وقد روى عبد الرزاق فى تفسيره حدثنا الثورى عن ابن عباس أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام قسم تعرفه العرب فى كلامها وقسم لا يعذر أحد بجهالته يقول من الحلال والحرام وقسم يعلمه العلماء خاصة وقسم لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب وهذا تقسيم صحيح
فأما الذى تعرفه العرب فهو الذى يرجع فيه إلى لسانهم وذلك شأن اللغة والإعراب فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر
وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص فى حق الجميع
إذا تقرر ذلك فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد فى لسان العرب وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ولا يكفى فى حقه تعلم اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين الثانى ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى
فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وأنه لا شريك له فى إلهيته وإن لم يعلم أن لا موضوعة فى اللغة للنفى وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به فى الوجود وإن لم يعلم أن صيغة أفعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة
الثالث ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآى المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما فى الأرحام وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه فى القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد فى تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه إما نص من التنزيل أو بيان من النبى صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة على تأويله فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه
والرابع ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذى يغلب عليه إطلاق التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذى لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه
وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان أحدهما أن يكون أحدهما أظهر من الآخر فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يعوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه
الثانى أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة وهذا على ضربين
أحدهما أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين هو فى أحدهما حقيقة لغوية وفى الآخر حقيقة شرعية فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ولو دار بين الشرعية والعرفية فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم
الضرب الثانى لا تختلف أصل الحقيقة بل كلا المعنيين استعمل فيهما فى اللغة أو فى الشرع أو العرف على حد سواء وهذا أيضا على ضربين
أحدهما أن يتنافيا اجتماعا ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء حقيقة فى الحيض والطهر فعلى المجتهد أن يجتهد فى المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فإذا وصل إليه كان هو مراد الله فى حقه وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى فى حقه لأنه نتيجة اجتهاده وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم فمنهم من قال يخير فى الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين
الضرب الثانى ألا يتنافيا اجتماعا فيجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ فى الإعجاز والفصاحة وأحفظ فى حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما وهذا أيضا ضربان
أحدهما أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر فيتعين المدلول عليه للإرادة
الثانى ألا يقتضى بطلانه وهذا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر بل يجوز أن يكون مرادا أيضا وأن لم يدل عليه دليل من خارج لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا فى حكمه وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج ومنهم من قال ما ترجح بدليل من خارج اثبت حكما من الآخر لقوته بماظاهرة الدليل الآخر
فهذا أصل نافع معتبر فى وجوه التفسير فى اللفظ المحتمل والله أعلم
إذا تقرر ذلك فينزل قوله صلى الله عليه وسلم من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده عن النار على قسمين من هذه الأربعة
أحدهما تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب
الثاني حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة انواع من العلوم علم العربية واللغة والتبحر فيهما ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والعموم والخصوص والظاهر والمضمر والمحكم والمتشابه والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكتابة والمطلق والمقيد ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول يحتمل كذا ولا يجزم إلا فى حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله
فإن قيل فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ما نزل من القرآن من آية الا ولها ظهر وبطن ولكن حرف حد ولكل حد مطلع فما معنى ذلك قلت اما قوله ظهر وبطن ففي تاويله اربعة اقوال
احدها وهو قول الحسن انك اذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها
الثاي قول ابي عبيدة ان القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وباطنها عظة للآخرين
الثالث قول ابن مسعود رضي الله عنه انه ما من آية الا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها
الرابع قاله بعض المتأخرين ان ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها
وقول ابي عبيدة اقربها وأما قوله ولكل حرف حد ففيه تأويلان
احدهما لكل حرف منتهي فيما اراد الله من معناه
الثاني معناه ان لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب
وأما قوله ولكل حد مطلع ففيه قولان
احدهما لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل الى معرفته ويوقف على المراد به
والثاني لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب مطلع يطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة
وقال بعضهم منه ما لا يعلم تأويله الا الله الواحد القهار وذلك آجال حادثة في اوقات آتية كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم وما اشبه ذلكلقوله لا يجليها لوقتها الا هو ثقلت في السموات والأرض ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن وذلك ابانه غرائبه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها فإن ذلك لايجهله احد منهم وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا انما نحن مصلحون الا انهم هم المفسدون ولكن لايشعرون لم يجهل ان معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة وأن الصلاح مما ينبغي فعله مما هو منفعة وإن جهل المعاني التي جعلها الله افسادا والمعاني التي جعلها الله اصلاحا فأما تعليم التفسير ونقله عمن قوله حجة ففيه ثواب وأجر عظيم كتعليم الأحكام من الحلال والحرام تنبيه في كلام الصوفية في تفسير القرآن فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن فقيل ليس تفسيرا وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ان المراد النفس فأمرنا بقتال من يلينا لأنها اقرب شيء الينا واقرب شيء الى الإنسان نفسه
قال ابن الصلاح في فتاويه وقد وجدت عن الإمام ابي الحسن الواحدي انهصنف ابو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان اعتقد ان ذلك تفسير فقد كفر
قال وأنا اقول الظن بمن يوثق به منهم اذا قال شيئا من امثال ذلك انه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرىن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير فمن ذلك مثال النفس في الآية المذكورة فكأنه قال امرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس انتهى فصل حكى الشيخ ابو حيان عن بعض من عاصره ان طالب علم التفسير مضطر الى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد الى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك ثم بالغ الشيخ في رده لأثر على السابق
والحق ان علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه مالايتوقف ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ليحمل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط تجويزا له وازديادا وهذا من الفورع في الدين تنخيل لما سبق
واعلم ان القرآن قسمان احدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره وقسم لم يرد والاول ثلاثة انواع اما ان يرد التفسير عن النبي صلى الله عيه وسلم او عن الصحابة او عن رءوس التابعين فالاول يبحث في عن صحة السند والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم اهل اللسان فلا شك في اعتمادهم وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه وحينئذ ان تعارضت اقوال جماعة من الصحابة فإن امكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال اللهم علمه التاويل وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم افرضكم زيد فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن ياخذ بأيها شاء وأما الثالث وهم رءوس التابعين اذا لم يرفعوه الى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى احد من الصحابة رضي الله عنهم فحيث جاز التقليد فيما سبق فكذا هنا وإلا وجب الاجتهاد
الثاني ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين وهو قليل وطريق التوصل الى فهمه النظر الى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب المفردات فيذكر قيدا زائدا على اهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتصه من السياق. |