شبهة استراق السمع والرد عليها كن أول من يقيّم
قال في الحيوان (الوراق: ص 553):
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن، فإذْ قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى، فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ، وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة، وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ، وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان، ولكنا نقول بجملةٍ كافية، واللّه تعالى المعين على ذلك. رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن قال قوم: قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً، وأقلُّ آفَةً، وأحدُّ أذهاناً، وأقلُّ فضُولاً، وأخفُّ أبداناً، وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا، والدّليلُ على ذلك إجماعهم على أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ، دقيقةٌ ولا جليلة، ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق الهوى والشّهوة، خفيّةً كانت أو ظاهرة، إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها، والمزيِّنُ لها، والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء، ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة، ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات. ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل، ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ، أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه، أويكونُ متى رام ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ - أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه، ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ. وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار، وليس له خواطئ، فإمَّا أن يكون يصيبه، وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به، وهذه الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور، ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع والمسترِق، والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني، ولا الثّاني ينهي الثّالث، ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب، وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم، وهو ظاهر مكشوف?. وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات، ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية، وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد، فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن وصدقوها، وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ كما يُنجِز ما وعد، وقد قال اللّه عزّ وجل: "وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ"، وقال تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان رَجيمٍ" وقال تعالى: "إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ" وقال تعالى: "هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ، يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون" مع قولِ الجنّ: "أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً" وقولهم: "أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً، وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً". فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً، وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب، والإحراقَ بالنار، وقوله تعالى: "إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ" وقوله تعالى: "وَحفْظاً مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ، لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن كُلِّ جانبٍ دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ" في آيٍ غيرِ هذا كثير، فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع، مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب، ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب، ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر - لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر، وفي إخبار بعضِهم لبعض، ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود، وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار? وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم? وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى? قيل لهم: فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول، وفي هذه الأبواب، كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ، وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار، والحمّارين والمُكارينَ، من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه؛ وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا، مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل، ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه، وقد كان طريقاً مسلوكاً، وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه، لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم. ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها، مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها، وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب، وجبالٌ لا تُرام، ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة. وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا، حين ذكرنا الصَّرفة، وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه، وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته، وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً؛ إذا كان في ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق، مع غير ذلك، ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة، لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب. ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة، ما دام لا يقول بالتّوحيد، وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه، ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل، وأن الأمر والنَّهي، والثوابَ والعقاب على غير ما نقول، وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة الحزْم. وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة، وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى: "واللّه يَعصِمُك من النّاسِ" لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها، وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية، وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب. وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير? ونحن نقول: لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى: "وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ" وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه، لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان، لم يطمع فيه، ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه، ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق. فنقول في إبليس: إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس، وفي جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول.0 وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا، فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ، واللّه تعالى المعين والموفِّق. وأما قولهم: منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان متبيَّناً كيف كان اعتراضهم على أنّ أيسر ما يحتملون في جَنْب تلك الرِّياسات القتل. ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه الرَّجْم، والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول، ويعلم أنه إذا كان شهاباً أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه، فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه، ولا يأخذه إلا قمحاً، فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه - ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه، أو فقئت إحدى عينَيه. ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان، وماردٍ، وعفريتٍ، وأشباه ذلك? ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء، ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه?.
وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا، قالوا في قوله تعالى: "وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً" فقالوا: قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد، فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك.
قلنا: ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين، وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ، وتكبيرٌ وتلاوة، فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم. وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ: سمعت ما لم يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ متنبئٍ وكاهن، فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام: وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة، قالوا: زعمتم أن اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فكيف يكون ذلك رَجْماً، وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً، وذلك موجودٌ في الأشعار، وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك: فجأجأها مـن أول الـرِّيِّ غُـدوة= وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَـرْتـعُ بأكْلـبةٍ زُرْقٍ ضـوارٍ كـأنّـهـا= خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ فجال على نَفْر تعرُّضَ كـوكـبٍ= وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته، وحُسْنه، وبريق جلده، ولذلك قال الطّرِمّاح:
يَـبْـدُو وتُضْمِرُه البلاد iiكأنّهُ |
|
سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ | وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم:
وتـشُـجُّ بـالـعير الفلاة iiكأنّهَا |
|
فـتْخاءُ كاسِرةٌ هَوَتْ من iiمرْقبِ |
والعير يُرْهِقُها الخبَار iiوجَحشُها |
|
ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ | قالوا: وقال الضّبّي:
يَـنَالها مهتك iiأشْجارها |
|
بذي غُروب فيه تحريبُ |
كـأنّه حيِنَ نَحَا iiكوكبٌ |
|
أو قبَسٌ بالكفِّ iiمشبوبُ | وقال أوس بن حَجَر:
فانقضَّ كالدّريءِ iiيَتْبَعُهُ |
|
نَـقْع يثُورُ تخالُه iiطُنُبَا |
يَخفى وأحياناً يلوح كما |
|
رفع المشيرُ بكفِّهِ iiلهبَا | ورووا قوله:
فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر |
|
لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل iiمُظْلِمِ | وقال عَوْف بن الخرِع:
يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه |
|
أو الـثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ | وقال الأفوه الأودي:
كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ iiبه |
|
فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ | وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت:
وترى شياطيناً تَرُوغُ مُضافةً |
|
ورَواغُها شتّى إذا ما iiتُطْرَدُ |
يُلْقى عليها في السَّماء iiمذلَّة |
|
وكـواكبٌ تُرمى بها iiفتعرِّدُ | قلنا لهؤلاء القوم: إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم، وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى، فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة، والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد، فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به، وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار، والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار، وقال: شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام. والأعلام ضروب، فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب، لكون الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة، وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر، والتأسيس له، وكالتعبيد والترشيح، فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد حدثت عند مولده، أو قُبيلَ مولِده، أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث مثلُها، وعند ذلك يقول الناس: إنّ هذا لأَمرٍ، وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع، أو سيكون لهذا نبأ، كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان، فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة، وحين خروج الماء من تحت رُكْبة جملة، وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك، مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره، والمتوقَّع أبداً معظّم. فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص، إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك، فإنّ عددهم كثير، وشعرهم معروف.
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام، وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم. وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً، ولا حجراً مطروحاً، ولا خنفساء، ولا جُعلاً، ولا دودة، ولا حيةً، إلا قال فيها، فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها، وكيف أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم. وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال: هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم، وبي نُصروا. ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون، من صِفَتها كذا، ومن شأنها كذا، وتُنصرون على العجَم، وبي تنصرون.
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ بها لنفسه، فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار، التي شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا.
وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها، ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها، فأما قوله: فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ= لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي هَمَّام، هو الذي كان ولَّدها، فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ، وهات القصيدة، فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ، من قصيدةٍ، صحيحة لشاعر معروف، وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت.
وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ:
اسقِني يا iiأُسامَهْ |
|
مِنْ رحيق مُدامَهْ |
اسْـقـنيها فإنِّي |
|
كـافرٌ iiبالقيامَهْ | وهذا الشعر هو الذي قتله، وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر:
فانقضَّ كالدريء يتبعه |
|
نَـقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا | وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس بن حجر، وشُريح ابن أوس، وقد طعنت الرُّواة في هذا الشِّعر الذي أضفْتموه إلى بشر بن أبي خازم، من قوله: والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشهـا = ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكبِ فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب، وقالوا: في شعر بشر مصنوعٌ كثير، مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها:
فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي |
|
إذا مـا الـقارِظُ العَنَزِيُّ iiآبا | وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي، فإنَّ الضّبيَّ مخضرم. وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة، وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس، حين ذكر القول في الشُّهب، مع القول في الكواكب ذوات الذوائب، ومع القول في القَوس، والطَّوق الذي يكون حول القَمَر بالليل، فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ، وإليه تفزعون، فإنّا نوجدكم من كذب التَّراجمة وزيادتهم، ومن فساد الكِتاب، من جهة تأويل الكلام، ومن جهة جهْل المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة، ومن جهة فَسادِ النَّسخ، ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب، فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد، وهذا الكلام معروفٌ صحيح.
وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ، وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ، وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم، وهو جاهليٌّ، ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون? فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ: وأما قوله:
جـائـباً للبحار أُهدي iiلِعِرْسي |
|
فُـلفلاً مجتنًى وهَضْمة iiعِطْر |
وأحلّي هُرَيْرَ مِنْ صدف iiالبَحْ |
|
ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ | فإن الناس يقولون: إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب، وهُريرة: اسم امرأته الجنِّيّة.
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند، فقال:
وأجـوبُ الـبلاد تحتيَ iiظبيٌ |
|
ضـاحـكٌ سِـنُّه كثيرُ iiالتَّمرِّي |
مُـولـج دَبْـرَهُ خَـوَايَة iiمَكْوٍ |
|
وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري | يقول: هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره، من بين جميع الوَحْش، لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً، لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً إذا كان تحتي.
وأما قوله:
يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ |
|
ذاكـرٌ عُـشَّـهُ بـضَفّةِ iiنَهْرِ | فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء.
|