من أوائل التوجيهات التي يتلقاها طالب الفقه في المدارس الشرعية أن يتعلم كيف يفرق بين كوعه وبوعه، لأنه لا يليق بطالب العلم أن يقال فيه (لا يعرف كوعه من بوعه) وهم يعلمونه الغلط من أول يوم، فيقولون له: الكوع: هو العظم الواقع في رأس الزند من جهة الإبهام. والبوع: ما يقابله في إبهام القدم. ولكني لم أعثر على هذا التفسير في أي من كتب اللغة، وقد اتفقت كلمتها على أن (البوع) لغة في الباع، وليس كما قالوا لنا، والنتيجة: لا نزال (لا نعرف كوعنا من بوعنا). قال الصفدي في (تصحيح التصحيف) المنشور على الوراق: (ويقولون: ما يعرِفُ كوعَه من بوعِه. الكوع: رأس الزَّند الذي يلي الإبهام، والبُوع: ما يلي طَرَفَيْ يدي الإنسان إذا مدّهما يميناً وشمالاً، يقال: باعَ يَبوعُ، وقد بُعْتُ الحبلَ بَوْعاً، إذا قِستَه بباعِك). أحببت أن أقدم بهذه الطرفة لما هو أعمق طرافة منها.. فالعادة المتبعة ربما عند كل الشعوب والأمم أن أول ما يلقى على الأطفال من العلوم أن يعرفوا تسمية أطرافهم وجوارحهم، فيقال لهم: أين عينك? أين أنفك? أين ذقنك ?. وأذكر من هذه الأسئلة التي كانت تلقيها علي أمي سؤالها: أين كعبك ? فكنت أشير إلى عقب قدمي الذي يلامس الأرض عندما أقف عليها وأمشي، فإذا قالت لي : أين كوعك ? كنت أشير إلى عظم المرفق، ظنا مني أن هذا هو الكوع، وإذا قالت لي: أين كواحلك ? كنت أشير إلى العظمين الناتئين على طرفي القدم. وهو ما يسمى بالعامية المصرية (بز الرجل). ولك أن توقف أي شامي أو مصري من عوام الخلق، فتسأله: أين كوعك ? لتراه يسارع إلى الإشارة إلى عظم المرفق، وإذا سألته أين كعبك ? ستراه أيضا يشير إلى مؤخرة أسفل قدمه. وليس إلى العظمين الناتئين على طرف الساق. وهكذا كان ظني أن الكعب هو العقب. المذكور في القرآن مرات، ومنها (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) والمراد بالحديث: (ويل للأعقاب من النار). ولم أكن أتصور أن مثل هذه المسألة ستأخذ من حياتي شهورا مطولة وتكون النتيجة كما كانت مع (الكوع والبوع) وقد سألني يوم أمس صديق لي عن تحديد معنى (الكعبين) في القرآن، لأن ترجمات القرآن =كما يقول= تذكر أقوالا متضاربة في معناها. فقلت له إن هذه المسألة تفتقر لتحقيق مطول، لأن الخلاف منصوص عليه في كتب اللغة، وقد ذكر ابن منظور في مادة (كعب) أن الإمام ثعلب سئل عن الكعب فوضع سبابته على مفصل رجله وقال: (هذا قولُ المُفَضَّل، وابن الأَعرابي) ثم أَوْمَأَ إِلى العظمين الناتِئَين على جانب القدم، وقال: (هذا قول أَبي عمرو ابن العَلاء، والأَصمعي. وكلٌّ قد أَصابَ) قال ابن منظور بعدما ذكر هذه النكتة: وكَعْبُ الإِنسان: ما أَشْرَفَ فوق رُسْغِه عند قَدَمِه؛ وقيل: هو العظمُ الناشزُ فوق قدمِه، وقيل: هو العظم الناشز عند مُلْتَقَى الساقِ والقَدَمِ. وأَنكر الأَصمعي قولَ الناسِ إِنه في ظَهْر القَدَم. وذهب قومٌ إِلى أَنهما العظمانِ اللذانِ في ظَهْرِ القَدم، وهو مَذْهَبُ الشِّيعة؛ ومنه قولُ يحيى بن الحرث: رأَيت القَتْلى يومَ زيدِ بنِ عليٍّ، فرأَيتُ الكِعابَ في وَسْطِ القَدَم. وقيل: الكَعْبانِ من الإِنسان العظمانِ الناشزان من جانبي القدم. وفي حديث الإِزارِ: ما كان أَسْفَلَ من الكَعْبين، ففي النار. قال ابن الأَثير: الكَعْبانِ العظمانِ الناتئانِ، عند مَفْصِلِ الساقِ والقَدم، عن الجنبين، ...والجمع أَكْعُبٌ وكُعُوبٌ وكِعابٌ. قال القرطبي في تفسير الآية: واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وأنكر الأصمعي فول الناس: إن الكعب في ظهر القدم؛ قاله في (الصحاح) وروي عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن؛ قال ابن عطية: ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا، ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام؛ وقال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق؛ وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم. قلت: هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة؛ وكعبت المرأة إذا فلك ثديها، وكعب القناة أنبوبها، وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها، ومنه الحديث: (والله لا يزال كعبك عاليا). وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو دواد عن النعمان بن بشير (والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)، قال: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب، والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم، ومنه الحديث (ويل للعراقيب من النار) يعني إذا لم تغسل؛ كما قال: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار).
و المنسوب إلى ابن جرير الطبري أنه كان يقول بمسح القدمين، ولكن يذهب إلى أن الكعبين هما العظمان الناتئان على جانب القدمين، ويحكم بأن المسح ينبغي أن يشمل كل القدم، أسفلها وأعلاها، وليس كما تقول الشيعة: أن يمر برؤوس أصابع يديه على ظهر قدمه. ولابد هنا من الإشارة إلى أن مذهب ابن حزم في هذه المسألة، وأن مذهبه هو الغسل وليس المسح كما قد يظن من ينظر في المحلى بلا تدقيق. قال في المسألة رقم (200): (وأما قولنا في الرجلين فإن القرآن نزل بالمسح. قال الله تعالى: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم" 6 المائدة وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرؤوس: إما على اللفظ وإما على الموضع، لا يجوز غير ذلك. لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة. وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح - يعني في الرجلين في الوضوء - وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف؛ منهم علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم، وهو قول الطبري، ورويت في ذلك آثار ... وعن إسحاق بن راهويه ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن عبد خير عن علي "كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح ظاهرهما". ثم قال بعدما ذكر الحديث (ويل للأعقاب من النار): فكان هذا الخبر زائداً على ما في الآية، وعلى الأخبار التي ذكرنا، وناسخاً لما فيها؛ ولما في الآية والأخذ بالزائد واجب؛ ولقد كان يلزم من يقول بترك الأخبار للقرآن أن يترك هذا الخبر للآية، ولقد كان يلزم من يترك الأخبار الصحاح للقياس أن يترك هذا الخبر: لأننا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمم، كما يسقط الرأس فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه ويثبتان بثباته أولى من حملهما على ما لا يثبتان بثباته. وأيضاً فالرجلان مذكوران مع الرأس، فكان حملهما على ما ذكرا معه فأولى من حملهما على ما لم يذكرا معه. وأيضاً فالرأس طرف والرجلان طرف، فكان قياس الطرف على الطرف أولى من قياس الطرف على الوسط؛ وأيضاً فإنهم يقولون بالمسح على الخفين، فكان تعويض المسح من المسح أولى من تعويض المسح من الغسل. وأيضاً فإنه لما جاز المسح على سائر للرجلين ولم يجز على سائر دون الوجه والذراعين دل - على أصول أصحاب القياس - أن أمر الرجلين أخف من أمر الوجه والذراعين، فإذ ذك كذلك فليس إلا المسح ولا بد. فهذا أصح قياس في الأرض لو كان القياس حقاً. ثم رأيت من المسلمين من يزعم بلا دليل غير الوهم أن الكعب هو الركبة التي تقابل المرفق من الذراع، وأن المسح في الوضوء يجب أن يستوعب الساق كلها حتى الركبتين. كما يجب أن يشمل الغسل اليدين حتى المرافق. وقال العاملي في الكشكول: (من التفسير الكبير للإمام الرازي: جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتيان من جانبي الساق، وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح: إن الكعب عبارة من عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم، وهو قول محمد بن الحسن، وكان الأصمعي يختار هذا القول. ثم قال: حجة الإمامية إن اسم الكعب وقع على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع الحيوانات، فوجب أن يكون في حق الإنسان كذلك والمفصل يسمى كعباً ومنه كعب الرمح لمفاصله وفي وسط القدم مفصل فوجب أن يكون هو الكعب) وقال في موضع آخر: (في تفسير النيشابوري: جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان النابتان من جانبي الساق، وقالت الامامية وكل من قال بالمسح: أن الكعب عظم مستدير موضوع تحت نمط الساق، حيث يكون مفصل الساق والقدم، كما في أرجل جميع الحيوانات والمفصل يسمى كعباً، ومنه كعوب الرمح لمفاصله، حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الامامية، لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً، فكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب، كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً، لا جرم قال إلى المرافق، وأيضاً العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلا أهل العلم بتشريح الابدان، والعظمان النابتان في طرفي الساق محسوسان لكل أحد، ومناط التكليف ليس إلا أمراً ظاهراً انتهى كلام النيشابوري.. وقال السرخسي في المبسوط: (وأما الكعب فهو العظم الناتىء المتصل بعظم الساق وهو المفهوم في اللسان إذا قيل ضرب كعب فلان وقال: عليه الصلاة والسلام ألصقوا الكعاب بالكعاب في الصلاة وفي قوله إلى الكعبين دليل على هذا لأن ما يوحد من خلق الإنسان يذكر تثنيته بعبارة الجمع كما قال: تعالى " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما "التحريم 4 أي قلباكما وما كان مثنى يذكر تثنيته بعبارة التثنية فلما قال: إلى الكعبين عرفنا أنه مثنى في كل رجل وذلك العظم الناتىء وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال: المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك ووجهه أن الكعب اسم للمفصل ومنه كعوب الرمح أي مفاصله والذي في وسط القدم مفصل وهو المتيقن به وهذا سهو من هشام لم يرد محمد رحمه الله تعالى تفسير الكعب بهذا في الطهارة وإنما أراد في المحرم إذا لم يجد نعلين أنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين وفسر الكعب بهذا فأما في الطهارة فلا شك أنه العظم الناتيء كما فسره في الزيادات) وقال النووي في الروضة: (الفرض الخامس غسل الرجلين مع الكعبين وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم وحكي وجه أنه الذي فوق مشط القدم . قلت هذا الوجه شاذ منكر بل غلط والله أعلم وحكم الرجل الزائدة ما سبق في اليد ومراد الأصحاب بقولهم غسل الرجلين فرض إذا لم يمسح على الخف أو أن الأصل الغسل والمسح بدل) وبالرغم من كل هذا التشديد يجب أن لا ننسى أن أهل السنة عموما أجازوا المسح على الخفين، وجعلوا ذلك من علائم السنة فقالوا: عقيدتنا تفضيل الشيخين ومحبة الختنين والمسح على الخفين...إلخ.
|