لعلها مفيدة كن أول من يقيّم
أخي الكريم
إليك بعض المعلومات و التحليل لنص لمحمد مهران السيد :
محمد مهران السيد.. الدم في الحدائق
د. حسين علي محمد
محمد مهران السيد (1927 ـ 2000) أحد شعراء جيل الستينيات الذين لم يلتفت إليهم النقد بما فيه الكفاية، فقد كُتبت عنه دراسات قليلة بأقلام نقاد وشعراء يعرفون قدره، (منهم صاحب هذه السطور الذي نشر عنه دراستين من قبل) لكنني لم أر كتاباً يدرس شعره كلَّه، أو يتحدث عن تجربته الشعرية الطويلة التي اقتربت من نصف قرن!
ولد عام 1927 في سوهاج وتوفي في القاهرة عام 2000م.. حصل على دبلوم المعلمين 1947. عمل في الصحافة بمجلة الثقافة (القديمة) ومجلة الشعر، والملحق الأدبي والفني لمجلة الموقف العربي، ومجلة الشرق السعودية، ومجلة الإذاعة والتلفزيون، إلى أن أحيل إلى التقاعد 1987. نشر شعره في الكثير من الصحف والمجلات العربية.
دواوينه الشعرية: بدلاً من الكذب 1967- الدم في الحدائق (مشترك) 1971- ثرثرة لا اعتذار لها 1979- زمن الرطانات 1980- طائر الشمس 1991 وله مسرحيتان شعريتان هما: الحرية والسهم 1971- حكاية من وادي الملح 1975. حصل على جائزة الدولة التشجيعية للشعر 1993
لقد فقد محمد مهران السيد كل أشعاره الأولى "من عام 1950م إلى عام 1959م نتيجة لظروفه الخاصة"، ثم أصدر في نهاية الستينيات مجموعة مشتركة بعنوان "الدم في الحدائق" مع الشاعرين حسن توفيق وعز الدين المناصرة، ومن قبلها أصدر ديوانه "بدلاً من الكذب"، لكن البداية الحقيقية كانت في مجموعته المشتركة "الدم في الحدائق".
لقد بدأ في مجموعته هذه مراجعاً لمواقفه الفكرية والجمالية، منتقداً تجربة الحكم الشمولي التي أوصلتنا للهزيمة عام 1967م. يقول في قصيدته الأولى التي بعنوان "توطئة":
جميعُ ما قالوهُ في الهوى كذِبْ
ألحانُ هذا العودِ تجلبُ الصُّداعْ
والدُّفُّ يزرعُ الأرَقْ
وكلُّ ما سمعتُ.. كانَ واضحَ النَّشَازْ
من أجلِ ذلكْ
جرَّبْتُ ما جرَّبْتُ منْ مُسكِّناتْ
وأثقلَتْ جيبي فواتيرُ الدواءْ
فجرعةً مع الصباحِ .. حبَّتَيْنِ في المساءْ
وكانَ دائيَ .. النَّزّقْ
إنه في هذه القطعة ـ في خاتمة القصيدة ـ يُدين عصره الذي خُدِع به، ويتكلم في لغة تستخدم مفردات الحياة النثرية: قالوه، كذب، العود، الصداع، الدف، الأرق، سمعت، واضح النشاز، مسكنات، فواتير الدواء، جرعة، حبتين..
استخدامه نثرية مفردات الحياة، داخل سياق شاعرية القصيدة كانت صدمة جديدة للقصيدة العربية، تُشبه تلك الصدمة التي أحدثها الأديب محمد حافظ رجب ـ قبل ذلك بعدة سنوات ـ في عالم القصة القصيرة، حينما نشر قصته المدوية "الكرة ورأس الرجل" (مجلة "القصة"، العدد السابع، يوليو 1964م).
وبتشعير هذه النثرية في قصائد محمد مهران السيد أبرز تجربته مع الآخر، الذي خُدِع به كثيراً.. لقد وجد أن كل كلامه كذب، ودعايته التي يظن من خلالها انه يُغني كلاماً عذباً يُحبه المستمعون (عبر عن ذلك بـ "العود" هذه الآلة المُطربة)، إن هذه الدعاية ليست أكثر من كلام أجوف مكرّر (يُشبه الدف) الذي يجعل الإنسان مؤرَّقاً، ويُبعده عن ناصية الأحلام المشروعة!
إن مرض شاعرنا الذي أثقل جيبه بفواتير الدواء ليس مرضاً عضويا، وإنما مرض من الآخر الذي خدعَهُ وغرَّر به، وجعل الأعداء يقتحمون الدارَ، ويقفون على مرمى حجر منه!
ويُصبح الآخر نائياً وقصِيًّا عن الشاعر، ونراه في قصيدته "ولكلٍّ وجهته" يتحدث عن محبوبته الأنثى / الوطن، ويرى انه بعيد وقصي، ولا مجال للقاء مع المحبوبة:
مرَّ الوقتُ ولمْ نقطعْ شبراً في الدَّربْ
لم نتقدَّمْ أوْ نتأخَّرْ
رغمَ نضالِ الكلماتْ
واستبدلْنا الألفاظَ بأُخرى
وبدأنا أكثرَ منْ مرَّهْ
ولجأنا لإشاراتِ الأيْدي
وأخذْنا نتذكَّرُ ألفَ علاجٍ للأزْماتْ
لكنْ لا جدوى..
فهناك.. مسافاتٌ.. ومسافاتٌ.. ومسافاتْ
إن جمالية لغة النص هنا تنبع من تجربة الشاعر التي استوعبت تجربة شعب، إنها تبغي ما يريده النص الشعري الذي يتكئ على الدِّراما من محاولة تحقيق: نحن / هنا / الآن، وهي تُشير إلى ذلك في براعة، مستخدمةً ألفاظاً يستخدمها العامة (أو قريبة من استعمال العامة)، لتُعبِّر عن أزمة مجتمع أسلم قياده إلى من ناضل بالكلمات، وإشارات الأيدي، وتذكّر ألف علاج للأزمات ! إنها مأساة من يستبدل القول بالفعل، والخداع والزيف بالصراحة والأمانة وتحمل المسؤولية.
لكن الشاعر في النهاية بدا يائساً وهو يُكرِّر لفظة "مسافات"، وكأن السواد أحاط بأركان الدنيا حوله، فلم يعد يُبصر عندها بصيصاً من أمل.
كان محمد مهران السيد رحمه الله أحد شعراء القصيدة الجديدة، وهو شاعر جدير بالقراءة والدرس والاهتمام النقدي.
تحياتي لك
|