لقد جاء ذكر للبحر في الشعر الجاهلي. وهو قليل القليل. فلا الشعراء الذين وصلنا منهم هذا القليل ولا الرواة الذين قدموا لنا ذلك القليل قد كانوا على معرفة جيدة بالبحر. فقد وقف شعراء الجاهلية على أطلال مضارب من يحبون في الصحراء وبعيداً عن البحر. كما عاش الرواة في حواضر بعيدة عن البحر: في الكوفة والبصرة.
.
هناك تشبيه لدخول الليل كأنه مد أمواج البحر، وهناك التفاخر ، لدرجة الغثيان، في ملء البحر بالسفن بعد أن ضاق البر عن ذلك الشاعر الجاهلي وقبيلته.
.
وهناك وصف لشاعر جاهلي آخر، يشبِّه ناقته بسفينة عدولية من سفن إبن يامن، "يخور بها الملاح طوراً ويهتدي". فقد جاء في كتب التراث كلمة "يجور" بالجيم، لكني أرجح كلمة "يخور" بالخاء المعجمة. وليتسع صدر القارئ قليلاً، ولبضع دقائق، كي أشرح وجهة نظري والعلة في اختياري كلمة "يخور" بالخاء المعجمة.
.
الشاعر طرفة بن العبد عاش حياته القصيرة في بادية شرقي الجزيرة العربية (البحرين)، وربما شاهد السفن وهي مبحرة في الخليج العربي. وكل من رأى تلك السفن الشراعية وهي متجهة لأعالي الخليج (في اتجاه الشمال) لاحظ تلك الطريقة في السير عكس الرياح الشمالية التي تتبعها السفن الشراعية. هذه الطريقة في الملاحة عكس الرياح تعرف في لهجات أهل البحر المحلية بالـ"خوارة"، بالخاء. يرى المشاهد السفينة تزور عن الشمال ــ مرة ذات اليمين، ومرة ذات اليسار، ومرة باتجاه الجنوب. (إرجع إلى كتاب "العرب والملاحة في المحيط الهندي"، تأليف جورج حوراني، مطبعة جامعة برينستون، سنة 1951، تعريب سيد يعقوب بكر، القاهرة، سنة 1958، ففي الكتاب الشرح الوافي لطرق الإبحار في الخليج).
.
وإني أشجع من كانت عنده الفرصة لمشاهدة الزوارق الشراعية الحديثة، ذات الأشرعة الثلاثية الشكل، أن يفعل ذلك. فطريقة إبحارها تثير العجب وهي متجهة عكس اتجاه الرياح. أما القارئ الذي قد سبق وأن أبحر في زورق شراعي في الخليج، فلا حاجة له في هذا الشرح المطول.
.
(أبو عروة)