الجاحظ (255هـ) والكندي (252هـ) كن أول من يقيّم
الجاحظ (255 هـ)والكندي (255هـ) من الغريب حقا أن يتغاضى الجاحظ عن أول فيلسوف عربي عاصره! ومن الغريب ألا يُعير أعماله الموسوعية أدنى اهتمام! مع العلم أن فكر الكندي أقرب إلى الاعتزال! والجاحظ من أهل الاعتزال! وهل الكندي في كتاب البخلاء هو الفيلسوف المعروف؟ أولا: نجد الجاحظ يؤلِّفُ كتاباً في الكندي بعنوان" فرْطُ جهْل يعقوب بن إسحاق الكندي". وهو من الكتب الضائعة للجاحظ. والعنوان يشي بتهكم الجاحظ منه وعدم ثقته بعلمه! ثانيا: و في "كتاب الحيوان" للجاحظ وهو معرض لكل الثقافات ومجال للمعارف الطبيعية والتاريخية والطبية، قال عنه صاحبه في المقدمة:"أخَذَ من طرف الفلسفة وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة"(1). هذا الكتاب لم يلتفت فيه الجاحظ ولو بإشارة واحدة إلى مصنفات الكندي [التي أبلغها بعضهم إلى 361 رسالة، ما بقي منها مطبوعا ومترجما يبلغ 83 رسالة]. واكتفى الجاحظ بالسخرية منه سخريةً مُرَّةً، من خلال خبَر ذكره مرتيْن إمعاناً منه في الاستهزاء به: - "وكان عند يعقوب بن الصباح الأشعتي، هِرَّانِ ضخمان، أحدهما يكوم الآخر متى أراده، من غير إكراه" [ الحيوان:3/186]. – " فخبرني صاحبنا (...) أن في منزل أبي يوسف يعقوب بن إسحاق، هِرَِيْنِ ذكريْنـ يكوم أحدهما الآخر" [الحيوان:5/316]. ثالثا: في كتاب البخلاء تحدث الجاحظ عن الكندي، مركزا على صفة البخل فيه؛ فقد جعله غنيا يملك دُوراً للكراء، ويشترط على السكان"أن يكون له رَوْثُ الدبة، وبعَرُ الشاة ونِشوان العَلوفة، وألاَّ يُلقُوا عظْماً، ولا يُخرجوا كُساحةً، وأن يكون له نَوى التمْر، وقشور الرمان، والغَرْفة من كل قِدْرٍ تُطبَخُ للحُبلى في بيته"(2) ويربط بَذْلّ المال بالمعتقد على طريقته؛ فالبَذْلُ ابتذالٌ للنعمة، وبه يُهين الإنسان نفسّه بإكرام غيره"،:وإن من أخطاَ على نفسه، فهو أجدر أن يُخطئ على غيره، ومن أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يوجد في العين؛ كان أجدرَ أن يُخطئ في باطن دينه، وفيما يوجد من العقل"(3). والغريب حقا أن يجعل الجاحظ الكندي بطله في أطول قصة في بخلائه، وأن يستحضر طاقته الفنية بكل مقوماتها لتحليل شخصية البخيل. وغايتُه أن يُخلِّد بخلَ الكندي في مظاهره الاجتماعية والنفسية. وذهب طه الحاجري إلى أن الكندي في "كتاب البخلاء" للجاحظ لا يُرادُ به الفيلسوف الشهير يعقوب بن إسحاق الكندي(4). والحق أن ما قدمه لا يثبت عند التحقيق؛ فالفيلسوف عُرِف بالبخل؛ فابن النديم في القرن الرابع قال عنه "وكان بخيلا"(5). وجاء الحصري (413 هـ) ليقرر أيضا أنه كان بخيلا (6). أما ابن أبي أصيبعة فيذكر من وصايا الكندي لولده:"والدينار محموم فإن صرفْتَه مات. والدرهم محبوس فإن أرجتَه فرَّ. والناس سََخَرَةٌ فخُذْ شيئهم واحفَظْ شيئك"(7). فبخل الكندي ثابت في المصادر القديمة. رابعا: ومما يؤكد أن بخيل الجاحظ هو الكندي الفيلسوف ما يلي: (أ) تأليف الجاحظ في فرط جهل الكندي، واستهزاؤه به في "كتاب الحيوان"، مع التغاضي عن اهتماماته العلمية. (ب) تلك الرسالة التي وجهها الكندي في "البخلاء" إلى أحد المستأجرين، والتي ختمها بقوله:" أنت تطالبني ببغض المعتزلة للشيعة، وبما بين أهل الكوفة والبصرة، وبالعداوة التي بين أسد وكندة، وبما في قلب الساكن من استثقال المسكن، وسيُعين الله عليك، والسلام"(8). (ج) والكندي كان يبغض الشيعة ويميل إلى المعتزلة، وقد كان متصلا بالخلفاء العباسيين الذين ناصروا المعتزلة، ورأيناه ينهض بما نهض المعتزلة به من ردّ على الثنوية والملحدين، ورسائله تدل على ذلك. - وإذا كان فان فلوتن ( Van Vloten) في مقدمة تحقيقه لكتاب البخلاء سنة 1900م، يرى من المحتمل أن يكون كندي البخلاء هو الفيلسوف المشهور (9)؛ فإننا نجد ناشر رسائل الكندي يقول:"إن الجاحظ يذكر الكندي الفيلسوف صراحة في الحيوان ويذكره في البخلاء مداراة(10). (د) وواضح أن الكندي الفيلسوف هو بطل حكاية الجاحظ؛ إذ أن الرسالة التي نسبها إليه تنطوي على براهين منطقية لا تصدر إلا عن شخص مفكر، ويعتبره الناس رجل فكر وصاحب حجة، وتراخ يسوق مساوئ الإسراف وحسنات البخل بحجج منطقية، وهذه صفات تنطبق على الكندي الفيلسوف(11). (هـ) وقد حاول د. جعفر آل ياسين أن يرجع موقف الجاحظ من الكندي إلى الحسد والبغضاء، واعتبر الجاحظَ أشدَّ الحاقدين عليه في كتابيه: البخلاء والحيوان. وأبو عثمان في رأيه"سليط اللسان، يُبيحُ لنفسه ما يستحيي غيرُه الإشارة إليه (...) وأقاويله يشيع في أحنائها وثناياها مزاح التهكم والحسد والغيرة، لا ترتفع في حقيقتها إلى تثبيت الصورة الواقعية لفيلسوفنا"(12). خامسا: وأعتقد أن المسألة أعمق من ذلك، فهي لا تُفسَّرُ بحسد الجاحظ وسلاطة لسانه. ولعل حقيقة الموقف تُلتمس في القضايا الفكرية التي يختلفان حولها. ويبدو أن الخلفية الأساسية لهذا الموقف هي أن الكندي شديد التأثر بالفلسفة اليونانية والاعتماد عليها، والجاحظ يقف موقفا حذراً منها (13). هوامش: (1)كتاب الحيوان: الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون:1/11 ( ط2 ). (2) البخلاء: الجاحظ، تحقيق: طه الحاجري، ص82 – ط4 [ القاهرة،دار المعارف، د.ت ] – ذخائر العرب [23]. (3) نفسه. (4) نفسه، ص153 (5) الفهرست: ابن النديم، ص357 - د.ط [ بيروت، دار المعرفة، د.ت ]. (6) زهر الآداب وثمر الألباب: الحصري، تحقيق: د. زكي مبارك، وزاد في تحقيقه وتفصيله: محمد محيي الدين عبد الحميد:3/246 – ط4 [ بيروت، دار الجيل، د.ت]. (7) عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة ((668 هـ):1/182 (8) البخلاء، ض90 (9) نفسه، ص252 (10) رسائل الكندي، تحقيق: أبو ريدة: 1/15 – 16 – ط1 [ القاهرة، دار الفكر العربي، 1950]. (11) المناحي الفلسفية عند الجاحظ: د. علي بوملحم، ص1 – ط1 [ بيروت، دار الطباعة، 1980 ]. (12) فيلسوفان رائدان: الكندي والفارابي: د. جعفر آل ياسين، ص19 - ط1 [بغداد، دار الأندلس، 1980 ]. |