البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عباس أرحيلة

تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
قضية تصميم البحث    كن أول من يقيّم

 قضية بناء البحث تنبّهَ إليها الجاحظ بهذه الطريقة. جاء في معجم الأدباء لياقوت الحموي (626 هـ): 1/13 - 14

" وقد حُكِيَ عن الجاحظ أنه صنف كتابا وبوَّبَه أبواباَ، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المُصنِّف كالمُصوِّر وإني قد صنفتُ في تصنيفي صورةً كانت لها عينان فعوَّرْتَهُما، أعمى اللهُ عينيك، وكان لهما أذنان فَصَلَّمْتَهما، صَلَّمَ اللهُ أذنيك، وكان لهما يدان فقطَعْتهما، قطع الله يديك، حتى عدَّ أعضاء الصورة، فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب عليه عن المعاودة إلى مثله ".

ولي كتاب عن الجاحظ بعنوان:( الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ) - ط1، سنة 2004م، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش - المغرب

25 - فبراير - 2008
تذكار الجاحظ
كلمة عن مكانة الجاحظ    كن أول من يقيّم

ماذا عن مكانة الجاحظ؟
عن مكانة الجاحظ يكفي أن نسوق ثلاثة أمثلة:
أولا: ذكروا أن ثابت بن قُرَّة الصابئ [ 288هـ ] قال:" ما أحسد هذه الأمة إلا على ثلاثة أنفس: أولهم: عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته، وحذره وتحفظه، ودينه وتقيته ( ...) وصرامته وشهامته (...) والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علما وتقوىً، وزهداً وورَعاً، وعِفة ورقة، وتألهاً وتنزهاً(...) والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين (... ) كتبُه رياض زاهرة، ورسائله أفنان ثمرة (...) والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تُسلِّمُ له (...) " (1).
وهناك مَن أراد الغمز في نسبه والتشكيك في أصله العربي؛  فتمسّك بالرواية التي وردت في ترجمة الجاحظ في تاريخ بغداد، والتي تقول إن جدَّه الأدنى كان أسود اللون يُقال له فزارة، وكان جَمَّالا لعمرو بن قلع؛ وهي رواية عن يموت بن المُزَرِّع المحدِّث ( ابن بنت أخت الجاحظ)، لكنها رواية لا تثبت عند الفحص؛ وإنما أُريدَ بها أن تكون مطعنا في نسب الجاحظ؛ قصد إبعاده عن أصله العربي بالتشكيك في هذا الأصل، وجَعْلِه من الأفارقة (2).
ثانيا: ما نقله ياقوت الحموي (626هـ) في معجم الأدباء من كتاب  تقريظ الجاحظ  لأبي حيان التوحيدي (414هـ) من أن أبا عثمان أحد ثلاثة " لو اجتمع الثقلان على تقريظهم  ومدحهم، ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم، مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها، لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم ". وقد ذكره  إلى جانب كل من  أبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري ( نحو 282هـ )، وأبي زيد أحمد بن سهل البلْخي (322هـ) (3).
ثالثا: نجد أن مقياس الحضارة عند ابن العميد ( أبي الفضل محمد بن الحسين 360هـ) أمران: أوَّلُهما: التفطُّن لخواص بغداد، وثانيهما: معرفة كتب الجاحظ. وكان ابن العميد " إذا طرأ عليه أحد من مُنتحلي العلم فأراد امتحانَ عقلِه سأله عن بغداد؛ فإن فَطِنَ لخواصِّها، ونبَّهَ على محاسنها، وأثنى خيراً عليها؛ جعل ذلك مقدمة فضله، وعنوان عقله، ثم سـأله عن الجاحظ، فإن وجد عنده أثرَ المُطالعة لكتبه، والاقتباس من ألفاظه، وبعض القيام بمسائله؛ قضى له بأنه غُرَّةٌ شادخة [ ظاهرة ] في أهل العلم، وإن وجدَه ذامّاً لبغداد غَفِلاً عما يجب أن يكون موسوماً به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ، لم يَنفعْه بعد ذلك شيءٌ من المحاسن" (4).  
وابن العميد هذا هو الذي جاء عنه في يتيمة الدهر" عين المشرق(...)، وأوحد العصر في الكتابة؛ يُدعى الجاحظ الأخير" (5). فقد لُقِّب بالجاحظ الثاني.
وعن تعلق الجاحظ بالكتب، أذَكِّرُ بخبريْن؛ ورد أولهما في معجم الأدباء؛ وهو قول أبي هفّان ( عبد الله بن محمد 257هـ)؛ أحد العلماء بالشعر من البصريين: " لم أر قط ولا سمعت مَن أحب الكتب والعلومَ أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع  بيده كتابٌ قط إلا استوفى قراءتَه، كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويَبيتُ فيها للنظر " (6).  
 والقول الثاني ورد في الفهرست لابن النديم ( نحو 400هـ)، " عن أبي العباس محمد بن يزيد النحوي [ المبرد 385هـ ]، قال: ما رأيتُ أحْرَص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي؛ فأمّا الجاحظ، فإنه كان إذا وقع بيده الكتاب قرأَه من أوله إلى آخره، أيّ كتاب كان" (7). 
هوامش:
(1) معجم الأدباء: 5/ 2113– 2114 . ويُقارن بما أورده أبو حيان في كتابه البصائر والذخائر: 1/190 – 191، وقال فيه: " إنك لا تجد مثلَه ، فسبحان مَن سخَّر له البيان وعلَّمَه، وسلَّم في يده قَصَب الرِّهان وقدَّمَه".
(2) تاريخ بغداد: 14/358 – 360 -  وتفصيل هذه القضية عند طه الحاجري، ص79 – 88-  يقول د. شوقي ضيف: " وهو يرجع – فيما يظهر- إلى أصل غير عربي ( الفن ومذاهبه في النثر العربي )، ص 154.
(3)  تاريخ بغداد: 1/259 .
(4) لطائف المعارف: أبو منصور الثعالبي (429هـ)، تحقيق: محمد إبراهيم سليم – ط1 [ القاهرة، دار الطلائع، 1992] ، ص129 - 130. 
(5) يتيمة الدهر: الثعالبي (429هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد:3/183 – جاء في الإمتاع والمؤانسة 1/66 أن أبا الفضل " تخيل مذهب الجاحظ وظن إنْ تبعَه لحقَه، وإن ْ تلاه أدركَه؛ فوقعَ بعيداً عن الجاحظ: 166
(6)  نفسه:5/2101
(7)   الفهرست، ص291
 

26 - مارس - 2008
تذكار الجاحظ
حال الجاحظ أثناء تأليف كتاب البغال    كن أول من يقيّم

حال الجاحظ أثناء تأليف كتاب البغال:
اعتذر الجاحظ عن عدم ضمه "كتاب البغال" إلى "كتاب الحيوان"، فقال في مقدمة "كتاب البغال":" وقد منَعَ من ذلك ما حدَثَ من الهمّ الشاغل، وعرَضَ من الزَّمانة، ومن تخاذُل الأعضاء، وما خالطَ اللسانَ من سوء التِّبيان، والعجز عن الإفصاح، ولن تجتمع هذه العِلَلُ في إنسان واحد، فيَسلَمَ معها العقلُ سلامةً تامّةً.
وإذا اجتمع على الناسخ سوءُ إفهام المُملي، مع سوء تفهُّم المُستملي، كان تركُ التكلُّف لتأليف ذلك الكتاب أسلَمَ لصاحبه من تكلّف نظمه على جمْع كل البال، واستفراغ كلِّ القُوى.
فأما [ فتور] الهمة وتشعُُّ الخواطر المانعة من صحة الفكر، واجتماع البال، فهذا ما لابد من وقوعه.
فليكُنْ منك العذر على حسب الحال، والخِيَرَة فيما صنع الله. وقد علمنا أن الخيرةَ مقرونةٌ بالكُرْه، وبالله التوفيق".
  
 [ رسائل الجاحظ ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون – دار الجيل، بيروت، ط1، 1991: 2/215].

1 - أبريل - 2008
تذكار الجاحظ
شهرة كتُب الجاحظ على امتداد التاريخ    كن أول من يقيّم

شهرة كُتُب الجاحظ على امتداد التاريخ
أسوق أمثلة ثلاثة على شهرة كُتُب الجاحظ وتَعَلُّق الناس بها:
أولهما: قول أبي هفان، حين قيل له لِمَ لا تهجُو الجاحظ، وقد ندَّدَ بك؟ فقال: " أمثلي يُخدَعُ عن عقله؟! والله لو وَضَعَ رسالةً في أرنبة أنفي لما أمست إلاَّ بالصين شُهرَةً، ولو قلتُ فيه ألف بيت لما طَنَّ منها بيت في ألف سنة " (1).
ثانيهما: ما كان من أمر أحد الأندلسيين الذي" كان إذا سمِع كلام الجاحظ تخدَّرَ وتسدَّرَ عجَباً به. وكان يقول:" قد رضيتُ في الجنة بكتب الجاحظ عوضاً عن نعيمها"!(2). فنجده يتهوّر في مبالغته حين يُفرط في تقدير كتب الجاحظ إلى درجة تجعله يقول مثل هذا الكلام!
وصاحب هذه المبالغة المُفرطة هو أبو محمد عبد الله بن حمود الزَّبيدي الأندلسي أحد علماء النحو واللغة والمبرِّزين في الشعر في القرن الرابع.
ثالثهما : ما كان من أمر ابن الإخشاذ ( أبي بكر أحمد بن علي 326هـ) حين افتقد  كتاب الجاحظ الموسوم بـالفرق بين النبي والمتنبي، فأقام مناديا بعرفات يُنادي، حيث " الناس حضور من الآفاق على اختلاف بلدانهم وتنازح أوطانهم وقبائلهم وأجناسهم، من المشرق إلى المغرب ومن مهب الشمال إلى مهب الجنوب، وهو المنظر الذي لا يُشابهه منظر:" رحم الله مَن دلَّنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبي لأبي عثمان الجاحظ على أي وجه كان"(3).
 والجاحظ، كما قال د. أمجد الطرابلسي- طيّب الله ثراه - " تمثل ثقافة عصره؛ بل ثقافات عصره، ومثَّلَها خير تمثيل في كتبه الكثيرة المتنوعة" (4).
 وشهد له الباحثون بصيرورة آثاره في الزمان  وذُيوعِها بين القراء على اختلاف مشاربهم.
وقد ورد في ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: " وكان يُقال: أربعةٌ لم يُلحَقوا ولم يُسبَقوا: أبو حنيفة في فقهه، والخليل في أدبه، والجاحظ في تأليفه، وأبو تمام في شعره"(5).
ونجد الجاحظ يفخر بنفسه في رسالة التربيع والتدوير فيقول مخاطباً أحمد بن عبد الوهاب، وهو يسخر من جهل وغبائه " وأشهد لك بعد هذا أن ستُحاسن عمْراً الجاحظَ وتُعاقلُه ثم تُطارفُه وتُطاوِلُه(6)( فهو يفوقه حسناً وعقلاً وطرافةً وطولاً ).
هوامش:
(1)      معجم الأدباء:5/2114
(2)       نفسه:4/1517
(3)       نفسه: 5/2115 ، ابن الإخشاد متكلم على مذهب المعتزلة ( ينظر: معجم المؤلفين: 1/198 ).
     (4) نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب: د. أمجد الطرابلسي، ص 133 – 134
(5) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: أبو منصورالثعالبي (429هـ)، ص170
(6) رسالة التربيع والتدوير: 3/67
____________________________
 أرحب بالأستاذ القدير عباس أرحيلة في سراة الوراق متمنيا المزيد من مشاركاته الثمينة والتي تدل على امتلاكه ناصية الأدب وطول باعه في مختلف فروع المعرفة والأدب، وتقبلوا فائق الاحترام.       زهير
 

10 - أبريل - 2008
تذكار الجاحظ
وظل الجاحظ روحاً ساريةً في العصور    كن أول من يقيّم

وظل الجاحظ روحاً ساريةً في العصور
لقد ترددت أصداء الجاحظ في النفوس والعقول على امتداد تاريخ الثقافة الإسلامية العربية. ولعل من أسباب ذلك قدرتُه على الإبداع في كل كتُبه ورسائله، فالتقت عنده كثير من الميول، وتعلقت به النفوس، وانتشرت كتبه في الآفاق. وكيف يكون حال مَن كان يُقال فيه إن طالب العلم يشرف عند ملوك الأندلس بلقاء الجاحظ ؟(1).
يقول د. طه الحاجري إن الجاحظ " ظل معروفاً - على وجه ما – في خلال العصور المختلفة، وظل مصدراً ينهل منه ويصدر عنه كثير من الأدباء، حتى في أحلك تلك العصور ظلمةً، وأبعدها عن الروح الأدبية الصحيحة، كما كان الأمر في أثناء الحكم العثماني في البلاد العربية "(2).
ولاحظ أنه منذ اتجهت الأنظار إلى إحياء الآثار العربية القديمة في النهضة العربية الحديثة، أخذ الجاحظ مكانه في هذه النهضة." فالاتجاه إلى استحياء الجاحظ بنشر بعض آثاره صدر أول ما صدر عن روح النهضة المصرية الحديثة، وحركة الإحياء الأدبي التي كانت مظهرا من مظاهرها "(3).
لقد رسم الجاحظ  بمواقفه وآثاره ملامح مثقف متميز من القرن الثالث للهجرة؛ ينفتح بصورة فعّالة وإيجابية على الثقافات الوافدة على المناخ الإسلامي العربي، وينماز بمتابعة ما يجري في الساحة الثقافية من حوله، وبالإسهام فيما يخوض فيه الناس من قضايا فكرية؛ خاصة أنه عاصر تشييد بيت الحكمة، وعاشر كثيراً من التراجمة، وتفاعل مع كثير من الثقافات الوافدة، إلى جانب شيوع مظاهر الحضارة الفارسية في المدن العباسية. وذهب د.شوقي ضيف، رحمه الله، إلى أن الجاحظ، هو الكاتب الوحيد الذي فرض نفسه على عصره والعصور التالية، خلال تاريخنا الثقافي(4).
وأثَر الجاحظ بارزٌ في ثقافة العرب عامة، ولا يختلف اثنان في حضور نزعته الإنسانية فيما بقِيَ بين أيدينا من كتبه ورسائله وأخباره.
  وقال أستاذنا د. أمجد الطرابلسي - رحمة الله تعالى عليه - إن الجاحظ " استطاع بأسلوبه الدافئ الحي الوثاب أن يجعل آثاره تنبض حياةً على مر العصور"(5).
ويرى ميشال عاصي أن الجاحظ " يختصر العبقرية العربية في الفكر والأدب والإبداع "(6).
وقال د. محمود محمد الطَّنَاحي:" وقراءة الجاحظ فوق أنها تُمتع الوجدان، تُحرِّك العقل، وتفتح أبواباً من النظر، وتستثير دفائنَ من النظر. والكاتب العظيم – فوق إمتاعه – يستخرج من قارئه أشياء تظل حبيسة، هي من صميم الموضوع الذي يُعالجُه الكاتب"(7).
ويقول أيضاً - رحمه الله تعالى- : " وقراءة الجاحظ إذا أخذت بحقها قادت إلى المكتبة العربية كلِّها، بفنونها وعلومها المختلفة؛ إذ كان الجاحظ كثيرَ الإلمام بالعلوم العربية، لا يكاد يشذ عنه منها شيء"(8).  
لقد فَرَضَ الجاحظ نفسه على العصور، وظلت مدرستُه البيانية مُشِعَّةً، حاملة لواء البيان. وظل الجاحظ نُسخةً فريدة في تاريخ الثقافة العربية، سعى المحققون أن يعثروا على ثانيةً لها، فما وقَفوا على شيء، منذ كان البحث في تراث العرب. وقد وجدوا مَن حاول أن يتشبه به أسلوباً ومنهجاً، ولكن عند المقارنة، اختفت المماثلة، فقيل:هيهات.
ويبدو أن طريقة الجاحظ في التأليف قد أصبحت راسخة في مناهج التأليف عند العرب، فهذا ابن  النديم يقول عن ابن خلاد الرامهرمزي (الحسن ين عبد الرحمن 360هـ) إنه كان " حسن التأليف مليح التصنيف يسلك طريقة الجاحظ، ويقول عن الآمدي ( الحسن بن بشر371هـ) إنه  كان " مليح التصنيف جيد التأليف متعاطي مذهب الجاحظ "(9).
وأختم هذه الكلمة بقولين: أولهما لأبي حيان التوحيدي، و ثانيهما لـلمستشرق الفرنسي: شارل بيلا .
أما قول أبي حيان في الجاحظ، فإن كلَّ عالم أو مثقف في التاريخ يتمنَّى أن يصدُق عليه، ويُقال فيه. قال أبو حيان التوحيدي: " إنّ مذهبَ الجاحظ مُدَبَّرٌ بأشياء لا تلتقي عند كلِّ إنسان، ولا تجتمِعُ في صدر كلِّ أحد: بالطبع والمنشأ والعِلم والأصول والعادة والعُمر والفراغ والعِشق [ للكتابة ] والمنافسة والبلوغ؛ وهذه مفاتح قلَّما يملكُها واحدٌ، وسواها مغالق قلَّما ينفكُّ منها واحد "(10).
أما رأي شارل بيلا، فيدعو فيه الباحثين أن يُعوِّلوا في أبحاثهم على آثار الجاحظ، ويقول لهم: " ... على جميع الباحثين أن يُعوِّلوا عليه، ويرجعوا إليه عندما يشرعون في دراسة موضوع من الموضوعات، مهما كان جنسُه وشكله، حتى قلتُ مرة إني لو دُعيتُ إلى القول في تربية النحل، أو تحديد النسل، لما استغنيتُ عن الاعتماد عليه، والإشادة بذكره، لقد فهمتهم أن ذلك الشخص الفريد والكاتب الفذ ليس إلا صديقي العزيز أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ"(11).
هوامش:
(1) معجم الأدباء: ياقوت الحموي (626 هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس – ط1[ بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993]:5/2117
  (2) الجاحظ حياته وآثاره: د. طه الحاجري – ط2 [ القاهرة، دار المعارف، 1969] ص6
(3) نفسه، ص7
(4) العصر العباسي الثاني: د. شوقي ضيف، ص 610
 (5) نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب:أمجد الطرابلسي، ص 137
 (6) مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ: د. ميشال عاصي – ط1 [ بيروت، دار العلم للملايين، 1974]، ص 5
(7) مقالات العلامة د. محمود محمد الطنَاحي  صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب: 1/260
 (8) نفسه: 1/261.
(9) الفهرست: الندين ( محمد بن أبي يعقوب، وفاته بعد 400هـ) ، تحقيق: د. يوسف علي طويل – ط1[ بيروت، دار الكتب، 1996م]، ص249
(10) الإمتاع والمؤانسة: أبو حيان التوحيدي ( علي بن محمد 414هـ)، تحقيق: أحمد أمين – أحمد الزين: 1/66.
(11) الرسالة الهزلية من أبي عثمان إلى أبي الوليد: شارل بيلا، ( ضمن: الكتاب: مجلة شهرية يصدرها اتحاد المؤلفين والكتاب العراقيين، عدد خاص بالذكرى الألفية لميلاد ابن زيدون ) العددان: 11 - 12، السنة التاسعة، تشرين الثاني– كانون الأول 1975، ص126
 
 
 
 

10 - أبريل - 2008
تذكار الجاحظ
الجاحظ (255هـ) والكندي (252هـ)    كن أول من يقيّم

الجاحظ (255 هـ)والكندي (255هـ)
 
من الغريب حقا أن يتغاضى الجاحظ عن أول فيلسوف عربي عاصره! ومن الغريب ألا يُعير أعماله الموسوعية أدنى اهتمام! مع العلم أن فكر الكندي أقرب إلى الاعتزال! والجاحظ من أهل الاعتزال! وهل الكندي في كتاب البخلاء هو الفيلسوف المعروف؟
أولا: نجد الجاحظ يؤلِّفُ كتاباً في الكندي بعنوان" فرْطُ جهْل يعقوب بن إسحاق الكندي". وهو من الكتب الضائعة للجاحظ. والعنوان يشي بتهكم الجاحظ منه وعدم ثقته بعلمه!
ثانيا: و في "كتاب الحيوان" للجاحظ وهو معرض لكل الثقافات ومجال للمعارف الطبيعية والتاريخية والطبية، قال عنه صاحبه في المقدمة:"أخَذَ من طرف الفلسفة وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة"(1). هذا الكتاب لم يلتفت فيه الجاحظ ولو بإشارة واحدة إلى مصنفات الكندي [التي أبلغها بعضهم إلى 361 رسالة، ما بقي منها مطبوعا ومترجما يبلغ 83 رسالة]. واكتفى الجاحظ بالسخرية منه سخريةً مُرَّةً، من خلال خبَر ذكره مرتيْن إمعاناً منه في الاستهزاء به:
- "وكان عند يعقوب بن الصباح الأشعتي، هِرَّانِ ضخمان، أحدهما يكوم الآخر متى أراده، من غير إكراه" [ الحيوان:3/186].
– " فخبرني صاحبنا (...) أن في منزل أبي يوسف يعقوب بن إسحاق، هِرَِيْنِ ذكريْنـ يكوم أحدهما الآخر" [الحيوان:5/316].
ثالثا: في كتاب البخلاء تحدث الجاحظ عن الكندي، مركزا على صفة البخل فيه؛ فقد  جعله غنيا يملك دُوراً للكراء، ويشترط على السكان"أن يكون له رَوْثُ الدبة، وبعَرُ الشاة ونِشوان العَلوفة، وألاَّ يُلقُوا عظْماً، ولا يُخرجوا كُساحةً، وأن يكون له نَوى التمْر، وقشور الرمان، والغَرْفة من كل قِدْرٍ تُطبَخُ للحُبلى في بيته"(2) ويربط بَذْلّ المال بالمعتقد على طريقته؛ فالبَذْلُ ابتذالٌ للنعمة، وبه يُهين الإنسان نفسّه بإكرام غيره"،:وإن من أخطاَ على نفسه، فهو أجدر أن يُخطئ على غيره، ومن أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يوجد في العين؛ كان أجدرَ أن يُخطئ في باطن دينه، وفيما يوجد من العقل"(3).
والغريب حقا أن يجعل الجاحظ الكندي بطله في أطول قصة في بخلائه، وأن يستحضر طاقته الفنية بكل مقوماتها لتحليل شخصية البخيل. وغايتُه أن يُخلِّد بخلَ الكندي في مظاهره الاجتماعية والنفسية.
          وذهب طه الحاجري إلى أن الكندي في "كتاب البخلاء" للجاحظ لا يُرادُ به الفيلسوف الشهير يعقوب بن إسحاق الكندي(4). والحق أن ما قدمه لا يثبت عند التحقيق؛ فالفيلسوف عُرِف بالبخل؛ فابن النديم في القرن الرابع قال عنه "وكان بخيلا"(5). وجاء الحصري (413 هـ) ليقرر أيضا أنه كان بخيلا (6). أما ابن أبي أصيبعة فيذكر من وصايا الكندي لولده:"والدينار محموم فإن صرفْتَه مات. والدرهم محبوس فإن أرجتَه فرَّ. والناس سََخَرَةٌ فخُذْ شيئهم واحفَظْ شيئك"(7).
فبخل الكندي ثابت في المصادر القديمة.
رابعا: ومما يؤكد أن بخيل الجاحظ هو الكندي الفيلسوف ما يلي:
(أ) تأليف الجاحظ في فرط جهل الكندي، واستهزاؤه به في "كتاب الحيوان"، مع التغاضي عن اهتماماته العلمية.
(ب) تلك الرسالة التي وجهها الكندي في "البخلاء" إلى أحد المستأجرين، والتي ختمها بقوله:" أنت تطالبني ببغض المعتزلة للشيعة، وبما بين أهل الكوفة والبصرة، وبالعداوة التي بين أسد وكندة، وبما في قلب الساكن من استثقال المسكن، وسيُعين الله عليك، والسلام"(8).
(ج) والكندي كان يبغض الشيعة ويميل إلى المعتزلة، وقد كان متصلا بالخلفاء العباسيين الذين ناصروا المعتزلة، ورأيناه ينهض بما نهض المعتزلة به من ردّ على الثنوية والملحدين، ورسائله تدل على ذلك.
- وإذا كان فان فلوتن ( Van Vloten) في مقدمة تحقيقه لكتاب البخلاء سنة 1900م، يرى من المحتمل أن يكون كندي البخلاء هو الفيلسوف المشهور (9)؛ فإننا نجد ناشر رسائل الكندي يقول:"إن الجاحظ يذكر الكندي الفيلسوف صراحة في الحيوان ويذكره في البخلاء مداراة(10).
(د) وواضح أن الكندي الفيلسوف هو بطل حكاية الجاحظ؛ إذ أن الرسالة التي نسبها إليه تنطوي على براهين منطقية لا تصدر إلا عن شخص مفكر، ويعتبره الناس رجل فكر وصاحب حجة، وتراخ يسوق مساوئ الإسراف وحسنات البخل بحجج منطقية، وهذه صفات تنطبق على الكندي الفيلسوف(11).
(هـ) وقد حاول د. جعفر آل ياسين أن يرجع موقف الجاحظ من الكندي إلى الحسد والبغضاء، واعتبر الجاحظَ أشدَّ الحاقدين عليه في كتابيه: البخلاء والحيوان. وأبو عثمان في رأيه"سليط اللسان، يُبيحُ لنفسه ما يستحيي غيرُه الإشارة إليه (...) وأقاويله يشيع في أحنائها وثناياها مزاح التهكم والحسد والغيرة، لا ترتفع في حقيقتها إلى تثبيت الصورة الواقعية لفيلسوفنا"(12).
خامسا: وأعتقد أن المسألة أعمق من ذلك، فهي لا تُفسَّرُ بحسد الجاحظ وسلاطة لسانه. ولعل حقيقة الموقف تُلتمس في القضايا الفكرية التي يختلفان حولها. ويبدو أن الخلفية الأساسية لهذا الموقف هي أن الكندي شديد التأثر بالفلسفة اليونانية والاعتماد عليها، والجاحظ يقف موقفا حذراً منها (13).
هوامش:
(1)كتاب الحيوان: الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون:1/11  ( ط2 ).
(2) البخلاء: الجاحظ، تحقيق: طه الحاجري، ص82 – ط4 [ القاهرة،دار المعارف، د.ت ] – ذخائر العرب [23].             (3) نفسه.         (4) نفسه، ص153 
(5) الفهرست: ابن النديم، ص357 - د.ط [ بيروت، دار المعرفة، د.ت ].
(6) زهر الآداب وثمر الألباب: الحصري، تحقيق: د. زكي مبارك، وزاد في تحقيقه وتفصيله: محمد محيي الدين عبد الحميد:3/246 – ط4 [ بيروت، دار الجيل، د.ت].
(7) عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة ((668 هـ):1/182
(8) البخلاء، ض90
(9) نفسه، ص252
(10) رسائل الكندي، تحقيق: أبو ريدة: 1/15 – 16 – ط1 [ القاهرة، دار الفكر العربي، 1950].
(11) المناحي الفلسفية عند الجاحظ: د. علي بوملحم، ص1 – ط1 [ بيروت، دار الطباعة، 1980 ].
(12) فيلسوفان رائدان: الكندي والفارابي: د. جعفر آل ياسين، ص19 - ط1 [بغداد، دار الأندلس، 1980 ].
         (13) ينظر: المناحي الفلسفية عند الجاحظ، ص52 - 53
 

1 - مايو - 2008
تذكار الجاحظ
الجاحظ والبديع    كن أول من يقيّم

 
الجاحظ والبديع :
 الجاحظ أول من توسَّع في مصطلح البديع، وأول مَن أشاع إطلاقَه على كل ما فيه طرافة وجدة في التعبير، ونَسَبَ المصطلح للرواة، وأنهم يسمون بديعا ما تضمن المثل أو جرى مجراه من التعبير الحسن. فهو أول من استعمل لفظة البديع في معناها اللغوي الاصطلاحي، وخص به العرب دون غيرهم من الأمم.
علَّق الجاحظ على البيت الثاني من الأبيات الثلاثة، من الطويل، التي أوردها للأشهب بن رُمَيْلة، وهو شاعر إسلامي مخضرم:
همُ ساعدُ الدهرِ الذي يُتّقى به        وما خيرُ كفٍّ لا تنوءُ بساعِدِ
قوله:"هم ساعِد الدهر"، إنما هو مثل، وهذا الذي تُسميه الرواةُ البديعَ، وقد قال الراعي:
همْ كاهِلُ الدهرِ الذي يُتّقى بهِ        ومَنكِبُهُ إن كانَ للدهرِ مَنْكِبُ  [الطويل]
وقد جاء في الحديث: " موسى الله أحدُّ، وساعدُ الله أشدُّ ".
والبديع مقصورٌ على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كلَّ لغة، وأرْبَتْ على كل لسان، والراعي كثير البديع في شعره، وبشار حسن البديع، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار" (1).
 ويُستفاد من قول الجاحظ:
- أن المراد بالبديع ما يتشكل منه جمال القول الأدبي بما يحمله من جدة وطرافة. ومفهوم البديع يدخل عنده في نسيج اللغة الشعرية إذ يشمل الاستعارة والتشبيه وغيرهما. فالقول الأدبي عنده يتشكل من: المثل، القِران، التجنيس، الطباق، الازدواج، التشبيه، الإطناب ...
– ويلاحظ أن الجاحظ أطلق لفظ البديع على طريف الاستعارة في" ساعد الدهر". وقول الجاحظ عن" ساعد الدهر" هو مثل، لا يُريد به القول السائر أو المأثور، وإنما يُريد به التمثيل والمشابهة، وما سيطلق عليه استعارة لاحقا.
ومذهب البديع يعم عنده طائفة الشعراء القدماء والمحدثين.
-  وينسب الجاحظ مصطلح البديع إلى الرواة؛ إذ لم يكن هو أول مَن أطلق هذا المصطلح.
ولاحظ د.عبد الواحد علام أن الجاحظ جعل الراعي النُّمَيري داخل دائرة الشعراء المحدثين، ووصفه بأنه" كثير البديع"، وتساءل الباحث هل أراد الجاحظ بوصفه هذا تأصيل مذهب البديع ونفي ابتداعه عن المحدثين ؟ وقال:" أغلب الظن أن هذا ما أراده الجاحظ، ولعل مما يدعم ذلك حِرصُه على أن يظل لمذهب البديع روْنقُه وبهاؤُه، ولا شيء يعمل على تحقيق ذلك إلا البعد عن التكلف"(2).
 والجاحظ وإن كان يرد البديع إلى مصادره العربية بتقريره أن البديع مقصور على العرب؛ فهولا يُنكر مشاركة الفرس لهم في المرحلة العباسية.
يقول الجاحظ:" ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد، والرسائل الفاخرة، مع البيان الحسن، كلثوم بن عمرو العتابي، وكنيته أبو عمرو، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثلَ ذلك في المولدين، كنحو منصور النَّمَرِيّ، ومسلم بن الوليد، وأشباههما، وكان العتابي يحتذي حذو بشار في البديع، ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة" (3)
وفي اختلاط الأسماء الفارسية بالعربية، تلميح إلى اشتراك العرب والفرس في وجود ظاهرة البديع.
وذكر د. شوقي ضيف أن لفظة بديع عرفت تطورا،" فقد كانت تعني عند الجاحظ الاستعارة والتشبيه، أما الجناس والطباق ومحسنات البديع الأخرى فلا نجد لها ذكراً في كتاباته، سواء في البيان أو الحيوان، ولعله من أجل ذلك كان يقول عن الراعي كثير بديع في شعره"(4). ويرى أنه من الخطأ أن يوضع بشار في جماعة المصنعين التي كان(5).
وذكر الجاحظ أنه رأى أناسا يستسقطون أشعار المولدين،" ويستسقطون مَن رواها. ولم أر ذلك قط إلاَّ في رواية للشعر غيرِ بصيرٍ بجوهر ما يرى. ولو كان له بَصَرٌ لعَرَف موضعَ الجيِّد مِمَّن كان، وفي أي زمان كان "(6).
هوامش:
(1) البيان والتبيين: الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون: 4/55 – 56 – ط4[ بيروت،دار الفكر،د.ت].
        (2) البديع المصطلح والقيمة: د. عبد الواحد علام، ص14- ط1 [ القاهرة، مكتبة الشباب،1990 1990 ].
         (3) البيان والتبيين: الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون: 1/51 –.
 (4)  الفن ومذاهبه في الشعر العربي: د. شوقي ضيف، ص117 – ط3 [ بيروت، مكتبة الأندلس، 1956].
(5) نفسه:118
   (6) - الحيوان: الجاحظ ( عمرو بن بحر 255هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام هارون : 3/130 - ط2 [ القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلي، 1965].

10 - مايو - 2008
تذكار الجاحظ
العلم عند الجاحظ ضروري كضرورة الماء    كن أول من يقيّم

العلم عند الجاحظ ضروري كالماء:
العلم عند الجاحظ أساس الوجود الإنساني على الأرض، لا تقوم حياة بدونه؛ فهو ضرورة وجود كالماء بالنسبة للكائن كالماء؛ لا يُمكن الاستغناء عنه. قال في ( كتاب الفتيا ):" والعلم وإن كان حياة العقل، كما أن العقل حياة الروح، والروح حياة البدن، فإن حُكمَه حكمُ الماء وجميع الغذاء، الذي إذا فَضَلَ عن مقدار الحاجة عاد ذلك ضرراً. وإنما يَسُوغُ الشراب، ويُستمرَأُ الطعام الأولَ فالأولَ. فكذلك العلم يجري مجراه، ويذهب مذهبه"(1).  
ولكن أي علم؟ إنه العلم الذي يستجيب لمنهج الله، وتستقيم به حركة الحياة. قال في كتابه (البرصان والعرجان والعُميان والحُولان):" وليَكُنْ أحَبُّ العلم إليك أطوَعه لله، فإن لم تَفْعَلْ فأَكْسَبُهُ للحال الجميلة "(2).
 والجاحظ يُلحّ على ضرورة التثبت في طلب الحقيقة؛ لأن العلم ينشد الحقيقة عنده لتستقيم حركة الحياة. فهو يدعو أن يكون الحق هو ضالة الإنسان، وأن يكون الصدق بغيته.
ــــــــ
(1) كتاب الفتيا:1/318 ( ضمن: رسائل الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون).
      (2) البرصان والعرجان والعُميان والحُولان، تحقيق: عبد السلام هارون، ص34 

31 - مايو - 2008
تذكار الجاحظ