المنهج الصوفي المعرفي والسلوكي في حياة الأستاذ النورسي كن أول من يقيّم
|
|
2005-07-25 |
|
المنهج الصوفي المعرفي والسلوكي في حياة الأستاذ النورسي |
د.محمود أبو الهدى الحسيني |
أولًا -تمهيد:
|
أولًا -
يتميز عظماء أمتنا الذين انفعل الزمان لسِيَرِهم، بأنهم جمعوا من معين دين الإسلام أمورًا ثلاثة:
العلم الواسع القابل للتطبيق العملي.
والدعوة المتدفقة بحيويتها وحركتها.
والتصوف المحرق الذي ينفخ الروح في العلم والدعوة.
والأستاذ النورسي واحد من أولئك العظماء، الذين جمعوا تلك المضمونات، ومزجوها في وعاءٍ واحدٍ، حتى إنه يكادُ غير المستبصر لا يميز بين تلك المضمونات الثلاثة في حياته ورسائله، وربما قرأ بعضهم أو رأى مضمونًا واحدًا يتناسب مع شخصه وفكره لا مع حياة الأستاذ وسيرته الشاملة، وهو بهذا يقرأ ما وصل إليه هو من الأستاذ، ولا يكون قارئًا لما كتبه الأستاذ نفسه.
ومن هنا كان للندواتِ الفضلُ في فرز الموضوعات، وتنبيهِ الباحثين والدارسين على الجوانب التي لم تلح لهم من قبل، مع أنهم يمرون عليها مصبحين وفي الليل، ولا يتدبرون ما فيها من المعاني والآيات.
ولعلَّ كثرةَ أخبارِ الأستاذ في الدعوة والجهاد والعلوم، شغلتْ بعضهم عن رؤيةِ سِرِّه الباطن وحقيقته الباهرة.
وأجزم بتصوف الأستاذ، وحسبي لمعرفة رقيِّ تصوفه أنه بلسان قلمه الصادق يقِرُّ بأنه ارتقى إلى رتبة "تلميذ القرآن"[1]، ويحمد الله تعالى على أن وُفِّق إلى "جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده" [2] ويكشف النقاب عن فلكه بين شموس التصوف وأعلامه الذين وصلوا إلى رتبة التلمذة على القرآن بقوله: "فانظر إلى تلاميذ التنـزيل من الأولياء أمثالِ الكيلاني، والرفاعي والشاذلي" [3]
ولقراءة تصوف الأستاذ وتلمس بركاتِ سلوكه، لا بد من التصنيف والتفقيـر، وقد جعلت البحث في المحورين الآتيين:
- تصوف الأستاذ في حقائقه.
- وتصوف الأستاذ في طرائقه.
وما أعنيه في هذا التقسيم راجعٌ إلى كونِ الدينِ أركانًا ثلاثةً، " الإسلام والإيمان والإحسان" وكونِ "ركني الإسلام والإيمان" كالوسائل والطرائق لركن الإحسان، وكون التصوف في غاياته إحسانيًا، وفي طرائقه إسلاميًّا إيمانيًّا .
ثانيًا ? البحث:
أ- تصوف الأستاذ في حقائقه:
قدمتُ الحقائق على الطرائق؛ لأنها المقصود والغاية، وما أكثر المشتغلين بالطرائق، وما أقل المتحققين بالحقائق. ورحم الله القائل:
خليليَّ قُطّاعُ الفيافي إلى الحمى كثيرٌ فأما الواصلون قليلُ
ولا أعني بالمتحققين بالحقائق من تكلم باصطلاحها، فالمتكلمون باصطلاحاتها كثيرٌ أيضًا، ولكنّي أعني بهم من سلكوا بقلوبهم وأرواحهم، بعدما تبينوا المعالم بعقولهم، وساروا إلى مولاهم بكُلِّ ما آتاهم من عطيّةٍ وفضل.
والأستاذ النورسي هو من هذا النوعِ الفاضل، الذي يَعتبرُ نظر العقل، ثم يسير فاتحًا بصر قلبه وروحه، مشاهدًا أمامَه في هذا المسلك عظماءَ أهلِ الحقيقة كالإمامِ الغزالي ، وجلالِ الدين الرومي[4].
أ-1 ? حقيقة معرفة الله:
أ-1 ?1ً- أداة هذه المعرفة:
إن أداة المعرفة عند الأستاذ هي الروح والقلب، وحين استرشد بالقرآن الكريم سلك إلى حقائقه بروحه وقلبه وقال معبرًا عن سيره: "فشرع بإرشادٍ من ذلك الأستاذ القدسيِّ، بالسلوك بروحه وقلبه" [5]. وبيَّـنَ أنه ما كتب مثنويَّه إلا ليكون معبرًا عن ذوقه وشهوده فقال: "ما كتبتُ إلا ما شاهدتُ" [6]؛ لأن ذلك المثنوي العربي هو "نوع تفسيرٍ شهوديٍّ لبعض الآيات القرآنية" [7].
وقال : " والقلب مرآة الأحد الصمد، لكن له شعورُ إحساس بما تجلّى فيه، وعلاقةٌ مفتونيّةٌ بما تمثل فيه، خلافًا لسائر المرايا " [8].
وليس مقبولًا عند الأستاذ أن يخوض الفكر والعقل في الحقائق الصوفية الذوقية بمقاييسهما المجردة، وهو يرى أنَّ أهل الفكر والعقل حينما حصروها في المقاييس الفكرية والعقلية جعلوها مصدر كثير من الأوهام والأفكار الباطلة[9].
وكان يرى أن مداومة النظر في مجرد كتب الفلسفة تورث العقل بعض الأسقام، وأنه لا بد للحكيم الذي يطالعها من تصفية عقله من شوائبها، وقال يصف سيره : "بل جهد كل الجهد أولًا لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثته إياها مداومة النظر في كتب الفلسفة" [10].
وقال: "قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في ازدياد المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي، فالأمراض المعنوية توصِلُ إلى علوم عقلية، كما أن العلوم العقلية تولّد امراضًا قلبية" [11].
ويتبين مما تقدم أنَّ أداة المعرفة لديه أصلًا هي الروح والقلب، أما العقل فإنه يصلح أن يكون مبتدأ الطريق ثم لا بد له من الخضوع لسلطان الروح.
ويظهر بهذا جَلِيًّا تجانسُ مشربه مع مشرب مولانا الرومي، الذي يقول في ديوانه شمس تبريز:
"رأى العقل سوقًا فبدأ بالتجارة، ورأى العشق أسواقًا كثيرة وراء سوق العقل" [12].... "للعشاق الذين شربوا حتى الثمالة أذواقٌ في داخلهم، ولأرباب العقل المظلمي القلوب إنكارٌ في داخلهم" [13] .... "وبرغم أن العقل صاحب الصدارة وعالـمٌ نحرير، فإن رداءه وعمامته صارا رهنًا عند كأس العشق" [14] ..." العقلُ لا يعرفُ ويغدو حيرانَ أمام مذهب العشق، رغم أنه مُطّلعٌ على جملة المذاهب" [15].
أ-1 ?2ً- مراتب هذه المعرفة:
إن أولى مراتب معرفة الله تعالى الذوقية: التوحيدُ الحضوري الشهودي، والأستاذُ يقرر أن التوحيد توحيدان:
- توحيدٌ عامي ... يمكن تداخُلُ الغفلات بل الضلالات في أفكار صاحبه.
- وتوحيدٌ حقيقي يقول: ?هو الله وحده له الملك، وله الكون، له كل شيء? ... يثبته له إثباتًا حضوريًا، ولا يمكن تداخل الضلالة والأوهام في هذا التوحيد [16].
يتبع.................. |