أشكر الأستاذة الفاضلة خولة على تعقيبها العلمي الرصين؛ وأنوه بموقفها حول مرجعيات الذكاء في تراثنا العربي الإسلامي.
أود ـ أستاذتي ـ أن ألفت الانتباه إلى أنه رغم كل المقاربات السيكولوجية التي درست وفسرت الذكاء؛ كان دائما هناك تردد مزدوج. يتعلق الأول بتردد علماء النفس على تسمية ووصف "القدرات" و"العوامل" بنعت "ذكاءات". لقد حسم جاردنر هذا النقاش ووصف القدرات الموسيقية والجسمية الحركية والفضائية البصرية بالذكاءات. أي أنه اعترف بها ومنحها شرعيتها مثلما هو الأمر في الذكاء اللغوي. الأمر الثاني أن الباحثين ـ ثورستون؛ كاتل؛ جيلفورد وغيرهم ـ ظلوا وفيين لاختبارات الذكاء الكلاسيكية التي تقوم عادة على الورقة والقلم؛ وهي الاختبارات التي تجد نموذجها الأصلي الأول في مقياس بينيه.
وأود الإشارة كذلك إلى عدم وجود اتفاق بين علماء النفس في تحديد هذا المفهوم. وقد وصل الاختلاف إلى حد التناقض أحيانا. لقد كان قصدهم الارتقاء من التعدد العيني وكثرة الظواهر والمؤشرات إلى وحدة دلالة المفهوم. وعرفت محاولاتهم لتحقيق هذه الوحدة ـ خلال تاريخ بناء المفهوم ـ لحظات متوترة ومتداخلة. في سنة 1921, طلبت (مجلة علم النفس التربوي) الأمريكية من أربعة عشر سيكولوجيا تحديد مفهوم الذكاء, فقدموا أربعة عشر تعريفا مختلفا, هذه بعض منها..
كولفان S.S.Colvin " الذكاء هو تعلم أو القدرة على تعلم التكيف مع الوسط"
هنون V.A.C.Hennon "الذكاء هو استعداد للمعرفة والمعرفة المكتسبة"
بيترسون J.Peterso ": الذكاء آلية بيولوجية تنتقل وتتحول من خلالها الأفعال الناتجة عن المثيرات المعقدة إلى فعل موحد يتمثل في السلوك"
ثورستون L.L.Thurstone": الذكاء هو القدرة على كبح تكيف غريزي. وهو قدرة على إعادة تحديد تكيف غريزي على ضوء المحاولات والأخطاء المتخيلة. وهو قدرة الإرادة على تحقيق تكيف غريزي معدَّل داخل السلوك لمصلحة الفرد باعتباره حيوانا اجتماعيا"
تيرمان L.M.Terman "الذكاء هو القدرة على التفكير المجرد"
ثورندايك E.L.Thorndike "الذكاء هو القدرة على تقديم استجابات صحيحة بالنسبة للحقيقة أو الوقائع"
وودروو H.Woodrow " الذكاء هو قدرة على التعلم, أي القدرة على اكتساب القدرة "
بينتنر R.Pintner " الذكاء هو القدرة على التكيف على نحو مناسب مع المواقف الجديدة "
ديربورن W.F.Dearborn " الذكاء هو القدرة على التعلم والاستفادة من التجربة".
لقد كشف الاستطلاع أنه بقدر تعدد المستجوبين من العلماء تعددت معاني الذكاء. وفي سنة 1986 نظم استطلاع آخر همَّ 24 عالم نفس, طُلب منهم فيه تعريف مفهوم الذكاء, حيث تم رصد 27 خاصية استعملت في تحديد الذكاء. لكن ما أثار الدهشة أنه ـ من بين مجموع تلك الخاصيات ـ لم تُسجل ولو خاصية واحدة وقع حولها إجماع وذُكرت من طرف الجميع. أما الخاصية الأكثر تكرارا وترددا فقد ذكرت فقط من طرف نصف مجموع المشاركين.. والملاحظ أن معظم التعاريف ربطت الذكاء ببعده الوظيفي, أي بعملية التكيف الذي يتجلى في تشكيل سلوكات مرتبطة بوضعيات معينة مستقلة نسبيا عن الشروط والمحددات البيولوجية. ولذلك فتعريف الذكاء بأنه القدرة عن التكيف مع وضعيات جديدة, أو القدرة على حل المشكلات, أو القدرة على الفهم والتعلم, هو تعريف يتأسس على اعتبار الذكاء تكيفا. تلك هي نقطة الالتقاء بين علماء النفس. لكن التكيف مفهوم عام يحتاج إلى نوع من التحديد الإجرائي الدقيق. ويبدو أنه في هذا المستوى يبدأ الاختلاف والتباين بين أطراف العائلة السيكولوجية. والمفارقة أنه بمجرد الشروع في مثل هذا التحديد الإجرائي ننتقل من التعريف الوظيفي (الذكاء تكيف) إلى التعريفات التي تركز على الإنجازات والأداءات أو السيرورات النفسية أو الشروط والترابطات البيولوجية. واعتبارا إلى شساعة مستويات الذكاء كسلوك تكيفي فإن تخصيصها سيتم بطرق عدة, وبالتالي ليس من الغرابة أن كل طرف سيركز ويعلي من شأن المظاهر التي يدرسها, وهو مؤشر قوي على عدم الاتفاق.
ـ أما فيما يخص تأسيس أو تأصيل موضوع الذكاء في تراثنا، قد لا أخالفك الرأي من المبدأ. لكني أحتاط من الذهاب أبعد والمغامرة بالقول بوجود نظريات خاصة ومتكاملة حول الذكاء. إن ابن الجوزي ـ في تعريفه للذكاء ـ ظل مرتبطا بالمرجعية الدينية التي تربط الذكاء بعملية الفهم؛ كعملية يقوم بها القلب أساسا. يقول? وحد الذكاء: جودة حدس من هذه القوة, تقع في زمان قصير غير ممهل, فيعلم الذكي معنى القول عند سماعه. وقال بعضهم: حد الذكاء: سرعة الفهم وحدته, والبلادة جموده. وقال الزجاج: الذكاء في اللغة تمام السن, ومنه الذكاء في الفهم وهو أن يكون فهما تاما,سريع القبول, وذكيت النار إذا أتممت إشعالها?. أي أن الذكاء يخضع لمؤشر زمني هو السرعة, حيث يكون الفهم سريعا عندما يحدث في زمان قصير غير ممهل, ويكون ذكيا ذاك الذي "يعلم معنى القول عند سماعه", أو ذاك الذي يفهم الإشارة من العبارة. وإذا كانت سرعة الفهم, أو الفهم الحاصل في زمن قصير, هو المظهر أو المؤشر الأساسي للذكاء, فإن قوام هذا الفهم السريع هو التلقي الجيد للخطاب, أي إدراك ومعرفة القول عند سماعه. وبهذا سيتحدد الذكاء بالسرعة في الفهم, أي بسرعته في تمثل معنى الخطاب بشكل دقيق وتام. إن الذكي هو المتفوق على غيره زمنيا في استيعاب المعنى, أي في القدرة على الربط بين الدال والمدلول. هاهنا نجد أنفسنا مرة أخرى بصدد تصور أحادي يختزل الذكاء في الفهم عن طريق اللغة.
مع شكري لك الأخت خولة . ولنا عودة إلى الموضوع إن شاء الله.
وحيد الفقيهي
Fakihi64@hotmail.com