الأصولية المسيحية في التاريخ وأشهر دعاتها
كنت ذكرت في المقال السابق أن نصوص التوراة (العهد القديم) شاعت في الحياة الاجتماعية والثقافية اليومية والمقولات والطروحات التي ستعتبر فيما بعد من مبادئ الصهيونية وأصبحت جزءا أساسيا في الصلوات التي كانت تقام في كنائس الإصلاح الديني وأصبحت الطقوس اليهودية جزءا من طقوس الكنيسة وكثرت الدعوات التي تعتبر أتباع الديانة اليهودية المنتشرين في معظم دول العالم , شعباً قومياً مستقلا ينبغي تجميعه وتوطينه في أرض فلسطين ليقيم دولة قومية يهودية .
وإنه لمن المفارقات التاريخية العجيبة والمؤسفة أن يتبنى المصلحون الدينيون المسيحيون أو(الأصوليون المسيحيون)فكرة العودة وأرض المعاد (فلسطين) والحقيقة المؤسفة أكثر أن الصهيونية هي في الأصل أنشودة مسيحية كما يقول كينين أحد أبرز القيادات الصهيونية الأمريكية في كتابه خط الدفاع الإسرائيلي حيث يقول
(كانت الحركة الصهيونية أنشودة مسيحية قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية)
إن الأصولية المسيحية في حديثي لا أقصد بها الأصولية التي تعني المبالغة في التدين والإيحاء بصورة التعصب إن ما يعنيني بالموضوع البحث بالنزعات الأصولية التي بدأت بالظهور بين أتباع المذهب البروتستانتي في الدول الانجلو سكسونية ثم تطورت إلى أيديولوجية سياسية سادت في البلدان الأوربية التي اجتاحتها حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) فصارت معلما من معالم الكنسية الأوربية وأداة من أدوات هيمنتها وأصبحت عنصرا مهما في اللاهوت البروتستانتي ومن أكثر مقومات الثقافة الغربية رسوخا في الأذهان قبل أن تنتقل إلى القارة الأمريكية وتنغرس عميقا في الذهنية الأمريكية . إن الدهشة تصيب الكثيرين من مساندة الغرب الأوروبي والأمريكي بشتى الوسائل للوجود الصهيوني في ارض فلسطين , قد يقول البعض إن السبب يعود في معظمه إلى الأقلية اليهودية المؤثرة في الأنظمة السياسية والاقتصادية في أوروبا وأمريكيا وخاصة اللوبي اليهودي , كما أن المال اليهودي يلعب دورا هاما في هذا المجال بالسيطرة على معظم وسائل الإعلام ,ومنها أيضا الاتجاه الدعائي اليهودي في الغرب الأوروبي والأمريكي مركزا على نقطة مفادها أن العرب المتوحشون مصممين على إلقاء إسرائيل في البحر ونحن الشعب المتحضر وهم المتخلفون . نعم إنها حجج صحيحة ولكن مثل هذه الحجج المزاعم ما كانت لتلقى هذا القبول لو لم يتم التمهيد له على المدى البعيد بخلفية أيديولوجية قديمة وعميقة الجذور في الفكر الغربي والأمريكي هي أيديولوجية الأصولية المسيحية وكتابها المقدس الذي ظل ,ومافتئ يمارس سطوة ماحقة على العقول , وإذا شئنا أن نستقصي مسببات الانضواء البروتستانتي تحت مظلة الموسوية وان نحلل التأثير العميق الذي دفع هذه الشعوب إلى مناصرة الصهيونية وإسرائيل نجد أن المسؤولية الكبرى تقع على كتاب الأصولية المسيحية (العهد القديم). والدعاة الذين عملوا على نشر الدعوة الجديدة
فمارتن لوثر (1483/1546) زعيم حركة الإصلاح الديني ظل يؤكد على دور التوراة (العهد القديم) في الحياة الروحية المسيحية وكان يؤمن بأن نبوءات التوراة بتخليص بني إسرائيل ستتحقق ودعا إلى إعادة اليهود إلى ارض الميعاد وإقامة دولتهم
وعالم اللاهوت الانجليزي توماس برايتمان(1562/1607)يعتبر الأب الروحي لعقيدة بعث اليهود التي سادت في إنجلترا كان له أتباع كثيرون من معاصريه ومن بينهم أعضاء في البرلمان الانجليزي كتب عن الانبعاث اليهودي يقول ( إن اليهود كشعب سيعودون ثانية إلى فلسطين وطن آبائهم الأولين
هنري فنش المستشار القانوني لملك إنجلترا نشر كتاب البعث العالمي العظيم عام 1621 تنبأ فيه باقتراب حلول العودة واستعادة اليهود للسلطان الزمني ثم قيامهم بتأسيس إمبراطورية على نطاق العالم وعبر فيه عن إيمانه بالمستقبل الزاهر المعد لليهود في الخطة الإلهية ولذلك ظل طوال حياته يحث الأمراء المسيحيين على جمع قواهم لاستعادة (إمبراطورية الأمة اليهودية) جاء في كتابه قوله: سوف يعودون إلى وطنهم وسوف يعمرون الأرض كلها كما عمروها من قبل وسوف يعيشون بأمان ويبقون هناك إلى الأبد وسوف تكون الأرض أخصب مما كانت عليه وأكثف سكانا من قبل . ولن يكون فصل بين الأسباط العشرة وبين السبطين الآخرين , بل يؤلف الجميع مملكة كومنولث بالغ الازدهار
انغرست أفكار فينش عميقا في النفسية الانجليزية وظلت راقدة حتى انبعثت من جديد في العهد البيوريتاني اللاحق, والذي سأتحدث عنه لاحقا
أما الشاعر جون ملتون (1608/1674 ) يقول في قصيدته الفردوس المستعاد
لعل الله يعرف الوقت المناسب
سيشق لهم البحر الأحمر وهم عائدون مسرعين جذلين إلى وطنهم
كما شق البحر الأحمر ونهر الأردن عندما عاد آباؤهم للأرض الموعودة
إنني أتركهم لعنايته وللزمن الذي يختاره من أجل عودتهم
لم تكن حركة الإصلاح الديني تظهر أي عداء لليهود كما كانت الحال قبل عصر النهضة على العكس كانوا يقولون إن خطة الله تتضمن المجيء الثاني للمسيح فمن الضروري استعادة اليهود كشعب مختار لأرضهم الموعودة من أجل تمهيد المكان للمجيء الثاني ليسوع الناصري في فلسطين بعد أن يعود شعب إسرائيل إليها فالبروتستانت واليهود متفقون على عودة المسيح وعليهم انتظاره إلا أن الفرق بين اليهود والبروتستانت هو أن هؤلاء ينتظرون عودة المسيح بينما اليهود ينتظر ظهوره أول مرة , لاعتقادهم بأن المسيح الذي جاء كاذب
وقد ظل الأنجلو ساكسون البروتستانت ينادون بفكرة العودة ويفسرون نهاية العالم للقديس يوحنا على أنها تحقيق للنبوءات أي أن يوم القيامة لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان مجموع الشعب اليهودي مجتمعا في الأرض المقدسة .
وبعد انتشار البروتستانتية في أوروبا ازدهرت حركات الأصولية المسيحية وراجت الدعوات التي تحث أوروبا على تنظيم الحملات الصليبية بهدف توطين اليهود في فلسطين بصفتهم أصحابها الشرعيين وذلك تنفيذا للميثاق الإلهي المعقود مع آبائهم إبراهيم واسحق ويعقوب
ففي ألمانيا ازدهر نوع من الحركات الأصولية مثل بول فيلجنهاور الذي نشر كتاب أخبار سعيدة لإسرائيل أكد فيه أن عودة المسيح ووصول المسيح اليهودي حدث واحد
وفي السويد اندريس كيمب(1622/1689) نشر كتاب أخبار إسرائيل السارة قال فيه : إن إسرائيل هي صاحبة الحق في امتلاك أرض كنعان إلى الأبد
وفي فرنسا التي ازدهرت فيه حركة الأصوليين دعا فيليب دي لانجالير1656/1717) دعا إلى توطين اليهود في أرض فلسطين عارضا روما على الخليفة العثماني بدلا من القدس
وفي الدنمرك حث هولجر باولي ملوك أوروبا على القيام بحملة صليبية جديدة لتحرير فلسطين والقدس من الكفار وتوطين اليهود وارثيها الشرعيين
وفي عام 1696 قدم خطة مفصلة إلى ملك إنجلترا وليم الثالث طالبا إليه أن يعمل على احتلال فلسطين وتسليمها إلى اليهود لإقامة دولة خاصة بهم
وهكذا أكد الفقه البروتستانتي على مسألة الربط بين الشعب وبين الأرض ورسخ في الأذهان أن هناك علاقة قومية بين أرض فلسطين وبين الشعب اليهودي المنتشرين في العالم باعتباره سليل القبائل الإسرائيلية القديمة وعلى الرغم من دعاة المسيحية المتهودة كانوا لايشكلون قوة سياسية فإنهم ساهموا في تحديد معالم التفكير والمصطلح السياسي في هذه الفترة وازدهر في أوروبا أدب ديني ضخم يرتكز على الدور الذي قدر لليهود أن يلعبوه في مسرحية الخلاص وقد ساعد الأدب في ذلك نذكر منهم
جون لوك 1632/1704 في كتابه( تعليقات على رسائل القديس بولس ) يقول : إن الرب قادر على اليهود في كيان واحد وجعلهم في كيان مزدهر
واسحق نيوتن 1642/1727 في كتابه ملاحظات حول نبوءات دانيال ورؤيا يوحنا اللاهوتي يقول إن اليهود سيعودون لوطنهم وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل اليهود المشتتين
القس البروتستانتي جوزيف برستلي (1733/1804) وللعلم هذا مكتشف الأوكسجين يؤمن بأن المسيحية واليهودية تكمل كل منهما الأخرى ومن أقواله (آمل بأن يضع إله السماء , إله إبراهيم وإسحق ويعقوب الذي نعبده نحن المسيحيين كما تعبدونه أنتم , حدا لمعاناتكم , وأن يجمعكم ويعيد توطينكم في وطنكم أرض كنعان
اللورد بايرون يتضح في شعره عطفه الحار على إسرائيل , وإعجابه الشد بقدرة الشعب اليهودي على تجاوز المحن التي ألمت به , وتعبر مجموعته الشعرية (الألحان العبرية 1815 عن الصور والمفاهيم التوراتية الراسخة في ذهنه ويركز على الرابطة الأبدية بين اليهود وأرض فلسطين
وفي شعر روبرت براو ننج دعوة صارخة إلى عودة اليهود حيث يقول في قصيدته يوم الصليب المقدس1855
سيرحم الرب يعقوب
وسيرى إسرائيل في حِماه
عندما ترى يهوذا القدس
سينضم لهم الغرباء
وسيتشبث المسيحيون ببيت يعقوب
هكذا قال النبي وهكذا يعتقد الأنبياء
وكانت الروائية الانجليزية جورج إليوت مسيحية عميقة التدين عاشت في مطلع عمرها حياة بيوريتانية ,عاصرت مد الحركة الإنجليكانية . تقول في روايتها (دانئيل ديروندا ) إن أرض إسرائيل مرتبطة بشعب إسرائيل .ودعت فيها إلى ضرورة تسديد الدين الأدبي والمعنوي المستحق لليهود في ذمة المسيحية والعالم المتمدن ودعت إلى إرجاع اليهود إلى أرض فلسطين, وإنشاء دولة لهم فيها
أما السياسي البريطاني هنري إنس , سكرتير البحرية البريطانية , فقد رفع في كانون الثاني 1839 مذكرة إلى وزير الخارجية البريطانية بالمر ستون والمذكرة موجهة إلى ( كل دول شمال أوروبا وأمريكيا البروتستانتية تطالب الحاكم الأوروبيين بأن يحتذوا حذو كورش الفارسي , ويحققوا إرادة الله عن طريق إعادة اليهود إلى فلسطين وتضمنت المذكرة الكثير من الاقتباسات من التوراة . وقام بالمرستون برفع المذ1كرة إلى الملكة فيكتوريا والملاحظ أن الصحف البريطانية أحاطت المذكرة بكثير من التوهج الإعلامي فقالت التايمز(17/آب/1840)مثلا إن اقتراح توطين اليهود في أرض آبائهم وبحماية القوى الخمس لم تعد مسألة تفكير وتأمل بل قضية سياسية خطيرة
والخلاصة أن معظم الدعاة الذين حملوا مشعل الدعوة لعودة اليهود إلى فلسطين كانوا من المسيحيين الأصوليين وقد غدت إيديولوجيتهم أهم قاعدة غير يهودية للنفوذ الصهيوني ولا تزال
وعلى الرغم من تعدد الطوائف والفرق والاتجاهات المذهبية المسيحية فإن التعبير الأوضح والأقوى عن الميول الأصولية في المجتمعات المسيحية يتركز في الطائفة البروتستانتية التي تفرع عنها مذاهب متعددة أيضا , لعل أشدها تطرفا مذهب البيوريتانية (التطهرية) الذي سد في إتجلترا في القرن السابع عشر
كان البيوريتانيون شديدي المحافظة على التقاليد العبرانية وكان مذهبهم بمثابة بعث للروح اليهودية القديمة وتميزوا باعتمادهم على العهد القديم فاعتبروه وحيا سماويا , يغذي الفكر ويرشد نحو الصلاح وسأتحدث عن هذه الفئة في الجزء التالي للموضوع
ومن الجدير بالذكر وللحقيقة أن مسيحيي الدول العربية لم يعرفوا الأصولية المسيحية كما الغرب بل كانت لهم مواقف مشرفة وكانوا أول المعادين لفكرة الصهيونية المسيحية وإن أول مفكر عربي تنبأ بأبعاد الصراع العربي الصهيوني
هو المفكر المسيحي(اللبناني الأصل الفلسطيني الإقامة?) نجيب عاز وري
مصطفى لطفي يتبع /عن المسيحية المتصهينة في التاريخ |