| رأي في' الشعر الحر' ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
بسمه تعالى: حدث في عصرنا هذا الكلام الذي يقال له تجوزا ( الشعر الحر أو المنثور) والحق المطابق للواقع أنه عي وحصر, وعجز وهذر, خالف نظام العرب في شعرها الموزون المقفى, وحاذف الأذواق العربية والأسماع المرهفة التي لها مدد من سلامة طبعها وكمال حسها, فلا يكون هذا شعراً أبداً حتى يلج الجمل في سم الخياط, وحتى تُوتًر العربية شعراءَها و يُجَذ للشعر عرق النياط, إذ ذاك يكون هذا السخف المعنوي والعصيان الأدبي شعرا له دواوين, وأهله شعراء لهم محبين, يتعصبون لهم ويذبون عن مسلكهم.أما وفي الأمة شعراء فلا.. فالذي يريد أن يساوي هذا المذبذب الشعاع, بذلك الموزون الثابت, ويدسه كرها في شعائر العرب المحمودة ليرفع خسيسته, إنما هو كالذي يعارض القرآن بهذيانات مسيلمة كقوله:'' الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل صاحب ذنب قصير وخرطوم طويل'' أو قوله: '' والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما'' فأين هذا السخف الركيك, من ذلك الاعجاز الناطق, والكلام العالي المسبوك كسبك الذهب, المفرغ في قوالب الحكمة المعجزة لتعيها العقول الواعية. ولذلك قلما تجد من هؤلاء من يحسن نظم الشعر لأنه أكبر من همته, وأغلق على فهمه, وليس له من العزيمة والملكة ما يجمع نفسه على دراسة العروض وفك رموزه, إذ هو كعلم الرياضة والحساب يكد الذهن ويستفرغ الجهد, فضلا عن موهبة يمن بها الله على من يشاء, والهام يطبع الشعر بطابع النبوغ, حتى يصير شعر الشاعر دلالة عليه, كالكتابة التي تلصق بالثياب المنسوجة في أيامنا تدل على مكان صنعها أو صانعها, فإذا قرأت شعر شاعر مفلق مطبوع, حصل لك حدس أنه صنع في دماغ فلان من النبغاء الملهمين. يقول العلامة الموسوعي, الأب لويس شيخو اليسوعي في( تاريخ الآداب العربية) (نشرة الوراق): ''على أننا كثيراً ما لقينا في هذا الشعر المنثور قشرة مزوقة ليس تحتها لباب وربما قفز صاحبها من معنى لطيف إلى قول بذي سخيف أو كرر الألفاظ دون جدوى بل بتعسف ظاهر. ومن هذا الشكل كثير في المروجين للشعر المنثور من مصنفات الريحاني وجبران وتبعتهما فلا تكاد تجد في كتاباتهم شيئاً مما تصبو إليه النفس في الشعر الموزون الحر من رقة وشعور وتأثير. خذ مثلاً وصف الريحاني للثورة: ويومها القليب العصيب. وليلها المنير العجيب وصوت فوضاها الرهيب. من هتاف ولجب ونحيب. وزئير وعندلة ونعيب وطغاة الزمان تصير رماداً. وأخيارهُ يحملون الصليب ويل يومئذٍ للظالمين. المستكبرين والمفسدين هو يوم من السنين. بل ساعة من يوم الدين ويل يومئذٍ للظالمين هي الثورة ويومها العبوس الرهيب ألوية كالشقيق تموج. تثير القريب. تثير البعيد وطبول تردّد صدى نشيد عجيب وأبواق تنادي كلَّ سميع مجيب وشرر عيون القوم يرمي باللهيب ونار تسأل هل من مزيد. وسيف يجيب. وهول يشيب ويل يومئذٍ للظالمين. ويل لهم من كلّ مريد مهين طَّلاب للحقّ عنيد مدين. ويل للمستعزَين والمستأمنين هي ساعة الظالمين وهي طويلة على هذه الشاكلة. ولو أردنا انتقادها وبيان نقائصها النثرية والشعرية والمعنوية لطال بنا الكلام. وقس عليها فصولاً عديدة من جنسها أعني طنطنة ألفاظ وشقشقة لسان وإذا حاول الأديب استخلاص معانيها بقي متضعضعاً مرتاباً وكم مثلها في كتابات جبران. ودونك فصله المعنون بالأرض: تنبثق الأرض من الأرض كرهاً وقسراً ثمَّ تسير الأرض فوق الأرض تيهاً وكبراً وتقيم الأرض من الأرض القصور والبروج والهياكل وتنشئ الأرض في الأرض الأساطير والتعاليم والشرائع ثم تمل الأرض أعمال الأرض فتحوك من هالات الأرض الأشباح والأوهام والأحلام ثم يراود نعاسُ الأرض أجفان الأرض فتنام نوماً هادئاً عميقاً أبدياً ثم تنادي الأرض قائلة للأرض أنا الرحم وأنا القبر وسأبقى رحماً وقبراً حتى تضمحل الكواكب وتتحول الشمس إلى رماد فلعمري هذه الغاز لا شيء فيها من منظوم رائق ولا منثور شائق هي أقرب إلى الهذيان والسخف منها إلى الكلام المعقول. ولو شئنا لجمعنا من هذا الصنف صفحات تضيق عنها أعداد المشرق. وشتان بينها وبين فصول أخرى بديعة لبعض الكتبة البلغاء كمثل فصل رويناه في المشرق عنوانه (الموسيقى) لصديقنا وفخر كليتنا الأديب يوسف أفندي غصوب (راجع كتابه أخلاق ومشاهد ص117) وكفصله (أيها الصليب) (المشرق 22 (1924): 463) فإذا استثنينا هذه الفصول الرائعة التي عرف صاحبها من أين يؤكل الكتف لصدقنا على قول الكاتب الأديب مصطفى أفندي صادق الرافعي في عدد المقتطف الأخير الصادر في يناير 1926 (ص31): '' نشأ في أيامنا ما يسمونه (الشعر المنثور) وهي تسمية تدل على جهل واضعيها ومن يرضاها لنفسه? فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب. ولكن سر هذه التسمية إن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصلح طبع وأسلم ذوق وأفصح بيان، فمن أجل ذلك لا يتحمل شيئاً من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف... غير أن النثر يحتمل كل أسلوب وما من صورة فيه إلا ودونها صورة أن تنتهي إلى العمامي الساقط والسوقي البارد ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من حسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يتغنى فمن قال (الشعر المنثور) فأعلم أن معناه عجز الكتاب عن الشعر من ناحيةٍ وادعاؤه من ناحيةٍ أخرى.'' انتهى المراد منه.- (قلت: انظر ما نقله عن الأستاذ الرافعي في أحد أجزاء كتاب وحي القلم له.)
وهذا الأستاذ البديع الأعجوبة ابن تيمية له كلام عجاب في إنكار الإخلال بالشعر العربي وتغيير نظامه, كأنه شاهد عيان على ما حدث في أيامنا يقول في مجموع الفتاوى (م32 ص 252) : '' ..أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفردا أو مركبا, لأنهم غيروا فيه كلام العرب, وبدلوه بقولهم: ماعوا وبدوا وعدوا.وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع, وتنفر عنه العقول والطباع. وأما مركباته فإنه ليس من أوزان العرب, ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر, ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب. ومعلوم أن تعلم العربية, وتعليم العربية, فرض على الكفاية وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن. فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي, ونصلح الألسن المائلة عنه, فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة, والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا, فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة, والأوزان القويمة, فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان,الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان, الذي لا يهذي به إلا قوم من الأعاجم الطماطم الصميان.'' قال: وهؤلاء قوم تركوا المقامرة بالأيدي, وعجزوا عنها: ففتحوا القمار بالألسنة, والقمار بالألسنة أفسد للعقل والدين من القمار بالأيدي. ثم قال:.. بل لو فرض أن الرجل نظم هذه الأزجال العربية من غير مبالغة لنهي عن ذلك, بل لو نظمها في غير الغزل, فإنهم تارة ينظمونها بالكفر بالله وبكتابه ورسوله, كما نظمها (أبو الحسن التستري) في ( وحدة الوجود) وأن الخالق هو المخلوق, وتارة ينظمونها في الفسق: كنظم هؤلاء الغواة, والسفهاء الفساق. ولو قدر أن ناظما نظم هذه الأزجال في مكان حانوت: نهي, فإنها تفسد اللسان العربي, وتنقله إلى العجلة المنكرة. وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات, وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة, كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد, بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه, مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها, ولكن سوغوها للحاجة, وكرهوها لغير الحاجة, ولحفظ شعائر الإسلام, فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي, وبعث به نبيه العربي, وجعل الأمة العربية خير الأمم, فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام. فكيف بمن تقدم على الكلام العربي مفرده ومنظومه- فيغيره ويبدله, ويخرج عن قانونه, ويكلف الانتقال عنه? إنما هذا نظير ما يفعله بعض أهل الضلال من الشيوخ الجهال حيث يصمدون إلى الرجل العاقل, فيولهونه ويخنثونه, فإنهم ضادوا الرسول إذ بعث بإصلاح العقول والأديان, وتكميل نوع الإنسان, وحرم ما يغير العقل من جميع الألوان.فإذا جاء هؤلاء إلى صحيح العقل فأفسدوا عقله وفهمه, فقد ضادوا الله وراغموا حكمه, والذين يبدلون اللسان العربي ويفسدونه, لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه,فإن صلاح العقل واللسان,مما يؤمر به الإنسان, ويعين ذلك على تمام الإيمان, وضد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران, والله أعلم.'' اه (قلت: انظر ان شئت فصلاً هاماً له في كتابه '' اقتضاء الصراط المستقيم'' حول منزلة العربية من الدين, ورطانة الأعاجم وهو نهاية في الأستاذية والاتقان) ( هذا وقد صدفت عن ذكر رؤساء هذه النحلة, وشيوخ هذا المسلك, وبعض نتاجهم المتوغل في الركاكة والصلف,والغارق في الرقاعة والسخف, حرصا على القلوب, وبعدا عن إيغار صدور محبيهم, فبقاء المحبة بين الناس والبعد عن أسباب الشقاق معتبر في كل حال, إذا لم يخل بمبدأ, وينجر إلى مداهنة.) و يبقى هذا رأي و '' قل كل يعمل على شاكلته'' وطبيعته و(''ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده''). | *طه أحمد | 24 - أكتوبر - 2006 |