J
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , وسيد الخلق أجمعين , سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ..
وبعد ؛
فلقد كان من عظيم توفيق الله سبحانه وتعالى إياي , وجليل إنعامه عليّ أن هداني إلي درس متصل بسبب كبير بالقرآن الكريم ، وبحث دائر في فلك تفسير من تفاسيره ذات القيمة العالية والفوائد العميمة الجليلة , وهو تفسير (مفاتيح الغيب) للإمام فخر الدين الرازي ( ت . 606 هـ ) .
ولا يخفى على ذي لُبّ ما يحويه مفاتيح الغيب من كنوز ثمينة وعيون معرفية ثرة ، توزعت شتى مجالات المعرفة والثقافة , فكان حقيقا بما قيل فيه من أنه تفسير حوى كل شيء بين دفتيه . وكان على رأس تلك المعارف والعلوم علوم اللغة بمختلف مباحثها وقضاياها ومستوياتها , ابتداءً بالمستوى الصوتي ومرورا بقضايا البنية والاشتقاق , والمباحث التركيبية المختلفة . ولما كانت المهمة الأولى لتفسير أي نص أو لحاشيته هي الكشف عن معنى ذلك النص وتوضيح ما غمُض منه , وفتْح ما استُغلِق على أفهام متلقيه؛ نقول لما كانت تلك هي المهمة الأولى للتفاسير ، فقد كان للدلالة بقضاياها المتعددة وإشكالاتها المتنوعة منزلتها , وخصوصيتها في (مفاتيح الغيب) .
وكان من أهم تلك القضايا الدلالية وأبرزها في (مفاتيح الغيب) قضية ( تعدد المعنى) ؛ إذ ظهرت بكثرة في تفسير الإمام الرازي للعديد من الآيات القرآنية وتحليله لها , وكان لهذا الظهور الفِجّ والجلاء البين دوره في جذبي , واستنفار عزمي لأن أتتبع تلك الظاهرة بالدرس والتحليل , في محاولة للكشف عن مظاهرها المختلفة وأثرها في تفسير النص القرآني ، والسَّبْح في فضاءات معناه الرحيبة .
وما كان منى ـــ لحبِّّ في القلب كبير لكتاب الله الكريم ـــ إلا الاستجابةُ لهذا الاستنفار , والاستسلامُ لذلك الجذب , فكان هذا البحث الذي وفقنى الله إليه
( تعدد المعنى في النص القرآني , دراسة دلالية في تفسير مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي ) .
الدراسات السابقة :
وعلى الرغم من أهمية ظاهرة تعدد المعني وجلائها في (مفاتيح الغيب) خاصة ، وغيره من تفاسير القرآن عامة ؛ فإنها لم تأخذ كِفْلها من البحث والدرس المستقل ، اللهم إلا دراسة وحيدةً جاءت تحت عنوان (ثراء المعنى في القرآن الكريم) للباحث التركي / محمد خليل جيجك , الأستاذ المساعد بكلية الإلهيات بجامعة يوزنجويل بتركيا , وتلك الدراسة على الرغم من إخلاصها للظاهرة ، فإنها جاءت غير عميقة لغويا , وتعتمد في جانب كبير منها على عاطفة المؤلف الجياشة تجاه القرآن الكريم أكثر من اعتمادها على المعطيات اللغوية , والحقائق العلمية .
هذا وقد حمل عمل علمي آخر عنوان بحثنا ذاته ، وهو (تعدد المعنى في القرآن .. دراسة دلالية) وهو رسالة دكتوراه للباحث / عبد الرحمن أمين رواش ، حصل عليها عام 1979 بكلية دار العلوم ، وعلى الرغم من أن عنوان الدراسة هو هو عنوان بحثنا ؛ فإنها بعيدة كل البعد عن ظاهرة تعدد المعنى ، ولم تمسها من قريب أو بعيد ، وإنما اهتمت بالوجوه والنظائر في القرآن الكريم ، من خلال مؤلفات ذلك الفن ، ومن ثَمَّ فليس بينها وبين بحثنا مشابهة ، إلا في بعض ألفاظ العنوان .
خطة البحث :
وقد توزعت الدراسة على مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة ، بيانها كالتالي :
أما المقدمة فقد عرضت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره والدراسات السابقة , وبيانا لخطة البحث .
وأما التمهيد فقد انتظم مبحثين :
أولهما : تحرير المصطلح ، وعالجت فيه اضطراب المصطلحات وتداخلها في محاولتها الدلالة على ظاهرة ( تعدد المعنى ) ، وبيان علاقة كل منها بالظاهرة ومدى صدق إطلاقه عليها .
وثانيهما : تأصيل الظاهرة ، وعالجت فيه تأصيل ظاهرة ( تعدد المعنى ) من خلال مسارين اثنين ، كان أولهما تأصيل الظاهرة في مقولات عدد من القدماء والمحدثين وتطبيقاتهم على بعض النصوص ، وكان ثانيهما تأصيلاً لها من خلال عقد مقارنة بين تفسير الرازي باعتباره منتهجا منهج التفسير بالرأي، وتفسير الدر المنثور للإمام السيوطي باعتباره معتمدا على منهج التفسير بالمأثور ، وهدفت تلك المقارنة إلى إثبات أن تعدد المعنى قائم في المنهجين على السواء ، ولم يكن أحدهما يبتدع القول به من دون المنهج الآخر .
|