الفريدة ، رأيته يرتمي على صدري . يهوي إليه كجرم هبط من السماء الأعلى ، ليتناثر فوقه كانشطارالنيازك . في دفعة واحدة ، صار يتدحرج على سفحه ، كانحدار الصخرعلى باطن الجبل ..... في دفعة واحدة ، لا تقبل الشك ، ولا التفكير ، ولا التردد ، ولا الانتظار .......... في انحناءة ، تشع فيها العيون ، باتقاد غريب ، ويكاد يفر منها النظر ..... ثم ، وبنفس الوتيرة الصاعقة ، يدس يده داخل قبة الكنزة ، ليخرج من عشه ، طائراً ، كان قد أعياه الانتظار . ليلتقط فرخاً ، كان لا زال ، بطراوة اللحم . يحتضنه بباطن كفه ، بشغف وورع ، كـأنه الدر المكنون . نظراته كانت مفترسة ، وذلك العصفورالمدلل ، كان شهياً ومثيراً ، ويحلم بأن يطير .
كان شيئاً مذهلاً ما كنت أراه ، أهو صدري هذا المتحول ? هذا الحرون الجسور الذي يثب ويندفع بتلك الشهوة العميقة ? أهو صدري هذا ، الذي يعرف كيف يغري ويتغاوى برونقه وملمسه، وانزلاق النور عليه ، مشرباً بتلك الحمرة الخفيفة ? أهو نور الشمس ما جعله حقاً مضيئاً تلك اللحظة، أم أنه إنقشاع اللون عنه ، ليختلط فيهما بنضرة وإشعاع غير عاديين ?
كان حقاً منظراً فريداً هذا الذي كنت أراه . صدري المسكون برغبات البوح الدفينة فيه دهوراً ، فم وشفتان طريتان لطالما اشتهيتهما ، تجوبانه بالطول والعرض ، تتمرغان فوق ذلك السفح الدافئ ، في كر وفر ، كأنهما تسعيان إلى احتواء المكان . ذاك التماس الصاعق كان مباغتاً ، ومتفجراً ، حتى بدت لي تلك اللحظة كأنها اختراق للقدر .
دقيقة أو دقيقتان من العمر دام فيهما هذا اللقاء . ربما تكون ثلاث دقائق ، وأنا لم انتبه ? ممكن ! كنت كالمصعوقة ولم أنتبه . كنت كالمصعوقة ولم أعد أذكر أيهما كان أقوى عندي لحظتها : شعوري باللذة أم بالغرابة ?
أذكر بأنني لم أنبس ، ولم أتحرك في مكاني ، كأنني أتفرج على لعبة مثيرة تجري أمامي . ثم ? ....
ثم توقف كل شيء ودفعة واحدة ! فجأة ، كما بدأ ، ارتد عني وهو لا زال متبلبلاً ، متهدجاً ، وكأن الخيط الذي كان بيننا قد انقطع ، كأن السحر قد توقف ، كأن الساعة قد دقت ، وعادت " سندريلا " إلى ثيابها الرثة .
هو الخوف ، على الأرجح من أننا لسنا في مكان آمن ، ما أعاد إليه عقله .
الرغبة كانت قد أفقدته صوابه ، والخوف أعاد إليه عقله .
دقيقتان من العمر، كنا فيها معاً ، بدون خوف ، وبدون عقل .........
دقيقتان من العمر ، خارج حدود السلطة ، والإرادة ، والتيقظ ، والحسابات ...........
دقيقتان من العمر ، خارج حدود الأخلاق ?
ربما ، ربما هما كذلك ، عزيزتي ، لكنهما دقيقتان ، لهما من السحر والقوة والجمال أسنان حفرت في قلبي ، وفي ذاكرتي البعيدة .
ثم ، عاد كل شيء ، إلى فقره المميت .
ثم ، هذا اللا شيء البارد ، القاتل ......... العدم الكامل ، العماء .......
لا شيء بعدها يستحق أن نقوله ، أو نذكره ، أو نعود إليه . صدقيني ، صفاء: هبطنا من الأسطورة إلى اللاشيء ، العالم الحقيقي ? بل هو الوهم الكبير .............
عاد هو ليعتذر ، بكلمات من زمننا الأرضي : كانت هفوة ، لحظة ضعف ، أشياء كهذه نسيت تفاصيلها ، وينزلق في غمرة تبريراته ليشتكي ، بأنه لا يحلم إلا بأن يراني ممددة أمامه وعارية تماماً . كان ينطق عن الهوى ، كان لا يزال يهلوس ........ لم أعد أسمع ما كان يقول ، انبهاري ، وتوتري ، كانا يمنعاني من التفكير ، إلا في شيء واحد بوقتها : هو أن أعرف مصيري معه !
استجمعت شجاعتي ، كل شجاعتي ، لأنها كانت تلزمني كلها ودفعة واحدة ، وقررت اقتناص اللحظة التي لن تتكرر أبداً . لو سكت لحظتها لسكت العمر كله ، دون أن أسأل شيئاً . بقوة انفعال تلك اللحظة ، التي شعرت للتو ، بأنها تنتمي إلى طقوس القرابين ، تكورت الكلمات داخل صدري . وبقوة انفعال ما كان يعتمل في صدري من ألم ورهبة ، دفعتها ناشفة ، خشنة ، تكاد تلتصق ببلعومي ، فخرجت تتدحرج ، كالحجر الثقيل ، وصرت أطردها طرداً، وهي تتشبث بحلقي ، كمن ينتزع حشرة ........
تأتأت ، بل ، غمغمت ، أو ربما حشرجت ، بصوت لم أسمعه من قبل ، ولا أعرف مصدره :
ـ " هل لا زلت ترى نهى ? " ، قلت .
ـ "نعم " ، أجاب .
ـ " وهل لا زلت تحبها ? " ، أضفت .
ـ " نعم " ، أضاف !
...................................................
انتهى الكلام وانتهت مهمتي العسيرة !
ثم صمتنا دهراً .............
دهراً طويلاً صمتنا ، عزيزتي .
ثم عدنا إلى المدينة ...........
إلى المدينة عدنا ، عزيزتي ، صامتين ، مكسورين .........
سأتركك الآن ، صفاء ، يبدو أن وقت الذهاب قد حان ، ولأن لكل شيء أوانا ، وأشعر الآن بأنني أريد أن أرتاح . سأعود إليك غداً ، فاعذريني ، وإلى اللقاء .