موقف الإسلام من الشعر
كثيرا ما نسمع بعض الناس يردد أقوالا مفادها أن الإسلام وقف موقف المناويء من الشعر ، وان القران هاجم الشعراء لأنهم لبسوا ثابتين على العقيدة ، وأن أهواءهم تقودهم ، لكن الواقع ليس كذلك ، فعندما جاء الإسلام ، انقسم الشعراء تجاهه إلى فريقين : الفريق الأول امن به وآزره ، ودعا إلى تبني مباديء الإسلام في شعره ، والفريق الثاني وقف ضده مدافعا عن المباديء الجاهلية التي كانت سائدة حينذاك شاهرا سلاحه الشعري ضد انتصارات الدين الجديد ، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية ودينية ،، وقد كان الفريق الأول يمثله الشعراء المسلمون الأوائل لاسيما شعراء المدينة الأنصار الذين نصروا النبي وآزروه والمهاجرين معه وآخى الرسول الكريم بين اهل المدينة المنورة وبين ضيوفهم المهاجرين وكان على راس شعراء الفريق الأول ثلاثة شعراء هم : حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة
ويمثل الفريق الثاني الشعراء الذين اثروا عدم الإسلام وهم شعراء قريش أمثال :
عبد الله بن الربعري وأبي سفيان بن الحارث وهبيرة بن أبي وهب ، ويؤيدهم في هذا الموقف شعراء اليهود الذين نكثوا عهدهم مع الرسول في حسن الجوار مثل كعب بن الاشرف والربيع بن الحقيق ومرحب اليهودي ، بالإضافة الى شعراء بعض القبائل العربية التي كانت حليفة لقريش مثل أمية بن أبي الصلت الثقفي
والإسلام مثلما هاجم بعض الشعراء لموقفهم المعادي لمبادئه وتعاليمه ، فانه اتخذ موقف المناصر والمشجع للشعراء الذين دافعوا عنه ووقفوا يصدون عنه هجوم الأعداء ، وهذا يعني أن الدين الإسلامي اتخذ ومنذ البداية مواقف تنسجم وطبيعة المرحلة التي يمر بها .... فالمواقف الإسلامية مع الشعر أو ضده حتمته المباديء
فمناصرة شعراء معينين ومعاداة شعراء آخرين لم تكن اعتباطية أو عشوائية ، بل كانت ملائمة مع الظروف السائدة يومئذ
الدين الإسلامي هاجم نوعا من الشعر في مرحلة محددة وهي مرحلة بداية الإسلام في المدينة المنورة ، حيث اتهم المشركون الرسول الكريم ( ص ) بأنه شاعر وبان حديثه شعر وانه واضع للقران ، والإسلام حينما هاجم هؤلاء لم ينه عن قول الشعر ، لكنه اتسم بالتوجيه الأخلاقي وبكثرة التهذيب لأتباعه ، والحث على مكارم الأخلاق ، لهذا يمكننا أن نقول انه شجع الشعر مع التوجيه على الخلق الرفيع والابتعاد عن سفا سف الأمور وصغائرها ، وذلك حسب مقتضيات الأحوال وطبيعة الأحداث التي رافقت الدعوة الإسلامية ، فلا يمكن النظر إلى الشعر بمعزل عن الظروف الأخرى التي أحاطت بالدين الإسلامي
لقد فند الإسلام اتهامات الأعداء للرسول الكريم بأنه من كتب القران ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ، إن هو إلا ذكر وقران مبين ) كما انه رد على موقف الشعراء المعادي بقوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ، الم تر أنهم في كل واد يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ) نجد القران الكريم يستثني الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد تعرضهم للظلم من هجومه والقران الكريم في معرض رده على دعاوى الأعداء ( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ) هذه الآيات تعتبر دفاعا عن القران ضد مزاعمهم انه شعر ، فهو لم يكن شعرا ، والرسول الكريم ليس بشاعر ، ولكن لماذا يحرص القران على تفنيد المزاعم القائلة بان الرسول شاعر ? لأن من طبيعة الشعراء المغالاة والعاطفية وأنهم يقولون ما يفعلون ، فهم يتصفون بالغلو والمبالغة ومجانبة الصواب في أكثر شعرهم ، وقد قيل بان أعذب الشعر أكذبه والكذب صفة ذميمة برأ الله رسوله الأمين الصادق منها ، ولو كان الرسول شاعرا كما ادعى المتقولون لنسب العرب بلاغته الكبيرة في تبليغ الدعوة إلى ملكة الشعر أو شيطانه ، ولا صبحوا مصيبين باتهامهم محمدا بالشعر ، فلم يرو المؤرخون بان الرسول قد نظم شعرا مع انه أفصح العرب وأشدهم بلاغة ( إني أفصح العرب بيد أني من قريش )
كان شعراء المدينة الأنصار من أشهر من وقف مع الرسول ضمن الفريق الأول ، كان حسان وكعب يردان على شعراء المهاجمين ويدافعان عن الدين الإسلامي بمثل الطريقة القديمة في الفخر والمدح والهجاء أي بذكر الوقائع والايام والماثر والأنساب ويعيرانهم بالمثالب .... أما عبد الله بن رواحة فكان يعير بالكفر وعبادة الأوثان ، فكان شعر حسان وكعب شديدا على الأعداء قبل إسلامهم ، وكان شعر عبد الله بن رواحة سهلا عليهم ، فلما أسلموا ، وفقهوا الدين تغيرت وجهات نظرهم فأصبح أشد القول عليهم شعر ابن رواحة
احتدم الصراع وأضطرم بين الفريقين المتصارعين ، وحين تم نصر الله ، وفتحت مكة دخل معظم الشعراء العرب إلى الدين الإسلامي يدافعون عنه ضد أعدائه ، ظهر بعض اللين والضعف في المستوى الفني للشعر الإسلامي ، ومرد ذلك ان الشعراء في تلك المرحلة كانوا دون مستوى الحدث ، فلم يوفقوا كثيرا في تمثل القيم الجديدة والمباديء الناصعة التي أتى بها الإسلام ، وكان لهذا أثره في خمول الشعر وضعفه ، إذا ما قورن بشعر ما قبل الإسلام ، ولهذا الضعف أسباب عديدة منها انشغال الناس بالقران وبلاغته وسمو كلماته ، وشعور المسلمين بالعجز عن مجاراته ، سواء بالشكل أو المضمون ، فانصرفوا عن قول الشعر ، وهذا ما يذكره ابن خلدون في مقدمته ، حيث يذكر ما معناه أن العرب انصرفوا عن قول الشعر أول الإسلام لانشغالهم بأمور الدين والنبوة ولاندهاشهم بأسلوب القران ونظمه ، كما إن المسلمين الذين ملأ الإيمان قلوبهم تحرجوا من النظم خشية أن ينالهم غضب الله ( الشعراء يتبعهم الغاوون ) فاثر بعض الشعراء الصمت مثل لبيد والنابغة الجعدي ، وبعضهم ضعف شعره ، لأنه ابتعد عن الهجاء المقذع والفخر الفاحش والمديح الكاذب ، والإسلام قد أبطل الدوافع الجاهلية التي تنشط الشعر ونهى عنها
إذا ما درسنا الشعر إبان تلك الفترة وجدنا بونا شاسعا بين نظم شعراء معينين في عصر ما قبل الإسلام ونظم قالوه هم أنفسهم في عصر صدر الإسلام من حيث القوة والمستوى الفني ، ومع ذلك ان هذا الكلام لايعني أن الإسلام حارب الشعر أو نهى عنه كما ذهب بعضهم مستندين إلى بعض الآيات من القران الكريم ، فان الشعر لم يحارب لذاته ، وإنما حورب بعضه ، ذلك الذي اعتمد على الأهواء والانفعالات
القضية إذن فيم يتناول الشعراء من المعاني والأغراض وقد قال الرسول : ( إنما الشعر كلام مؤلف ، فما وافق الحق فهو حسن ، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه ) أما الحديث الذي تناوله الرواة على انه تعبير معاد للشعر ونصه( لئن يمتليء جوف أحدكم قيحا ودما خير من أن يمتليء شعرا ) فان الحديث لم يرو كاملا وتكملته ( هجيت به ) وفي هذه التكملة يتضح جليا موقف الرسول من الشعر فهو لم ينه عنه ، إنما نهى عن لون معين وعن موضوعات خاصة تقوم على هجائه الذي يعني هجاء الدعوة ومحاربة الدين
من الطبيعي أن يصرف الإسلام الشعراء عن شعر العصبية وإثارة البغضاء والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد كما نهى عن الشعر الماجن البعيد عن الفضيلة ، ويمكن أن نخلص إلى القول إن الرسول أقر قول الشعر وحث عليه وأثنى على شعراء الدعوة المناصرين لها. صبيحة شبر
|